أقلام حرة

الأخطاء والخطايا في (الشيعة الحاكمين) .. عن صمت الماضي واعتراف الحاضر / علي السعدي

خاصة حين يخرج عن مساره في تسجيل آثار الحكّام وأعمالهم الحربية، بل وبطشهم في رعاياهم، أو حتى إ نجازاتهم التي شيّدت على أجساد الضحايا.

أكثر النكهات التاريخية وقعاً، تلك التي تعترف بأخطاء الضحية وتحدد مقدار ما ارتكب منها، فكان له أثر على مسار وطن ومصير شعب، رغم إن تلك الأخطاء قُدّمت باعتبارها مصدر فخر وموضع تباه،لمثالها من ثم والنسج على منوالها .

لكن (التاريخ أكبر الكاذبين) على مايقول العلامة المرحوم حسين محفوظ، إذ بالإمكان النظر إلى أحداثه بطرق متعددة،وتفسير تلك الأحداث حسب الأهواء والرغبات، وبالتالي ملء فصوله بما يراه كلّ طرف من زاويته الخاصة .

أيّاً يكن ماقد يورده تاريخ العراق الحديث عن مظلومية الشيعة وإشكالية علاقتهم مع الأنظمة التي توالت على حكم العراق، إلا إن من الإنصاف للتاريخ القول،أن القيادات الشيعية – الدينية والسياسية – ربما كانت سبباً إلى حدّ ليس قليلاً فيما آلت إليه أحوال العراق.

لقد ارتكبت تلك القيادات سلسلة من الأخطاء ذات طبيعة إستراتيجية،تركت نتائجها آثاراً واضحة على الجسد العراقي مجتمعاً ودولة وأرضاً، كان أول تلك الأخطاء وأكثرها وضوحاً،تمثّل في ما اعتُبر البداية الحقيقة للتاريخ العراقي الحديث – ثورة العشرين – لكن القراءة الممعنة في وقائع تلك الثورة وما تلاها من أحداث، تشير إلى أنها - الثورة  - كانت قد أطرّت نذر المآسي القادمة، فعلى الرغم من صدق مشاعر القائمين بها ونبل الدوافع التي انطلقوا في سبيل تحقيقها، إلا أنها كانت أشبه بشجرة ورد لم ينالوا منها سوى  شوكها، فيما تركوا لغيرهم ان يتمتع  بالأريج بعد، أن رفضوا العروض التي قدمت إليهم للمشاركة بالحكم.

كانت المنطقة تمور بالتحولات التي تشير بشكل واضح إنها تتعرض إلى إعادة تشكيل لابد ستنشأ عنه دول وكيانات ذات هويات خاصة، لكن أحداً من القيادات الشيعية لم يدرك حقيقة مايحصل، وكانت مجرد رؤية استراتيجية واحدة، كفيلة بكشف أن الأمور المتمومجة تلك، تتطلب دقّة في المراقبة والتزام الهدوء إنتظاراً لتبيان الصورة ومن ثم اتخاذ المواقف طبقا لمساراتها، لكن القيادات الشيعية مدفوعة بموروثها الديني وحماستها العشائرية، سلكت  طريقاً كان فيها ضرر للعراق .

كانت ثورة العشرين هي الخطأ الإستراتيجي الأول الذي دفع العراق ثمنه،ضياع أراض كان ينبغي ان تكون جزءاً من تشكّله  الجغرافي والسياسي، لا حالة من خنقه في المجالين – الجغرافي /السياسي - كما حصل لاحقا وامتدّ إلى المستقبل .

الخطأ المأساوي الثاني، تمثّل  بعدم مساندة الشيخ خزعل أميرة المحمرة في ترشّحه لحكم العراق، والإصرار من ثم على جلب ملك من الحجاز على اعتبار انه من الأسرة الهاشمية، وهو ماعنى بنتيجته تخلخل البناء في الهوية الوطنية،جاعلاً من تدخل الجوار، حالة مقبولة ومستساغة، مادامت قد وضعت لها سابقة بحجم إستيراد ملك ليحكم البلاد.

 لقد ساهمت القيادات الشيعية  - وان بشكل غير مباشر -  على ان تُفصل تلك الإمارة العربية الكعبية – نسبة الى قبيلة كعب – وتهدى  الى الشاه الإيراني جرّاء تعاونه مع بريطانيا، فيما عانى العراق من إحكام طوق الحصار البحري بعد أن تُرك الشيخ خزعل وحيداً تحت رحمة الشاه،إلى أن قُتل في إيران بطريقة غامضة، لتطوى صفحة من تاريخ كان يمكن ان تكتب بأيد عراقية، تبدلّ في سيرورة التاريخ العراقي،بل وصيرورته كذلك، لكن الأخطاء توالت بعدها، فلم تمض سنوات على قيام الدولة العراقية،حتى جوبهت بسلسلة من الهّبات العشائرية التي كانت نتيجتها إرباك الدولة الناشئة ودفع الجيش نحو واجهة القمع، الأمر الذي وضع اللبنات الأولى لظاهرة الإنقلابات العسكرية المتتالية وما تخللها وتلاها من عنف واهتزازات خطيرة، ضربت مسار التطور السياسي في العراق .

