أقلام حرة

وردةٌ بيضاء على لحدِكَ .. يا أبي / أمين يونس

حيث لم تكتَحِل عيناه برؤية أبطال الإنقلاب الثاني للبعث .. مُكتَفِياً بذكريات مريرة عن إنقلابهم الفاشي الأول في 1963 . أرى من واجبي أن ألقي بعض الضوء، على محطاتٍ من حياة أبي .. في مُناسبة (عيد الأب) الذي يُصادِف هذه الأيام . كانَ يملكُ دكاناً في بغداد الجديدة، خلف " جامع السامرائي " تماماً .. وكانَ يأخذني معه الى الدُكان في السنوات الاخيرة، حيث أساعده .. ولقد بقيتُ اُدير المحل وحدي بعد وفاته، الى أن بعناه بعد سنتَين .. بعدَ أن " بهدلتُ أحواله " .. لِقلة خبرتي ودوامي في المدرسة ! .

ابي من مواليد مدينة العمادية في مُقتَبَل القرن الماضي .. درسَ في الكتاتيب ومن ثم في المدرسة لغاية الصف الخامس الابتدائي .. وكان يُجيد القراءة والكتابة " ولم يكن ذلك شيئاً شائعاً قبل تسعين سنة في تلك المنطقة الجبلية النائية " . منذ شبابه، كان دكانه في سوق العمادية، مُلتقى القرويين والفلاحين .. الذين توثقتْ علاقته بهم .. وكثيراً ما كان يكتب لهم (عرائض) وتظلمات للسلطات الملكية .. ضد جَور الإقطاعيين وتعسفهم .. ويدلهم على الطرق الصحيحة لِنَيل حقوقهم المُستلبة .. فسرعان ما ساءت علاقته .. بالإقطاعيين في المنطقة .

بعد مُنتصف الثلاثينيات .. إنتمى الى حزب " هيوا " أي " الأمل " .. وأُعتُقِلَ في 1939 وحُكمَ عليهِ لمدة سنة . إستمرَ في تعاطفهِ مع قضايا الفلاحين طيلة الأربعينيات والخمسينيات .. ولم يكن مُنتمياً الى أي حزبٍ حسبَ معلوماتي بعد حَل حزب هيوا.. لكنه كانَ مُنحازاً بوضوح الى جبهة اليسار في الإستقطاب الذي جرى في العمادية، بين مؤيدي الحزب الديمقراطي الكردستاني من جهة ومؤيدي الحزب الشيوعي العراقي من جهةٍ اُخرى في 1959 بعد حركة الشواف في الموصل .. فبعدَ إشتراك جماهير الحزبَين معاً في دَحر المتآمرين في الموصل، والدفاع عن الجمهورية الوليدة ... حصلَ إنقسامٌ بين الطرفَين .. فحدثتْ ما سُميَ " معركة السوق " في العمادية .. بين مؤيدي الطرفَين، وجُرِحَ العشرات فيها .. وكان من نتائجها [نَفي] بعض مَنْ اُعتُبِروا من النُشطاء .. الى مناطق في الوسط والجنوب .. وفرض الإقامة الجبرية عليهم لمدة سنة .. وكان أبي من بينهم .. حيث نُفيَ الى ناحية كنعان في بعقوبة .. وإصطحبني معه وجزءاً من عائلتنا . بعد إنتهاء مُدة نفيهِ .. لم يستطع العودة الى العمادية .. لأنه كانَ مُلاحَقاً من إقطاعيي المنطقة .. فإستقرينا في بغداد منذ ذلك الوقت ... وحتى في بغداد أتذكر وانا طفل .. اننا إنتقلنا في إحدى السنوات الاولى للستينيات .. بين ثلاث بيوت مؤجرة .. في شهرٍ واحد .. هرباً من الإخباريات الكيدية التي كان يقوم بها إقطاعيوا ورجعيوا العمادية من خلال الاجهزة الامنية . عموماً .. نتيجة الضغوطات المُختلفة وتراكم المشاكل الصحية .. توفى أبي في آذار 1968 ولم يكمل الستين من عمره .. ودُفنَ في مقبرة مجاورة لمرقد عبد القادر الكيلاني في بغداد . أبي دخلَ السجن لأسباب سياسية نهاية الثلاثينيات .. ولوحِقَ وحورِبَ لسنين طويلة في العهدَين الملكي والجمهوري .. لأنه كانَ مُصطفاً على طول الخط .. مع الفلاحين المُضطهَدين وقضاياهم العادلة والفقراء والمهمشين .

 

..................................

باقة وردٍ بيضاء عطرة كبيرة .. اُقدمها لك ياأبي .. في [عيد الأب] .

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2157 الاربعاء 20/ 06 / 2012)

في المثقف اليوم