أقلام حرة

مصر في النفق: بين إما أو / الطيب بيتي العلوي

"...ولقد علمنا التاريخ سهولة إستغفال الشعوب ،والمكر بثوراتها واللعب بمصائرها،عندما يتم تجميع رهوط من السياسيين المشبوهين،ليقوموا بإتقان لعب أدوارسياسية (خسيسة) على المسرح السياسي العام،مقابل وعود مستترة وحفنة من المال من أجل مشاريع مجهولة..."من كتابه في نقد الثورة الفرنسية ونظام الدولة : : L’Ancien Régime et la Révolutionالنظام القديم والثورة

مقدمة:

 

تسائل المستشرق الفرنسي الكبير"جاك بيرك"في كتابه القيم "مصروالإستعماروالثورة" تساؤلا قد يكون هوذات تساؤلات المصريين المخلصين لبلدهم في محنتهم الكبرى اليوم وهو: حين كتب قائلا"ان قدرة هذا الشعب على المحافظة على نفسه خلال آلاف السنين ،ألا تقوده إلى جعل كل ماحدث-يقصد فشل ثورة1919- ،بل كل حقيقة حتى حقيقيته،سطحا عاكسا،أي مرآة !وحينئذ ، ألا يصبح التاريخ هنا خدعة القديم الذي لا تراه الذاكرة؟؟؟

إلا ان رجل الشارع العادي البسيط يطرح اليوم –حسب ما يشاهده من فشل التنظيمات السياسية والحزبية المدعمة للثورة في "يقينية الفصل" في مسار الثورة- تساؤلات بسيطة مشروعة مثل التالي:

 

هل سيتمخض الجبل في مصر فيلد فأرا؟

وهل ستذهب ارواح الشهداء هدرا؟

وهل ستتحطم كلية آمال التسعين مليون من المصريين بين عشية وضحاها نتيجة لعبثية الثورة و"صبيانية" رموزها، وعدم كفاءة ديناصورات التحزبات الكلاسيكية من ذات العيار الثقيل؟وغياب وضوح الرؤى على كل الأطياف السياسية ؟والسقوط منذ بداية الثورة،في الشرك الغبي للحبكة التي يحبك خيوطها دهاة الإمبراطورية من داخل السفارة الأمريكية في مصر ومن عواصم عربية وغربية أخرى؟

-أو لا يملك هؤلاء المتحزبون والثوريون الجرأة على الإعتراف بحقيقة من يمسكون الخيوط  الدقيقة  للحراك الشعبي في ساحة الحرية ويكفون عن الإصطخاب بالشعارات اللامجديدة؟ ويتعرفون أولا على من هم الموجهون الحقيقيون لما يجري في الساحة؟ وإلا فلم يتفاجؤ هؤلاء كلهم في صبيحة كل يوم  بما لم يكن في الحسبان ،وكانهم يلعبون"ماتش"كرة قدم وينتظرون النتيجة؟

 

-ومن هم في حقيقية الأمرهؤلاء"الفلول؟"أهم جماعة النظام ام تجمعات الثوريين الذين اصبحوا  يشكلون ظاهرة فلول" شاردين في الساحات يسهل إقتناصهم وتفتيتهم وتشتيتهم في كل مرة ينزل العسكر او البطلجية الو الشرطة لمطاردتهم،وحتى لا يعرفون حدود ساحة الثورة ولا جغرافيتها ولا مطباتها؟وقد يتحولون غدا-لاقدر الله الى فئران فارين من بطش العسكر والشرطة وعتاة المرتزقة   الممولين معظمهم من بلدان أعاريب الجوار؟

الموضوع:

 

لقد كان ما كان من انطلاقة "الثورة"في مصر وحدث منذ البداية ما حدث من التمسرحات والتمظهرات المشبوهة لرموزسياسية خارجية وداخلية  وتحركات الجنرالات المشبوهة–في شان التلكإ في محاكمة مبارك محاكمة "ثورية"جذيرة بحجم اخطردولة على الرقعة "الجيو-سياسية"في العالم العربي بل وفي العالم اجمع-لابقتله اوإعدامه بل على "عصره" لإستخراج أسرار-يعلمها يقينا-تهدد  المنطقة والامة بأكملها،حيث لوباح ببعض منها  قبيل "إقالته" اوخلال "سجنه" اوأثناء محاكماته الهزلية  الهزلية "لقطع منه الودج " ولو ذبح من الوريد الى الوريد؟

