أقلام حرة

قطارنا الجديد / محمد الحداد

كلاهما يحكي قصة سفرٍ طويل..قصة رحيلٍ واحد أقرب ما يكون لموكبٍ جنائزيٍّ حزين صوبَ غدٍ مجهول في أرضٍ أخرى من زمنٍ آخر يغفو في أحضانِ قدَرٍ مُغيّبٍ بعيد..

كلاهما يعدو دائماً فوق سكةٍ تسابقُ الحياة..لتُحصي ما تبقى فيها من أنفاسٍ أخيرة تكفي للوصولِ إلى أمامٍ لا إيابَ له..رحلة لا تعرف الرجوعَ إلا من سكةٍ مجاورة على ضفةٍ موازية...تمثلُ هي الأخرى قصة سفرٍ آخر ورحيلٍ آخر نحو أمامٍ جديد لا إياب له!هل رأيتم في حياتكم قطاراً يعودُ إلى الوراء؟ أنا عن نفسي لم أرَ ذلك من قبل..والموتُ صنوٌ لهُ في ذلك..

لكن ليس ببعيدٍ عن القطار والموت معاً..في رأسي أنا قطارٌ قديمٌ أوحد.. أتذكرهُ دائماً كلما دخلَ قطارنا الجديد نفقاً مُظلماً ولم يخرجْ منهُ إلا بشقِّ الأنفسِ كعادتهِ..هو ذاتُ القطارِ..لا أدري لِمَ يقفز إلى ذهني مرة بعد أخرى مثل كرةٍ مطاطية لا تكادُ تُلقي بنفسها الى الأرضُ حتى تعاودَ النطّ من جديد...انهُ قطارُ أجاثا كريستي الشهير في روايتها البوليسية جريمةٌ في قطار الشرق السريع..رواية لها مع الموتِ طعمٌ لا يريدُ أن يغادرني....

 في الرواية..وحدهُ سقوط الثلج الكثيف في ليلةٍ شتائيةٍ قارسة..لا غيره.. أوقف قطار كريستي القديم ذاك قبل أنْ يصلَ محطتهُ القادمة..أربعة عشرَ راكباً كان على متنِ القطار حينما حدثت الجريمة..وجدَ أحد الركابِ مقتولاً وقد غُرزتْ اثنتا عشرة طعنة في جسدهِ...طعناتٌ كانت بعدد المسافرين تماماً إذا استثنينا القتيلَ والمحقق العتيد بوارو...جريمة جماعية توزّعَ إثمها على الجميع..لكلِّ راكبٍ منهم طعنة..بعد الجريمة كان القتلة يتوسلونَ صعودَ مجهولٍ بريء سيء الحظ إلى القطار من محطةٍ قادمةٍ مفترضة لتُلصَقَ بهِ براثن جريمتهم...لكنَّ يدَّ الأقدارِ تدخلتْ وغيّرتْ حساباتِ الموتِ حينما سقطَ الثلجُ بغزارة..وسُدَّ الطريقُ أمام القطار فتوقفَ فجأة و بعثرَ أوراق القتلة وفَضحَ المجرمين..

هي قصة قديمة معروفة..لكنَّ الزمنَ تغيير..قطارُ كريستي هذا أصبح اليوم عجوزاً..تحفة من الماضي..أشياءٌ أخرى كثيرةٌ غير الزمن تغيرتْ أيضاً منذ ذلك الحين.. قطارنا الجديد ما عاد كذلك الذي مرَّ من هنا قبل قرنٍ أو يزيد..غيّرَ مسارهُ القديم..تجرأ أن يدخلَ أعمق في قلبِ الشرق..ومن أجل ذلك خلعَ عنهُ حلتهُ البالية وارتدى حلة جديدة تليقُ بموتٍ جديدٍ يختصرُ العصرَ كلهُ بجريمةٍ لا نهاية لها..شبحُ الموتِ الذي زارَ ذاتَ مرةٍ قطارَ كريستي في يومٍ بعيد أصبحَ اليومَ أحد ركّابهِ..ولن يترجّلَ منهُ حتى يُتمَّ ما جاء من أجله..موتٌ أصبح هوية قطارنا الجديد..بل اسمهُ الذي لا فكاك منه..

