أقلام حرة

فعل التأويل في النتاج الأبداعي الأدبي .. مناقشة مفتوحة .. ليست ذات نتائج محددة / هاشم عبود الموسوي

لهذا لا بد من الأشارة الى هذه المعضلة، من أجل إستكشاف وتحديد جوانب التوافقات والإختلافات بين قصدية المبدع وتأويلات المتلقي في نتاج الأديب المبدع

 

يعد التأويل أحد الوسائل التي يلجأ إليها الإنسان لبناء تصوراته عن عالمه الذي يعيش فيه، وذلك إما بهدف فهم أكثر أو بهدف إعادة إستكشاف أو إنتاج الشيء الجديد والشيء المبتدع المتسم بالأصالة والجدة

 

والتأويل في اللغة معناه الإرجاع، أوّلَ الشيء أي أرجعه، وآل إليه الشيء أي رجع إليه . إذن فكلمة (آل) تعني رجع وصار، و (أوّل) الكلام يعني فسره ... فكأن التأويل هو إرجاع للكلمة المرادة إلى أصل أبعد من المعنى الحرفي لها . أي أن التأويل إرجاع أبعد من إرجاع المفردة العادية، أو هو إرجاع ثنائي ؛ يتم إرجاع الكلمة إلى الذهن لمعرفة معناها أولاً، ثم يتم إرجاع المعنى إلى ما وراء المعنى المصطلح عليه للتوصل إلى (معنى المعنى)

ولمعرفة التأويل أكثر لا بد من التطرق إلى (التفسير) وما نقصده في هذا المجال هو البيان أو التعبير، فالتفسير لا يكون إلا لما إستعصى على الفهم، أي أن التفسير هو توضيح ما لم يمكن فهمه دون توضيح . أما عمل التأويل أصلاً فهو في النص لا في المفردة المنفصلة، فإذا كان النص مترابطاً كوحدة موضوعية لزم أن يكون التأويل مترابطاً فلا يخرج عن السياق العام للنص. كما أن للتأويل معنى أبعد من ذلك حيث يقوم بتعريف الأشياء من جديد وبكلمات أخرى: " فأن كل تأويل هو إدراك جديد ومختلف "، أي طرح معانٍ جديدة للعمل، والتأويل يتطلب (فعلاً) للقيام به حيث يتضمن ذلك كل ما يرتبط بتنفيذ هذا الفعل من أهداف وأساليب وإجراءات وغيرها من الجوانب . إن الركن الأساس للتأويلات هو مرونة التفكير، فهي إعادة البناء السريع والمناسب للمعلومات ولأنظمة المعارف ووفقاً لمعطيات الحالة، وهذه المرونة لا بد أن ترتبط بالمثابرة والبحث .

 

- لقد تمثلت التاويلية القديمة في افتراض معنى هو الحقيقة واعتبار عملية التأويل كامنة في الاحاطة بذلك المعنى وفي ذلك التطابق مع تلك الحقيقة

 

والتاويلية الحديثة تتمثل في اعتبار المعنى ليس قائما في النص وإنما قائم في الفهم

",ومن المعروف بأن الإنسان يمتازعن غيره من الحيوانات في مقدرته على الدوران حول العقبة التي يحاول تخطيها، فالحشرة قد تحاول الفرار من نافذة مغلقة بعدما تكر عليها مرة ثانية وثالثة دون أن تلجأ إلى نافذة أخرى مفتوحة بجوارها هي النافذة التي دخلت منها . أما الإنسان( فهو قادر أو ينبغي أن يكون قادراً ) على التفكير بمستوى أذكى، وميزة الإنسان هو دورانه حول العقبة التي لا يمكن تخطيها مباشرةً في إبتكاره المسألة المساعدة المناسبة عندما تستعصي عليه المسألة الأصلية وإبتكار المسألة المساعدة التي هي إحدى العمليات الذهنية الهامة، أي إبتكار مسألة جديدة ووضعها في خدمة مسألة أخرى . كما أن الإنسان يمتلك القدرة على التفكير النظري، أي أنه قادر على التخيل والحلم،في حين أن العناكب مثلاً تبعاً لخبرتها وغريزتها الحيوانية تعمل- - نسيجها، والنحل يبني خلاياه بدقة وبراعة يفتقر إليها الكثير من المهندسين، ولكن ما يميز أقل المهندسين خبرةً عن أحسن العناكب والنحل براعةً هو أن المهندس يبني الخلية ويخططها في ذهنه على نحوٍ سابق لإخراجها إلى حيز التنفيذ.

