أقلام حرة

المتقاعد .. بمفهوم العراقيين! / قاسم حسين صالح

لكنها حقيقة واقعة في المجتمعات المتقدمة لأنه  يتحرر فيها من ضغوط العمل ومتاعبه الاسرية ويتفرغ لاشباع اهتماماته (سياحة، حضور مؤتمرات، حفلات، كتابة، رياضة..) وكل ما يريح النفس بعد رحلة متعبة امتدت ستين عاما في دولة توفر له كل ما يحتاجه. اما عندنا فما ان يصل احدنا الخامسة والستين ويحال الى التقاعد حتى نكون قد رسمنا له صورة القاعد على الكرسي امام بيته، والجالس في المقهى يلعب الطاولة والدومينو. والأقسى اننا نثير فيه مشاعر اليأس توحي له نفسيا بأنه بلغ المحطة الاخيرة، وان انتظاره الموت مسألة وقت ليس الا! ومع قلّة راتبه فأن الكفخة النفسية الاقوى التي نسددها له هي انه يفهم منا ان التقاعد يعني: مت وانت قاعد!.
وبخلاف العالم المتمدن الذي يعمل على اطالة عمر الانسان، ويشيع لدى من يعبر الستين انه دخل العمر الذي تتحقق فيه الامال المؤجلة، فاننا نعمل نفسيا ليس فقط على تسريع الشيخوخة بل واستعجال الموت لمن بلغ الستين. وفيما اكتشفت فرنسا انزيما يجعل الشيخوخة تبدأ بالثمانين! فأننا نهيئ المتقاعد لأن يموت قبل اوانه رغم ان معظم العراقيين عاشوا مثل عمر المدعو (جبر)، وهو مثل لحكاية عن عراقي دعاه صديقه الانكليزي لزيارة لندن.. وحين تمشيا في مقبرة اعمار المتوفين فيها دون العشرين سنة، استوضحه جبر عن سر ذلك فأجابه: بأن هذه السنوات لا تعني العمر الحقيقي للمتوفي بل فقط تلك التي استمتع بها في حياته. فضحك جبر ساخرا من حياته وقال: حين اموت انا ليكتبوا على قبري: جبر .. من بطن امه الى القبر!.
ان مجتمعنا متخم بالخرافات ومنها خرافة ان من يبلغ الستين يكون من الميتين فيما الحقيقة السيكولوجية تقول ان الشيخوخة يمكن ان تكون سعيدة لصاحبها اذا ظل يعمل بنشاطات لها معنى عنده حتى لو تخطى الثمانين. فالفنان بيكاسو ظل يعجن الطين وينحت وينتج اكثر من الفنانين الشباب الى ان توفي في الواحدة والتسعين. وفرويد ظل يكتب بابداع ونشاط وانتج (موسى والتوحيد) وهو في الثالثة والثمانين، ورائد جراحة القلب مايكل دبغي يظل يجري عمليات جراحية دقيقة وهو في الخامسة والتسعين. والاخرون المبدعون في تاريخنا العربي والكردي والاسلامي تعرفونهم اكثر مني.
ومفارقة اخرى اننا نحيل الاستاذ الجامعي على التقاعد وهو في الستين، مع انه يكون في هذا العمر قد وصل قمة نضجه العقلي واوج عطائه الفكري. ولقد كنا اقترحنا على السيد وزير التعليم العالي الاسبق (سامي المظفر) ان لا يحال الاستاذ الجامعي على التقاعد الا اذا هو طلب ذلك وان نستبدل مفردة (الاستاذ المتقاعد) بالاستاذ القدوة او استاذ الشرف، وان يبقى على اتصال بقسمه العلمي في التدريس والاشراف والاستئناس بالرأي.. وهذا ما نأمله من وزارة التعليم العالي ومؤسسات الدولة الاخرى.. لنغير مفهوم العراقيين عن المتقاعدين، ونحرر المتقاعد من سيكولوجيا (التقاعد  يعني مت وانت قاعد) الى .. حان الوقت لتستمتع بحياتك وتحقق امالك المؤجلة.



 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2164 الاربعاء 27/ 06 / 2012)

في المثقف اليوم