وفي حين برزت إمكانية لبلورة هوية وطنية لأول مرة أيام حكومة عبد الكريم قاسم، أنكرتها القيادات الدينية الشيعية وتصدت لها بفتاوى فقهية ساهمت الى حدّ ما في إجهاض تلك التجربة،بدلاً عن إسنادها  بالتفاف شعبي يمكنّها من إنجاز ماطرحته من إمكانات التحول، كما كانت تقتضي الرؤية الإستراتيجية لبناء العراق بهوية وطنية  كانت قيد الإنجاز.

بعد أزمنة دامية وتجارب مريرة، ارتكبت القيادات الشيعية الأخطاء ذاتها، وان بشكل متفاوت، لتفقد العراق فرصة أخرى  لسلوك مسار التطور، وبالتالي تغيير مصير كُتب عليه أن يتجرع أهواله.

لقد جاءهم الحكم على أطباق جاهزة، ولأول مرةّ يجد الشيعة أنفسهم في موقع القرار وقيادة البلد، وكان المنطق يقتضي رفع إيقاع العمل، ليجري من ثم تجاوز أزمنة التخلف وتعويض مافات  من وقت،من أجل اللحاق بركب الحضارة التي تركت العراق خلفها،حتى في بلدان أقل إمكانيات وأصغر مساحة وأضعف موارد .

لكن ماحدث كان بالضدّ مما ينبغي، فقد انهمك الشيعة في ممارسة الشعائر المتعلّقة بالمعتقدات الخاصة، بل واخترعوا مالم يكن معروفاً في الإرث الشيعي من قبل، الأمر الذي يؤدي بمحصلته الى إفقاد البلد أزمنة إضافية وهدر طاقات يمكن استثمارها في العمل والإنتاج .

المناسبات الطقوسية تلك، تستهلك طاقات كبيرة وتصرف من أجلها الكثير من الجهود، في حين يشلّ العمل في معظم مؤسسات الدولة الحيوية،وتستنفر قطاعات كبيرة من الجيش والشرطة ووسائط النقل،وتصرف أموال ليست قليلة من الموارد العامة والخاصة على السواء، في أداء شعائر لا تحسب مباشرة لصالح عمليات البناء والنهوض التي يحتاجها العراق، وفي وقت كان المواطن يشكو من تردّي الخدمات وانهيار البنى التحتية  وسوء الأداء في إدارات الدولة، يكون هو ذاته قد ساهم في صنعها، وذلك بتعمده ترك عمله والتغيّب لأيام وأسابيع تحت شعار( الذهاب الى الزيارة سيراً على الأقدام ) وهو واجب يفوق واجبه الأساسي كموظف أو مسؤول عن أداء خدمة عامة تتعلق بمصالح الناس .

وبدل ان تسهم القيادات الشيعية في جدولة تلك الشعائر ووضعها في حجمها المعقول، حاولت استغلالها والمشاركة فيها من أجل اكتساب شعبية على حساب الرؤية الإستراتيجية، وبالتالي لم يحاول أحد الإجابة عن سؤال : لماذ ا يكون لتلك الشعائر أجر وثواب، يفوق الأجر والثواب المتوقع جرّاء التفوق في  العمل الذي يسهم في  النهوض بالبلد ؟وضمن أيّ مفهوم  يمكن أن يثاب التقاعس عن الواجب والتهرّب منه ؟

قد يفهم أنها حالة سلوكية أملتها ردّات فعل على سنوات القمع والمصادرة، لكن ان يتحوّل الحكم عند الشيعة الى مجرد ممارسات طقوسية  شعائرية، من دون ظهور مايشير الى إمكانية تبدّل في المزاج العام عند الشيعة،يجعل من  تلك الطقوس  مناسبات لرفع وتيرة العمل ومنسوب التحدي الحضاري الذي يواجهه العراق، فلا غرابة ان تتحول تلك الممارسات مع كثرتها وتكرارها، الى نوع من (الخطايا) بحقّ البلد .

لكن  أمر(العقدة) عند الشيعة له حيثيات أخرى، تمثّل أولها في العداء العربي الذي ظهر جلياً في الخطاب والعمل والتوجهات.

لقد رسمت السلوكيات العربية بمجملها، خطوطاً نفسية عميقة في نفوس المكّون الشيعي في العراق، وبصورة لا يمكن محوها بسهولة، وكان أهمها تلك الإتهامات الجاهزة  التي تستحضرفي كل وقت تحت يافطة:ان جميع الشيعة هم من الموالين لإيران أو (عملاء) لها، على الرغم من آلاف الشواهد والأدلة التي تدحض تلك المقولات، إلا أن ذلك لاينفي ان الشيعة كانوا يتعرضون فعلاً الى ضغط إيراني، وكلما قطعت العملية السياسية بتركيبتها الديمقراطية في العراق أشواطاً، كلما ازداد تشابك الظروف والملابسات والضغوط ـ خاصة الإقليمية منهاـ على الأطراف السياسية العراقية.