ومن المهم ألا نعتقد بأن المسائل في المجالات المختلفة (الرياضية، والفلسفية،و الفنية والأدبية، ... إلخ) منفصلة بعضها عن البعض الآخر ولا رابطة بينها وبين أي شي آخر، لذا فكثيراً ما يكون من المناسب عند إعطاء رأي أو تفسير لمسألة معينة أن نبدأ مع أنفسنا بالسؤال التالي : هل تعرف مسألة ذات صلة بمسألتك ؟ .

إن الإكتشافات العظيمة لم تظهر هكذا كيفما أتفق من دون علاقة مع إكتشافات أخرى مشابهة ومع الجو العلمي السائد حولها، فأي محاولة أو تجربة أو فعل تأويل في أي مجال يجب أن يقوم على الإستفادة من المعلومات ذات المنابع المتعددة ومن مجالات مختلفة، فالباحث العلمي الذي يُحضر لمشكلة ما يفكر بها ويجمع ويراكم المعلومات حولها بإستمرار ويبحث عن طريقة الحل المناسبة، وفي غمرة البحث والتفتيش يتـم التوصل إلى الحل المناسب أو المطلوب . وكما نفضل الإحساس عن طريق حاستين مختلفتين أو أكثر، كذلك نفضل الإقتناع عن طريق تفسيرين مختلفين لظاهرة معينة . وهذا ما نلاحظ إنعكاسه في كافة مجالات الأبداع الفني والأدبي ... فكلما إرتبط المنتوج الأدبي بعدد أكبر من المراجع المتوافقة شكلياً كان ذلك النتاج الأبداعي أكثر إبداعاً.

ومن أجل إستكشاف وتحديد جوانب التوافقات والإختلافات بين قصدية المبدع وتأويلات المتلقي في نتاج الأديب المبدع فإنني

 

أعتقد بأنه يتوجب إعتماد الإجراءات التالية لأيجاد و بناء إطار نظري يتحدد بموجبه دور فعل التأويل في النتاجات الأدبية من حيث :

 

المؤثرات الأساسية لفعل التأويل.

فعل التأويل في التيارات الأدبية

العلاقة بين الأديب وفعل التأويل.

فعل التأويل في العملية الأبداعية

فعل التأويل في النتاج الأدبي

 

العوامل المؤثرة على فعل التأويل:

يتأثر فعل التأويل بعوامل خارجية متعددة مثلما هو شأن أي ظاهرة أخرى في الحياة وهذه التأثيرات متباينة على جوانب مختلفة من العملية التأويلية :

أولاً : الزمن ؛ إن الأعمال الأبداعية،بشكل عام، تؤول تبعاً لـ ( روح ) الزمن، ليس زمن إنتاجها ولكن الزمن الذي تؤول فيه، ولذا فإن المفاهيم المستخدمة في تأويل نص أدبي كلاسيكي معين لا ينتمي إلى زمن بناءه، بل إلى الزمن المعاصر . وقد يتفق المؤولون حول الهدق المقصود من النص، أما فيما يخص الجوانب التعبيرية فيختلفون عليها بشكل كبير.

ثانياً : الثقافة ؛ وهي من الجوانب الأساسية المؤثرة على العملية التأويلية فهي (الوعاء الذي يحتوي كل ممارساتنا ونشاطاتنا اليومية) . إن الصيغ التأويلية لقطاعات المجتمع المختلفة هي ليست متطابقة، وإن المستويات الثقافية المختلفة تحدد طريقة التعامل مع النتاجات الثقافية بشكل عام كالفن والعمارة والأبداع الأدبي.

ثالثاً : التاريخ ؛ وهو مؤثر حتمي على النتاج الأدبي وتأويله ونقده مثلما هو مؤثرعلى كل الظواهرالثقافية الأخرى .

رابعاً : العامل الاجتماعي ؛ وهوعامل متداخل مع العامل السابق حيث إن التأويل النهائي للعمل هو الذي يراه مجموع الناس وليس الشخص المنفرد، وإن العُرف الإجتماعي يعطي لتأويلات معينة ديمومةً وثباتاً بعد أن تكتسب الإتفاق العام عليها.