 

اما عن الكتابات التحليلية فحدث ولاحرج،إذ اتسم معظمها بالقصوروالثغرات ،لا تفرق تحليلاتها ما بين"العاطفانيات السياسيوية المؤدلجة"و المنهج الاكاديمي في الحيادية والموضوعية والعقلانية حيث حاول الكل الركوب على الحدث، فسقطوا في التهريج والإشاذة بالثورة و"حتمية" التغيير و الفلاح  

و قلت إثرها  منذ بداية الثورة المصرية حرفيا ما يلي:

 لقد  تركزت  معظم التحليلات على كلاسيكيات  الخطابات التالية :

-اولا:الخطاب الايديولوجي الأركي العتيق،

- ثانيا:الخطاب البراغماتي المتعدد الاطراف او الاوجه

-ثالثا:الخطاب التوفيقيي و التلفيقي الزائفين:

رابعا : خطابات"الادلجة الأسيرة"

 وهي كلها عبارة عن موجة من  الخطابات المستعرة القريحة ،المستجيبة للظرفية والحالة الراهنة قصد الركوب على الحدث والإنقضاض على"الكعكعة،وهي خطابات وتحليلات لا تتناسب وحجم"الحدث"الذي لم تعرف مصر نوعيته-سوسيولوجيا- حتى في ثورة ع52 و(هذا لا يعني التنقيص من ثورة الضباط الأحرارالتي ألهمت الثورات اللاحقة ضد الإستعمارفي العالم العربي وإفريقيا وساندتها ماديا ومعنويا )وهي ذات الخطابات التي تعودت عليها الآذن المصرية والعربية منذ ما بعد "الناصرية"التي طبعت معظم خطابات ممثلي التيارات السياسية المتنوعة التي لم تطرح جديدا من شأنه زعزعة  طمأنينات الدمية مبارك وطغمته في عهده،حيث ظل مبارك يستمد من صانعيه  أكسيجينه اليومي و يتلقى منهم  التعليمت تلو التعليمات : بالوعد او الوعيد ،وكلما حاول التعالم او"التشاطر"الا ويقزم الى حجمه الطبيعي "كاجير"وتذكيره بمحتمية نهايته المخزية إن حاد عن الخطوط المرسومةله ولبدله ولشعبه، "كصبي"ذليل مدى الحياة للاسياد،ولتكون بلده الحصن حصين لمصالح الإمبراطورية الاسرائيلية القادمة

مصرام الدنيا:

شاعت الأمثال الشعبية التي تضرب عن مصر،فالمصري ابن البلد و ابن القاهرة،كثيرا ما يقول امام الظواهر المتناقََشَة في نظره :يامصريا أم الدنيا،كل ما فيك عجب...ويقول المستشرقون الذين تعرضوا للكتابة عن مصر وشعبها"بأنها ارض المتناقضات ،وذهب شيطان الشعربالعض وقال :وكم ذا بمصر من المضحكات ...  ولكنه ضحك مثل البكاء"