فمنذ البداية، بدأت إيران حركة مكثفّة من أجل ترسيخ قوّة الشيعة لاعتبارات محض سياسية  لا علاقة لها بالعقيدة، وقد بحثت إنطلاقاً من ذلك، عن كلّ ما  من شأنه الحفاظ على الصبغة الطائفية التي تضمن حصصاً لجميع القوى الشيعية، كي لاتحدث مواجهة سياسية تهدد بفرط عقد المنجزات التي حققها الائتلاف الموحّد في انتخابات  2005.

الضغوط الإيرانية على القوى الشيعية أخذت منحى تصعيدياً ظهر جليّاً في عام 2009 وتصاعد بشكل ملفت مع إقتراب موعد انتخابات عام 2010، فقد أوقفت دعمها المالي للكثير من المؤسسات الإعلامية والإجتماعية التابعة لبعض القوى الشيعية، كما استمرت الحركة المكوكية والإشارات غير المباشرة،بأن إيران قد ترفع يدها عن دعم تلك الأطراف إن لم تستمع الى (نصائحها).

وبهذا وجدت القوى السياسية العراقيةـ الشيعية تحديداً ـ نفسها  أمام مفترقات مفصلية، فهي من جهة تريد استمرار العمل في مؤسساتها الإجتماعية والإعلامية لما فيها من مردود إيجابي على توسّعها في الساحة الناخبة، خاصة عندما تكون على أبواب استحقاقات قد تحدد مصيرها السياسي ومقدار ثقلها في المعادلة، وبالتالي فانحسار الدعم المالي بشكل مفاجىء من دون بدائل جاهزة، لاشك سيحدث إرباكاً في الكثير من محاور عملها الميداني، بل وقد يخرجها من مضمار المنافسة.

لكنها من جهة أخرى، ستغامر برهن مستقبلها السياسي بمعطيات ورؤية مفصّلة على مقاس الإشتراطات الإيرانية لاستئناف الدعم المالي، فتلك القوى تطمح الى زجّ نفسها في المشروع الوطني الذي يبنى من خلاله عراق مستقل وموحد غير خاضع للمساومة والضغوط من أي مصدر.

ربما كان المالكي الأقل تأثراً بالضغوط الإيرانية من هذه الجانب، فهو ليس بحاجة ماسّة الى دعم مالي كما عند غيره، إذ ان وسائله الإعلامية الرئيسة ـ شبكة الإعلام العراقي ـ ممولة من قبل الدولة، كذلك المؤسسات الإجتماعية التابعة للوزارات المختلفة التي تجير أعمالها بالمحصلة لصالح الحكومة كإنجازات، كما أن تمسّكه بمشروعه الوطني، منحه زخماً لايمكنه التراجع عنه والا أحرق صورته التي بنيت بصعوبة في المشهد العراقي، لذا كانت الحسابات جميعا تذهب الى ان على المالكي ان لايستجيب للضغوط  حتى لو انتقلت الى مستويات أكثر سخونة.

في مرحلة سابقة للانتخابات الأخيرة، رفع  المالكي من وتيرة خطابه المنتقد للطائفية وللمحاصصة، كردّ واضح على من طالبه بالعودة الى ارتداء ثوب الطائفية من جديد بناء على رؤية خاصّة مفادها (ما أنجزه الشيعة مهدد جدّياً إذا لم يتوحدوا) وخذوا العبرة من أكراد العراق، الذين توحدوا حتى على (باطلهم) فلماذا تتفرقون عن حقكم؟

ربما أتى ذلك كنوع من التهويل عززته فتاوى  التكفير وتصاعد العمليات الإرهابية بمحملوها الطائفي، لكن ذلك كان من شأنه زيادة الأوضاع سوءاً، خاصة  إذا أُخذت الطائفية مرة أخرى بالصورة التي كانت عليها، فوضع الكرد ليس مثالاً، لأن الشيعة لايبحثون عن كيان خاص، والمشروع الوطني في عراق موحّد، أكثر ضمانة من الدعاوى المهددة بتمزيق الوطن، وقد كان العمل على زرع  بذور الوحدة الوطنية بدل اقتلاعها وهي مازالت طور النمو، الحساب الأجدى في المراهنة عليه رغم صعوباته، من الحسابات الأخرى على مغرياتها .

الخلاصة : إن أكثر الأخطاء مأساوية، هو الإصرار عليها والسير على نهجها باعتباره صواباً، وإذا كانت المعارضة والثورة مدرسة (إعدادية) للفكر السياسي،فإن السلطة والحكم،هما الأكاديمية العليا التي ينبغي أن تخرّج أستاذة بارعين في فن الإدارة  وتأسيسات الفكر، لكن ماأظهرته التجربة في (الشيعة الحاكمين) إن الأخطاء مازالت تتكرر، والأدهى حين يروّج لها بكونها (مهارة وإبداعا ).  

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2134 الاثنين  28 / 05 / 2012)


في المثقف اليوم