ويمكن لي بهذا الصدد أن أسجل الملاحظات التالية :

-1 الإبتعاد الكبير في كثيرمن الحالات، بين تأويلات المتلقي عن قصدية المبدع الأدبي وهي وإن تقاربت في بعض الأحيان مع بعض فكان ذلك بالتأكيد بتأثير الثقافة والخلفية العلمية والفكرية للشخص المؤول المتخصص في مجال التوجهات النقدية .

-2- تعددية تأويلات المتلقي بتعدد وجهات النظر الى النتاج الأدبي الأبداعي، عندما يبرز الناقد مقاطعا مختارة من النص، فكل جهة توحي بفكرة ومرجع ما مختلف، وهي بعمومها تختلف عن مراجع الكاتب.

-4 يظهر من طبيعة تأويلات المتلقين أنهم يبحثون عن المتشابهات بين المراجع والخطوط العامة للنص أكثر من بحثهم عن إرتباطاته مع علوم معرفية معينة أو محاولة إدراك كوامن الأمور والبحث عن طبيعة الغموض.

-5 إن تأويلات المتلقين تنحو لأن تركز على العلاقات الكلية دون التفاصيل الجزئية التي تميز التصميم.

- 6 تميزت بعض التأويلات بإستفزازات غريبة وبعيدة عن المحتوى الفكري والوظيفي للمنتوج الأدبي وأتي ذلك ربما بفعل ثقافة الفرد المؤول، وولوج الأديب في مدارس وافدة أدبية ضمن التوجهات االمتجددة و السائدة في مجتمعات أخرى، بعيدة عن التصورات المألوفة.

-7 إن التأويلات المُتقاربة مع قصدية الكاتب المبدع جاءت من قبل نقاد الأدب ، أو المتأدبين الضليغين في الأدب، لكن التأويلات المُبتعدة جاءت من قبل أشخاص ليسوا ذوي صلة مهنية بحقل الأدب أو النقد الأدبي.

- 8 عدم قدرة المتلقي على إستيعاب أو إدراك أو محاولة فك التشابكات في العلاقات.

-1 إن مراجع المبدع لبلورة نصه الأبداعي قد تكون مُستمدة من مرجع ذو تكوين محدد ومألوف له، قد يغفله عامة الناس .

وعلى ضوء ما تقدم فإن البحث يشير إلى :

 1- بسبب محدودية التفكير لدى الإنسان وإعتماده على المدركات الحسية للطبيعة من حوله، فهو لا يستطيع أن يتوصل إلى أفكار جديدة ترتبط مع الواقع بصلة ما، إذ أن قصارى ما يستطيع الإنسان أو الفكر البشري التوصل إليه هو أن يربط بين عدة إكتشافات لمجالات مختلفة في مسألة واحدة يقدمها بتأويل وموقف جديد.

 2- لا يمكن للنظريات العلمية عامةً النقدية خاصةً أن تصل إلى حد الثبات المطلق، إذ أن ثباتها يعني تكرارها وتداولها بين النقاد وبالتالي تحولها إلى صيغ جاهزة مألوفة وهذا من شأنه أن يحقق التناقض مع مبادئها الأساسية.

 -لهذا أقترح أن يقوم بعض المتخصصين بالنقد الأدبي بوضع دراسات في:

 1- التأثيرات المكانية والزمانية على فعل التأويل في النتاج الأدبي

 2- إمكانية تطويع التأويلات الأدبية التي تعطي الأدب أبعاداً ترتقي به كفكر، والبعض تتعلق بتطوير الممارسات الأدبية وبناء قواعد ومفردات لغوية.

-3 إن تعدد الطروحات للتأويل الأدبي لها الأثر الفعال في بلورة أي نظرية نقدية خاصة تعتبر معياراً تقاس بواسطته النتاجات والأبداعات الأدبية وهذا يؤدي إلى تطور النتاج الأبداعي

 -4عدم إهمال تأثير العوامل الخارجية على جوانب مختلفة من العملية التأويلية.

 5- إعتماد المعرفة المتوفرة عن فعل التأويل في الحقول الأخرى، وأن لا تكون الإستفادة من تلك المعرفة بشكل يؤدي إلى ضياع الهوية الأدبية المتميزة لمجتمعاتنا

 6- على الناقد الأدبي العربي أن يسعى إلى توسيع مداركه وإبتعاده عن التقليد المباشر للنظريات الغربية والتوصل إلى تأويلات جديدة ذات صلة بنظريتنا الخاصة.

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2131 الجمعة  25 / 05 / 2012)

في المثقف اليوم