أقلام حرة

شهادة في حق الشاعر المغربي محمد بنطلحة / شادية حامد

المتنبي

 

من حيث لا أدري، تجسد أمامي ... فارع الطول، طلق المحيا، في بذلته الزرقاء، وربطة عنقه الداكنة، بدا كمن منح الأناقة اسمها.... لم أع كيف استقرت يدي في يده تصافحه، ولا كيف وجدتني أغمغم : بنطلحة؟ بنطلحة !

وأطلق الصدر زغرودة.....
ثم انفلت المشهد : عصافير حيرى، فراشات تتراقص، خيول فوق الماء، وورود من السماء.....
لكن... وشوشات متلاحقة كالموج لا تكف تهمس
"يا شادية ! هدئي من روعك . إنه هو بأم عينيه : محمد بنطلحة  لا غيره ! "
كان هذا في يوم 18. 02. 2011 في ختام أمسية شعرية أراد لها بيت الشعر في المغرب - وبتنسيق مع هيئات ثقافية أخرى- أن تكون على هامش المعرض الدولي للكتاب في الدار البيضاء تحت عنوان : " تقاطعات ". وبالفعل هكذا كانت، تقاطعات، على الأقل بالنسبة لي
فهنالك تعرفت على وجوه وأصوات شعرية وازنة، وذات قيمة حقيقية . وهنالك أيضا اقتربت من عالَم محمد بنطلحة، الشاعر الألمعي، والإنسان النبيل .
لم أُخطئ إذن، فقبل ذلك اليوم، حين سُئلت في حوار تلفزيوني أجرته معي قبل عامين، في السويد، إحدى القنوات العربية عن شعر الحداثة العربية لم أتردد ....وذكرت اسم محمد بنطلحة كرمز من رموزها .

آنذاك، لم تكن هذه المآقي لتحلم بأن تكتحل برؤيته.
تلك كانت غبطة مؤجلة، ثم انقشعت القصيدة عن ذاتها،

وها أنذا أراه ...
لم يعد يشغلني المكان، بل كدت أسهو عن موعد طائرتي التي ستعود بي إلى أهلي وعملي في حيفا... ولم أشعر كيف مضى الوقت بنا من قاعة " تقاطعات" إلى حيث كنا مدعوين على العشاء في مطعم " لو بوتي بوسي" سبقنا إلى هناك ببضعة خطوات الصديقان الأستاذان : محمد بوجبيري ومحمد البكري. بينما فارق المسافة جعلني أتعرف على جغرافية المكان، وأبعاده، ودلالاته التاريخية والرمزية من خلال ما كان يحكيه لي عنه، وبأسلوبه الخاص، شاعر استثنائي من عيار محمد بنطلحة.