في قطارنا الجديد..أصبحتْ خطة الموتِ محكمة أكثر..ما عادَ القتلة سُذجاً ليتركوا أشياء تافهة صغيرة تُربكُ خططَ الموتِ وتنغصُ عليهم متعتهم..ما عاد بإمكان سقوط الثلجِ أو غيرهِ أنْ يُغيّرَ حساباتِ القتلة..ما عادوا بحاجةٍ إلى مجهولٍ مُفترض يصعدُ من محطةٍ قادمة لتلصقَ بهِ براثن الجريمة.. التسترُ وراءَ غابةٍ من التبريرِ والخجلِ وليّا مع زمنٍ كان فيهِ العيبُ وقطرةُ الحياءِ مثل عُدة عملٍ لا غنى عن حملها حتى من قِبلِ القتلةِ واللصوص والخارجين على القانون..ورقة التوتِ الباليةِ هذهِ سقطتْ منذ عهدٍ سحيق.. أسماءُ القتلةِ أو هوياتهم لم تعدْ عاراً ينبغي ستره..بل أصبحتْ مدعاة فخرٍ قوميّ أو وطنيّ أو طائفيّ..أصبح من دواعي عزة الوطنِ ورفعة شرفهِ أن تنزفَ الحياةُ موتها كلَّ يومٍ بشريانٍ لا يتوقف..و كلُّ قطرةِ دمٍ تُراق في الوطن..كلُّ شيءٍ يُستباحُ و يُنتهَب..هو باسمِ هذا الوطن ومن أجله..حتى الوطن ذاته..

مدمنو قتل

قتلة قطار كريستي مجرمون شرفاء! رغم إحكامهم خطة القتلِ بدهاءٍ ومكرٍ لكنهم قتلة طارئون..في جريمةٍ كانوا فيها إلى العدلِ أقرب منهم إلى الظلم ..فقتيلهم كان قاتلاً قديماً محترفاً استحقَ قصاصاً شاركوا كلهم في رسمهِ وتنفيذه..على النقيضِ من ذلك...فإنَّ مجرمي قطارنا الجديد مدمنو قتل.. صائدو فرصٍ مَهرة..متربصونَ بنا منذ زمنٍ طويل..حُكمُ الموتِ الصادر منهم بحقنا قديمٌ..ليس بطارئٍ أبداً..الحبكة والإثارةُ حتمتا أن يصعدوا إلى قطارنا من محطةٍ مجهولةٍ لازلنا لا نعرف لها خارطة ولا وطناً....لينفذوا فينا جريمة كاملة لا يُدان فيها أحد..ونهايتها مفتوحة مثل بدايتها..

في الرواية..وقبل وقوع الجريمة كان القطارُ ينفث دخانهُ الكثيف سائراً فوق قضبانهِ دون عوائق توقف سيره...عرفَ المُحقق بوارو المجرمين كالعادة لكنهُ أجّلَ إعلانَ الموتِ وقيّد الجريمة ضدَّ مجهول..حرصاً على سير الرحلة حتى يصلَ القطارُ محطتهُ الأخيرة..وإلاّ توقفت الرواية مع القطار قبل أوانهما في محطةٍ واحدة..لكن على الأقل..توقف نبضُ الموتِ عقِبَ انتهاء الجريمة..لكنَّها في قطارنا لا زالتْ مستمرة..ومن اليسير علينا أن نعرفَ أنَّ الموتَ فيهِ لن يتوقف أبداً..فما من بوارو آخر في قطارنا ليكشفَ لنا عن القتلة..ليكون لهُ خيار أن يُعلنَ عنهم أو يتحفظ عليهم..على الأقل حتى يصِلَ قطارنا محطة أمانٍ يبدو جلياً أنهُ لن يصلَ إليها أبداً...فمن لنا ببوارو منقذ ليفكَّ لنا لغزنا الذي لا يُفك؟

لا أحدَ يأبهُ لكلِّ ذلك...فالقتلة لن يُعلنَ عنهم أبداً..لن يُسائلهم على جريمتهم أحد لا اليوم ولا في الغد..رغم معرفتنا لهم على كثرتهم..الأسرارُ التي لم يُردْ بوارو أن يُعلنها لنا مبكراً حرصاً على أن لا تُكشف أوراق القتلة إلا في الوقتِ المناسب باتت عندنا مُعلنة منذ البداية والقتلة معروفون..نعرف أيضاً أن طعناتهم توغلتْ في أجسادنا بأثرٍ رجعيّ سبق صراخنا بزمنٍ طويل..بل سبق انطلاق قطارنا بكثير..ولازالت الطعناتُ مستمرة حتى اليوم..طعناتُ قطار كريستي غُرِزتْ بعددِ القتلةِ في جسدٍ واحد لكنها في قطارنا توزعتْ على أجسادنا جميعاً..لكلِّ واحدٍ منا طعنته..فالموتُ يعرفُ طريقهُ إلينا جيداً..يعرفُ كيف يأتينا في وقتهِ المناسب أيضاً..وهل للموتِ أوقاتٌ غير مناسبة؟

