أقلام حرة

القمع الفكري دوافعه وأسبابه / زكي السراجي

وعلى الرغم من أن القمع بوصفه آلة قسر وقصر وتهميش وتصفية إلا أنه غالبا ما يرتدي اقنعة كثيرة منها الطائفي ومنها العرقي ومنها الإقليمي ومنها القطري وغيرها من الاقنعة يبدأ عدها ولا ينتهي إلا أن القمع الذي مورس ضد الفكر تخطى كل هذه الاقنعة بحيث لم يستطع القمع قبال الفكر إلا أن يكشر عن أنيابه ويكشف عن وجهه الحقيقي القبيح.

فمع الفكر ليس هناك طائفة أو قومية أو دين أو... أو... إلـخ، فالفكر يتخطى اللون والهوية واللغة، فالفكر هو مشروع بحث عن الحقيقة، والحقيقة ليس لها لون أو لسان أو شعب أو قومية، ذاك أنها غاية الوجود، والبحث عنها والعمل في سبيلها هو اختيار للخلود والبقاء، فمن يكون غاية بحثه الخالد الباقي فهو عند بلوغه يصطبغ بصبغة الخلود والبقاء، وهذه الصبغة ليست مختصة بلون أو لسان أو شعب أو قومية، بل هي دين تدين به البشرية كلها جمعاء.

على الرغم من أن صفة القمع القبيحة رافقت مسيرة الاديان ووصم بها الدين نتيجة تسلط المؤسسات الدينية، إلا أن قراءة مبسطة لتاريخ الأنبياء والمرسلين والأوصياء(ع) سيكتشف القارئ هذه الخدعة التي ظل يروج لها المنتفعون والطفيليون من كلا الطرفين سواء ممن هو منتسب للمؤسسة الدينية أو ذاك الذي أنشأ مشروعه على معاداة الدين والتشنيع عليه بانحرافات المؤسسة الدينية وأفرادها، فكل من هذين الطرفين هما قطبا رحى القمع، وهما العدوان اللدودان اللذان يجتمعان على معاداة الرسالات السماوية والعمل على تصفيتها وقتل من يعتقد بها ؛ قتل شخصية وقتل شخص، فيقتلون الشخصية بالتشنيع والافتراء والكذب على أصحاب الرسالات واتباعهم، وإذا ما فشلت محاولاتهم في قتل شخصية الدعوة الإلهية، يكشرون عن أنيابهم ويخلعوا أقنعتهم الزائفة لتبدوا وجوه القمع القبيحة على حقيقتها فتتعالى الاصوات بتصفية شخص صاحب الدعوة الإلهية، قال تعالى {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(العنكبوت/24).

إن سدنة الفكر وأكثر المتعرضين للقمع بكل صنوفه وألوانه هم المبعوثون الالهيون، ومن بعدهم كل من لا يرضى أن يكون مستعبدا لغيره من الناس ويريد أن يشرع في طريق البحث عن الحقيقة بنفسه ولا يعتمد على غيره في تقرير مصيره واستعباده واستعماله جسرا يحقق من خلاله شهواته الذاتية باسم الدين وباسم الدفاع عن المقدسات. إن أصحاب الدكاكين المظلمة تحت كل المسميات الذين يواجهون الفكر بالتهديد والتخويف تارة، وتارة بالإغراء والترغيب هم أولئك الذين يشعرون بخوف شديد على مصالحهم الخاصة عند بدء فكر جديد، أو ارتفاع صوت ناقد للأفعال القبيحة التي تفعلها تلك الدكاكين مختلفة العناوين باسم الدين وباسم المصلحة العامة!!

وليس خافيا على احد قوافل شهداء الفكر الحقيقيين الذين اجتهدت السلطتين المجتمعيتين اللدودتين على التصالح فيما بينهما ووضع خلافاتهما جانبا لقمعها وتصفيتها ولمواجهة دعاة الفكر الذين يوقظون في الناس ملكة البحث والقراءة والتدبر وتحمل المسؤولية لمعرفة الحقيقة، ورفض حالة الركون إلى غيرهم ليقرر لهم مصائرهم، ولعل من الصور المؤلمة التي يعرضها القرآن الكريم هي صورة أصحاب الأخدود، قال تعالى{ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(البروج/4-9).