ومن هذه الزاوية،فلا مشاحنة في أن مصر والمصريين والعرب جمعين يقفون اليوم  أمام حدث مصري متفردفي التاريخ المصري المعاصر،وظاهرة تتجاوز كل المعطيات العتيقة للنظريات(السوسيو-سياسية)،وتقدم للباحثين الجادين-في مجالات علوم الأناسة والأنسنة والاجتماع والسياسة –نما ذج ابحاث  متميزة  بعيدا عن الإصطخابات  الإنفعالية المستجيبة  للظرفية السياسية،وحينية طلبات السوق الإعلامية الفورية،والإستهلالك السياسي والتنظيري الرخيصين،لكون الظاهرة المصرية الحالية أكثر تعقيدا من الحالة التونسية،-ولامجال للمقارنة اكاديميا ما بين البلدين - لما  يتغشى الحالة المصرية من خصوصيات الأرض والموقع ووطاة التاريخ الثقيل –كما اسلفت في مقال سابق- حيث لاتزال الحالة المصرية في بدايتها  مهما حدثت من تغيرات على السطح(والثورات الحقة لاتنتهي ما بين عشية وضحاها-) –لا كما حدث في تونس او ليبيا او المغرب- حيث أن مايحدث  يؤشرلحدوث مفاجئات مستقبلية مهما أسفرت  عنها الاحداث المفاجئة  الحالية-ولكم سنرى ونسمع من الامور عجبا في الوقت القريب-حيث ان أعين الغرب المرتعبة الشيطانية متوجهة كلها الى مصر،وأي يتحول  فوري فيها سيؤثرإيجابا أوسلباعلى المدى القريب في مايجري في المنطقة برمتها والعالم باسره،ولم تخطأ مقولة الفلاح الشعبية الفطرية عندما يتلفظ بأن "بأن مصرهي ام الدنيا"فان ارض الكناة هي بالفعل ام الأمة بالمنظور الانثروبولجي—وسيظل الغرب يعمل ليل نهار على الا يستفيق اولائك "الغلابة"الثورانيين  المصريين من رومانسياتهم وشعاراتهم "البيولوجية"و"المعدية"و"القزحية"التي يتنادون فيها فقط  ب"اكل الرغيف"والرضى بقضاء شظف العيش،والعيش الهنيئ المرير،فسيغرقهم العم سام بالقمح الامريكي حتى التخمة،وسيسربل شبابهم"الفيسبوكيين والتويتريين" بأحسن الجزاء مما فاض عن بهاليل الشباب الأمريكي وقردته، مقابل المزيد من التحامر والاستبغال ،والاستمرارفي قبول مقولة هذاءة الأيام الاخيرة لستينات النكسة القائلة:"مصر التي تغني وترقص وتحارب" الى ان حاقت بهم طامة الاكتساح العسكري الصهيوني الاقصر في التاريخ الحربي العالمي، ثم ها هو الشعب المصري اليوم"يثور" فهل ستكون مصر مثل ذلك الجبل الذي يتحرك و يفور فيتمخض فيلد فأرا؟

العضة من الزلات:

ان الجواب في ايدي الثواراذا استقرؤوا تاريخهم بالامس القريب الذي قال لنا عند إستنطاقه :بان الإنجليز بالرغم من طول باعهم في  التجسس والمناورات والابلسة والتخطيط والمؤامؤات ،فقد تفاجؤوا عندما اشتعلت نيرن الثورة في عام 1919،إذ لم يكونوا يتصورون ان في مقدورهذا الفلاح"العبيط" والوديع أن يثور،وقد لفت أنظار كبارالمستشرقين والمحللين زمنها وبعض المؤرخين البريطانيين امثال "ارنولدطوينبي" كيف كان ذلك التوجه المثير للإستغراب والإعجاب في القرى المصرية الى تنظيم نفسها بنفسها تلقائيا، وكذلك تلك الكفاية المبهرة والفائقة التي اظهرها المجاهدون في الريف  التي اتخذت المصليات والمساجد القروية الصغيرة وتكايا وزوايا الطرق الصوفيةالشعبية محل تجمعاتها وتنظيماتها وإنطلاقاتها . وتآلفت على حين بغتة في- في القاهرة  الإسماعلية وبورسعيد والأسكندرية- هيئات شبابية مثقفة و سياسية متنوعة، وعاشت متآخية بضعة أسابيع متوالية، قامت باختصاصات الدولة ووظائفها تطوعا (نقلها عنهم المقاومون الفرنسيون بباريس ابان المقاومة الفرنسية للنازية بعد الهزيمة النكراء امام هجوم هتلرالكاسح على باريس-كما أخبرني بذلك ميشيل فوكو في إحدى جلساتنا بمقهى السوربون في الثمانينات-) حيث أضاف"المستشرق"جاك بيرك":بان الإنجليز تبوغتوعندما كشف هذا الفلاح الوديع عن ميله الى الكفاح المسلح،بينما تعودوا من تجاربهم على الأرض، أن النخب والمثقفين وصغار البورجوزية-الذين وصفهم جيدا نجيب محفوظ في ثلاثيته- على مداراة الحكام وتعودهم على طاعة رؤسائهم الذين يخضعون ويتذللون للإنجليز..