    هذا ليس قطار كريستي..ليست هذه أحداث روايةٍ قرأناها في كتاب قديم بل هو قطارٌ حقيقي نعرفُ فيهِ من بين كثيرٍ مما نعرف أنَّ مشاركة الطاعنين في حفلة دمنا المُستباح تُريد تلقيننا درساً قاسياً في الخنوع مفادهُ أن ليس من حقكم أبداً أيها القتلى الملعونون أن تكونوا شهوداً على مُهرِ أصابع قاتليكم بدمائكم...بل اعصبوا أعينكم بأيديكم كي لا ترونهم يفعلون ذلك بكم جهاراً... هي عظة باذخة.. بثمن دمنا المُراق..تُعلّمنا أنْ نلعقَ مُرَّ السكوتِ قبلَ جنيّ الثمارِ وبعده وتًلقِمنا صبراً نتجرعهُ قبلَ ينعِ الرقابِ وبعده..كي يتميز في حلبةِ سيركنا المتواصلِ أولئك القتلة الطيبون عن متفرجين كُثر سيُفضي بهم تفرجهم الطويل ذات يومٍ قريب إلى حيرةٍ سيُطحنون تحتها بين مطرقةِ ندمٍ عن كلِّ طعنةٍ ضاعَ من أيديهم شرف غرزها في أجسادنا..وبين سندانِ تفرجٍ طالَ أمدهُ أكثر مما ينبغي..هي لعبة لن ينفضَّ غبارها حتى يستأثرَ القتلة بما تجودُ لهم بها سلة ثمار رقابنا وسيُطوَحُ بأولئك المتفرجين بعيداً خارج أسوارِ اللعبةِ حتى انفضاضها...

قطارنا الجديد لن يخرجَ عن ذلك الحسابِ أبداً..لن يوقفهُ شيء ولن يجرأ على مسائلتهِ أحد..هو عودنا على ذلك...مرَّ بظروفٍ أسوأ وما توقف ولا انحرف عن مساره..ماذا ننتظرُ من قطارٍ حملَ عبرَ سفرهِ الطويل بائعي أوطان ومتعهدي فتن ومهربي ضمائر وسماسرة ذمم؟ كم أدخلوهُ في ممراتٍ مُظلمةٍ..كم ناطحوا بهِ رياحاً وتعرضوا معهُ لزلازل ونكبات..لكنهُ ظلَّ صامداً بهم يوزعُ صفيرهُ بالعدلِ بين القبائل المتصارعة و ينفث دخانهُ الأسود عاليًا بشموخ ولم يتوقف..فلا تقلقوا بشأنهِ أبداً..لن يتغيرَ أيّ شيء.. نعرفُ ذلك جيداً من رائحتهِ القادمة إلينا يختلط فيها عطرُ موتنا برائحةِ دخانهِ الآتي من بعيد..ألم أقل لكم منذ البداية أنَّ بين القطار والموت شبهٌ كبير؟لذا لا خيار لنا إلا أن ننتظرهُ لأنهُ قدرنا الذي لا مفرَّ منه حتى لو أتانا مُحمّلاً بمواتنا المنتظر..سننتظرهُ عند محطةٍ سنتمنى عليهِ أن تكونَ الأخيرة ... سنخرجُ إليهِ جميعاً ونقفُ على سكتهِ مُلوحين لهُ بأيدينا علهُ يتوقف.. سنرجوهُ بنهرِ دمنا المقدس وما أهدرَ منهُ في هذا الوطنِ وما تبقى..

لكننا بعد كل ذلك نعرفُ بيقينِ الموتى أنَّ قطارنا قطار موتٍ ما من أملٍ في إيقافهِ..ندركُ أنهُ المنتصرُ الأكبر وسيصلنا حتماً في محطةِ قصاصنا الأخير في موعدهِ المُرعبِ.....بسلام!

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2137 الخميس  31 / 05 / 2012)

 

في المثقف اليوم