ولعل هنا من الضروري الالفات إلى أن تعليق جرائم أصحاب الدكاكين المظلمة وأتباعهم برقبة الأنبياء والمرسلين والأوصياء(ع) بدعوى الدفاع عن الدين ما هي إلا خدعة كبيرة، وجريمة أعظم ترتكب بحق أولئك المفكرين الافذاذ الذين عبّدوا طريق البحث عن الحقيقة بدمائهم الشريفة وصبرهم العظيم، فمن غير الإنصاف قراءة تاريخ الأنبياء مكتوبا بأيدي قتلة الأنبياء وقامعي فكرهم ورسالاتهم، وكذلك ما يفعله الناس اليوم وقديما عندما يعمدون إلى الرسالات الإلهية يقتطعون نصوصها بحسب أهوائهم ومراداتهم ليعللوا رعونتهم أو جبنهم وتخاذلهم استنادا إلى تلك النصوص المنتقاة ما هي إلا تعبير عن ذلك القمع البشع الذي لم تسلم منه حتى تلك الرسالات المقدسة التي نزلت من عليائها للإصلاح والبناء والتعمير والتقدم والتطور، وليس للقتل والقمع والعنف وإذكاء روح الصراع والتهميش والإقصاء.

كيف يستطيع أولئك تعليل مبادئ المودة والرحمة والتسامح التي بعث بها الأنبياء والمرسلون والأوصياء(ع) مع ما يشيعونه عن تاريخهم أنهم ذبحوا وقتلوا ومثلوا، ونهبوا وسلبوا؟؟؟!!! كيف تتسق رسالة الرحمة مع السلب والنهب؟! ألا ينبغي على الناس أن تنتبه إلى هذا التشويه التاريخي الخطير لسيرة أولئك البناة العظام للحياة الإنسانية ببعديها الروحي والمادي؟! ألا ينبغي أن نتساءل لماذا تفعل تلك المؤسسات هذا الفعل في التشويه مع ادعائها أنها امتداد لتلك الرسالات؟؟!!

لعل الجواب الواضح هو أن تلك المؤسسات بنيت على التحريف والتخريف ولذا فهي لا تحب بل لا يسعدها وجود قارئ متدبر متفكر لما يصدر عنها، وإذا ما وجد هكذا قارئ متفكر متدبر ناقد فمباشرة تبدأ دوائر الظلام بممارسة سياسة القمع التي تبدأ مخادعة مراوغة وإذا ما لمست من ذلك الفكر متانة وقوة هرعت إلى المواجهة المباشرة، متناسية وهي في أتون المواجهة أنها تنقض بيدها كل ما أوهمت الناس أنها تدافع عنه ومعنية به فيضحى حالها كما وصف الحق سبحانه بقوله {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}(النحل/92).

ونستشف من ذلك أن دوافع القمع للفكر هي ذاتية تكشف عن حقيقة الصراع بين (الأنا الظلمانية) والنور الإلهي الذي غايته بيان الحقيقة والتشجيع على السعي إليها للاصطباغ بصبغة الحياة الابدية، الحياة التي تستند إلى قانون المعرفة وليس إلى ترهات وخزعبلات وأمان ما أنزل الله بها من سلطان، ومن يريد أن يتعرف على عظمة الدين في تشجيع الفكر وتحفيزه على البحث والقراءة والتدبر، ليتوجه إلى قراءة الرسالات الإلهية قراءة بعيدة عن نوافذ تلك الدكاكين المظلمة التي لا تحوي في محيطها غير كائنات طفيلية أدمنت الاعتياش على دماء الكائنات الحية.

إن قارئا حرا واحدا منصفا كفيل بأن يزلزل البنية الخاوية المتهرئة لتلك الدكاكين ويكشف حقيقتها الزائفة التي بقيت تجتهد للحفاظ عليها، فهؤلاء المجتهدون أصحاب الدكاكين من كل لون وجنس هم مجتهدون في تغذية الوهم وصنع الخرافات والأساطير وجعل الناس محبوسين في كذبة كبيرة لا وجود لها إلا في اوهام صانعيها والمروجين لها مفادها (إنكم لو تركتمونا ستهلكون، ووجودنا ضمان لحياتكم وأمانكم، فلا تفكروا نحن نفكر لكم، ولا تقرؤوا فنحن فرغنا أنفسنا لنقرأ نيابة عنكم ونقرر نيابة عنكم وليس عليكم غير العمل ووضع ما تنتجون في أفواهنا وجيوبنا ليديمنا الرب أمانا لكم وحصنا للحفاظ عليكم)!!

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2148 الأثنين  11/ 06 / 2012)


في المثقف اليوم