هكذا إذن عرفت منه، أن المطعم من أقدم المباني التي أنشئت في الدار البيضاء بعد إعلان الحماية (1912) . وأن اسم " بوتي بوسي" يعني " عقلة الأصبع"  كناية عن " ولد قصير للغاية " ينجح، بحيلته ودهائه، في إنقاذ أسرته من تهديد الغيلان وضائقة الجوع، وذلك مثلما تحكي إحدى الخرافات الشعبية التي كانت منتشرة في فرنسا في القرن 17، والتي قام شارل بيرو  (1628 – 1703 ) بإعادة صياغتها
عرفت أيضا أن هذا المطعم كان في ملكية السيد جون بران (Jean Brun) الذي هو –لأجل الصدفة – جد السيدة إفلين زوجة الشاعر محمد بنطلحة وأم ولديه ميادة وإياد ، والذي أنعم عليه الملك محمد الخامس حينها بوسام من الدرجة الرابعة سلمه إياه في باريس في سنة 1933. وهذا وحده يعني أن المكان مصنف على الأماكن الرفيعة التي اعتاد ارتيادها عليّة القوم وكبار الشخصيات من قبيل: ونستون تشرشل، شارل دوغول، المهدي بن بركة، ألبير كامو، إديث بياف، روني شار، وسواهم . سانت إكزوبيري، الطيار الشهير ومؤلف كتاب " الأمير الصغير" هو الآخر كان دائم التردد على هذا المكان، تشهد على هذا إحدى رسائله التي ما تزال معلقة  على الجدار هناك. 
شد انتباهي كذلك، وبصورة خاصة، أن المكان شهد في سنة 1964 إطلاق مبادرتين شعريتين رائدتين كان من ورائهما عدد من الشعراء الذين يكتبون بالفرنسية من بينهم محمد خير الدين، ومصطفى النيسابوري، ومحمد الوكيرة. يتعلق الأمر ببيان شعري تحت عنوان الشعر كله]، ومجلة شعرية لعلها الأولى من نوعها  في المغرب  تحت عنوان "مياه حية"
ليس هذا فحسب،  فبعد حوالي ثلاثة عقود أي في سنة 1996 تمت في هذا المطعم بالذات صياغة القانون الأساسي لبيت الشعر في المغرب. ومثلما يعلم الجميع فالشاعر محمد بنطلحة هو أحد مؤسسي هذا البيت.
هل هي الصدفة ؟ أم أنها شعرية المكان ؟
أنا هزمتني مشاعري...... كيف لا وقد جعلني هذا الشاعر الفذ أرى وألمس بعيني هاتين ما يؤول إليه قدَر الكائن حين تتراكم المصائر...أو بالأحرى حين تتجاور الجغرافية والتاريخ والشعر؟ 
إزاء هذا كله، ماذا عساي ؟؟؟؟
مبهورةً كنت ...أعترف !
كأنما نيزك حط بقربي . أصغي إلى مفرداته الأنيقة بشغف. أرقب ملامحه . أرصد حركاته . يَفْتُنُني وميضُ لغته السلسة . تأسرني سخريَتُه السوداء. ويحملني صوتُه الهادئ كما لو على شراع أزرق إلى أبعد ما في الكيان .....إذن كيف لا أدرك، بعد هذا كله، أن ما فاتني  قبل ذلك كثير؟ 
من يومها صار صوته عبر الهاتف رقيتي، وصار شِعره تميمتي، بل صار فردا من أفراد أُسرتي....ثمينا ً على كل عائلتي...  ثم يوما عن يوم صرت أعرف أنني أمام نمط صعب !
هكذا هو محمد بنطلحة، في حياته وفي شعره . لغة تستعصي، تركيب يثير الفضول، معجم ثر، ومتنوع، ودال : أورفيوس، شمس هيرودوت، خيول نبتون، طائر الفينيق، أنكيدو، سدوم ... رباه !!!
أي عنقاء كاسرة تحمل هذا الكائن الخارج من رحم الأسطورة إلى فضاءات الشعر الفسيحة، دون استراحة ؟ وتحط به في مرتفعات، وهاويات، ومفازات، وأودية، وأدغال ....موغلة في الواقعية وفي السحرية !
يا للفضاءات التي تنأى بها العين. ويشكو من وطأتها الأفق....
طوبى لك أيتها الحواس وأنت تستيقظين فوق ورقة تترنح بين ذراعي "شاعر الأعالي"....أو كما وصفه أدونيس في "موسيقى الحوت الأزرق" ب "شاعر الأعماق" ."
كيف بي إذن وأنا ما أزال أمشي فوق رمال مبتلة ؟؟؟
من أثمن ما أغدق علي القدر يا سادتي، أن أمشي وراء من صرت أناديه باسمه الشخصي، لا " أستاذ" ولا " دكتور" . هكذا هو : يأبى إلا أن يراهن على الجوهر، وليس على سفاسف الأمور.
هذا ما تعلمت منه، وما زلت أتعلم ....

ثم حاولت أن أعبر عما علمني في قصيدة تعمدت أن يكون عنوانها : " لآلئ إلى محمد بنطلحة ". وبما أنها قيلت في حق شاعر سامق... شاء القدر أن تلاقي أصداءاً لطيفة.... حيث كتب عنها الناقد العراقي المقتدر د. عبد الرضا علي  - المقيم في بريطانيا - مقالة نقدية تحت عنوان : "التي أدمنت قرع الباب"  أو  "قراءة في  لآلئ ".
لكن ...مهما بلغ بريق هذه اللآلئ، فهي قليلة، ولن تفيه حقه لكني حاولت من خلالها الدنو من عالمه أكثر فأكثر . وللحقيقة كلما حالفني الفرح ودنوت منه أكثر... لمست قلقا سرمديا لا ينفصل عنه، حتى في أكثر لحظاته انسجاما مع الكون . إنه في حالة دائمة من انشغال الذهن... وسواسه الكشف عن جوهر الهم الشعري..... ودَيْدَنه مقاربة الواقع ، بلغة ورؤى تستند إلى حس مرهف وموسوعية نادرة،
أوليس هو القائل: "أنا من أهرقت فوق الأرض قارورة المعنى؟" هذه العبارة بالذات، استوقفتني، وحفَّزت " ينابيع الرؤيا " لديَّ. ففي ضوئها كتبت قصيدتي: بين الألف والياء.، هل ألخص هذه القصيدة ؟ بل هل ألخص هذه الشهادة ؟
إذن عبارة واحدة تكفي :
محمد، 
أيها الشاعر الذي لا يشبه إلا نفسه
ما أنبلك !

 

....................
* شهادة قرأتها في اليوم الدراسي الذي نظمته مجموعة البحث في السيميائيات وتحليل الخطاب في جامعة الحسن الثاني عين الشق بالدار البيضاء، حول تجربة الشاعر المغربي محمد بنطلحة في مايو 2012

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2153 السبت 16/ 06 / 2012)


في المثقف اليوم