ولكن..... !هاهم أولاء يشقون عصا الطاعة، ويضربون مطالبين بان يُعترف بحزب الوفد كممثل رسمي للشعب، وان يجلو المحتل وتلغى الأحكام العرفية

وأما الطامة الكبرى بالنسبة للمحتل الانجليزي، فهو عندما اجتمعت الجماهيرفي الازهر حيث ان هذا المكان يشكل في نظرغالبية الشعب–ولايزال-محورالشخصية المصرية للبلاد، حيث تآخى السلم بالقبطي واختلط الغني بالفقير وإرتفعت الاصوات كلها بهتاف واحد، حيث ان المؤرخ طوينبي وبيرك وغيرهما اشاروا الى ان مصر لم تر خلال تايخها الطويل ما رأته في تلك الأولى من ثورة 1919-وتلك كانت الثورة الحقيقية للمصريين في الأزمنة المعاصرة –

ولعله يستحسن التوقف قليلا عند ملاحظة قيمة للأستاذ "جاك بيرك"في كتابه الذي أشرت  اليه غير ما مرة ،التي ساقها بطريقته المأثورة، وهي الطريقة التي تفرد بها عن بقية شيوخ الأستشراق الكبار الفرانكوفويين امثال"لوي ماسينيون"من الذين كرسوا حياتهم للبحث في أسرار العالم العربي، وهي :طريقة الجمع ما بين الـتأريخ السياسي والإقتصادي والثقافي والديني في مركب واحد متكامل-مع ما لنا من تحفظات على مضامين  بعض إستنتاجات طروحاته-

يتحدث الاستاذ"بيرك"في الفقرة التالية التي يصف فيها أحرج اللحظات في ثورة 1919 وكانها تجيب عما يحدث اليوم ، التي أترجمها حرفيا كما يلي:

"..وفي هذه اللحظات،حيث تتجسد الآراء العظيمة جمهرة الناس،وحين تكتشف الجماهيرلنفسها تنظيما ،وحينما يصبح المزج الملتهب للعمل الإجتماعي مؤثرا في القلوب وواقعيا ،فالشعب –ذلك لانه لا يكف فجأة عن أن يكون جماهيريا ليصبح شعبا رسولا لنفسه-يثبت لنفسه وللآخرين رشدا لا حد له"  وأضيف الى ما ذطره بيرك "ان هذا الشعب المصري الفطري الطيب الذي كانوا يخيفونه عبر التاريخ وأخافه الغرب لعقود عبر نظامي السادات ومبارك قد يصبح اليوم –بقدرة الله عز وجل- مثار دهشة الجميع بحسن تبصره في ثورته الحقيقية عام1919

فقد أجمعكل من  بيرك وطوينبي زمنها ، بان ثورة 1919 لم تفشل -كما كتب الكثيرون من العرب والغربيين-فقد فتحت الأعين على المستقبل ،وأتاحت أشياءكثيرة.فقد صنعت الوحدة الوطنية –يقول بيرك- وأوجدت حياة نيابيةأوشبه نيابية،وأثارت النقد العقلاني بين الطوائف السياسية، لم تسقط في التناحرات الرخيصة –كما نشهدها اليوم- ولفتت الأنظارالخارجية والداخلية الى وحشية ونفاق المستعمر ،وهذه مكاسب ليست بالقليلة في عمر ثورة قصيرة

وكأن التاريخ يعيد نفسه اليوم  فمصر هي قاب قوسين  أوأذنى من السقوط ،فلقد سقط الثوريون والمتحزبون اليوم سقوطا واضحا بسوء تقييمهم للأوضاع المحلية والإقليمية، وإستعفال ما يحاك في الخفاء ليل نهار في السفارة الأمريكية، ويتصرف الثوار والأحزاب وكانهم اللاعبون الوحيدون في الميدان ،مع سوء التقدير للمستجدات، وعدم حسن قراءة أسوالإحتمالات ،وتلك من الخطايا الكبرى لكل مراحل الثورة منذ بداياتها-كما حذرت منذ عام- الى مفاجأة المحاكمة، وما لم يتدارك "الثوار"مراجعة أخطائهم الاستراتيجية والتاكتية بالمزيد من التكتلات والـتآلفات ما بين كل أ؟طياف المعارضة المخلصين الصادقين فالويل لمصر وللمصريين وما على الثواران يضعوا هذا السؤال نصب أعينهم  من يأتي ذلك الإطمئنان واليقين لأمثال "شفيق"الذين هم باليقين ليسوا فلولا كما يبدو بل هم يتحركون وهم يعلمون من وراء ظهورهم ... والعاقبة للمتقين

 

د. الطيبب بيتي العلوي/باحث مغربي/ باريس

 

في المثقف اليوم