أقلام حرة

تحت سنابك خيل الملتحين / زكي السراجي

بل وتنوء بنفسها من حمل تشابك اللحى والشوارب على مهدها العليل، وهناك قوم قرروا التخلص من شعر اللحى والشوارب على مذبح بخورها، ليقام طقس جديد على هذا الوليد الذي ولد من أبوين مجهولين، وعلى ارض غريبة وهاهو يتصفح وجوها من المحتفلين لا يعرفها ولم يألفها، إلا اللهم ربما سمع عن أخبارها وهو في رحم أمه المجهولة عندما كانت تقرأ لشهريارها المزعوم حكايات ألف ليلة وليلة!!

علة جديدة في جسد هذا الوليد الغريب كثير العلل غير مأمون الزلل اسمها (الثقة)، بعد أن أنهى هذا الوليد (كورسا) من الحقن المنوعة ليستطب من علة مرض المحاصصة، وينتقل إلى حاضنة المشاركة، والتوافق، و....، و....، دخل اليوم في (كومة) جديدة اسمها الثقة، وهي تعيش كالحبل المطاط المشدود إلى لحى تسبح بالفضاء!!

لعل كوندليزا رايز كانت ماهرة في التصريح عن المنتوج الجديد لمطبخ السياسة الامريكية وهو (الفوضى الخلاقة)، وكانت بارعة في اختيار المكان والزمان، فالمكان هو ارض السواد ذلك الفضاء المعرفي الذي نامت هويته الثقافية، بل ماتت موتا سريريا جراء لسعات الدبور صاحب الأخلاط والأعراق المتعددة، والأمزجة المتنوعة، وكان الزمان هو ولادة الديمقراطية في هذا الفضاء الميت، فلاشك في أن ولادة كهذه في فضاء ميت تبعث على الحزن ولا تبعث على السرور، إذ لا سرور وأهل السواد يلقون النظرة الأخيرة على فضائهم المعرفي الراحل.

ليس هناك من سبيل لتزييف السرور بتلك الولادة الغريبة غير هذه المأدبة الامريكية المسماة (الفوضى الخلاقة) وليس هناك من (كرسون) ماهر يقدمها أمهر من كوندي، وفي وقتها المناسب في زمن مفصلي بين ولادة من خاصرة البيت الابيض على ارض السواد وفي زمن تشييع كل الموروث المعرفي لأرض مازال أهلها يرددون نشيدا قديما لم تستطع الفوضى الخلاقة سرقته ألا وهو : أن من هذه الأرض انطلق نور المعرفة إلى مشارق الأرض ومغاربها!!!

صار اليوم عمر هذا الوليد تسع سنين كلها عجاف، وفتح عينيه على سنابلها اليابسات، ولم ير في منامه لا بقرات سمان يرضعنه، ولا سنابل خضر مثقلات، هذا الوليد الذي بات يستشعر ثقل بدنه على هذه الأرض يرى أن يديه كلما امتدتا إلى رقعة من رقاعه حولت حلوه إلى مالح، واستحال أخضره المتبقي يابسا، ولعل هذه الحال يكون سببها كثرة العقاقير التي تعاطاها حتى يتمدد بظله الثقيل على ارض السواد، والطريف في الموضوع أن كل المتصارعين على ركوب ظهر هذا الوليد لا يشككون بخواء ظهره وبلاء تمدده على هذه الأرض الطيبة المظلومة، بل يتسابّون فيما بينهم جهارا نهارا، ويبصق بعضهم في وجوه بعض، لأنه لا توجد (ثقة) في أن من يتركوه يركب على ظهر الوليد سيلهو زمنا ثم يترك مكانه للذي بعده!

المهم نعود إلى المرض الجديد الذي أصيب به الوليد وهو مرض سحب (الثقة) التي انتقلت من ساحة المبادئ الأخلاقية الكريمة التي كانت فيها دواء وشفاء للنفوس العليلة، لتجد نفسها تحت غمامة سوداء اسمها الديمقراطية تتحول فيها إلى حبل يطول بالمط، ويقصر إذا تركه المتبارون للاستراحة، لاشك في أن المتبارين على سحب الثقة كل منهم يراهن على مهاراته في السحب ولياقته البدنية ورصيده البنوكي المتعدد الاتجاهات، النتيجة أن الثقة في نهاية المطاف تعاني حالات سحب متكررة صارت معها غير قادرة على العودة إلى وضعها الطبيعي، وكذلك صارت لا تعرف نفسها وقد عانت كل هذا المط في الزمان والمكان وعدد المتبارين!!

أدهشتني مفردة لأحد المتبارين وهو يذهب إلى الطرف المقابل ليحاول إيجاد حل لهذه اللعبة المملة (مط الحبل) فيفلح في الاتفاق ويترك هو وربعه الحبل لتضع لعبة مط الحبل أوزارها أخيرا بعد لقاء (حميم) بين المتبارين، والمفردة التي أدهشتني هي وصفه للقاء بـ(الحميمية) وخشيت أن يتلقف هذه المفردة مترجم مبتدئ فيترجمها إلى الطرف الآخر بطريقة توهم سامع ذاك الطرف بأن اللقاء كان عاطفيا شبيها لما يحصل بين (الحميمين) عند أهل الطرف الآخر فيجعل هذا المترجم من أهل السواد مزحة جديدة في أفواه أولئك!!

فلا أدري ماذا دهى أهل السواد فتركوا الحياء وصاروا يستعيرون اوصاف لها معان أخرى في قاموس الديمقراطيين الأصل أصحاب الوليد (الشرعيين) ليصفوا بها لقاءاتهم على ظهر الديمقراطية؟؟!! المهم ليس التصريح بقدر ما هو الحال المؤسف الذي تعيشه ارض السواد في أيامها الحالكة السواد، فهي أخذت وصف السواد لكثرة خيراتها وغطائها النباتي الممتد على طول نهريها المعطائين سابقا، لنرى اليوم الوصف نفسه باق للموصوف ولكن دلالته انزاحت إلى معنى آخر، فصارت ارض أحزان وآلام ومآسي وكوارث، ارض تسلط عليها قوم لسانهم لسان اهلها وقلوبهم منكرة لتاريخها، وإلا لو كان لدى هؤلاء المتهارشين على ظهر الديمقراطية يحترمون شيئا من تاريخ ارض السواد لما فعلوا بها ما فعلوا ويفعلون اليوم.

أخيرا وضع المتبارون حبل الثقة، ولكن بعد ما سحبوه إلى درجة ضاعت مع السحب هويته، وطرحوه على ارض السواد ليعاني كما تعاني هي من فقدان الهوية، حيث صيره ساسة اليوم من مبدأ أخلاقي يفخر من يتصف به إلى لعبة ممجوجة ومملة، ذكرها يدعو إلى السخرية، ولعل حبل الثقة الآن في ايدي رسامي الكاريكاتير يبدعون في لفه وتكويره وغزله ليخرجوا للقارئ بطرف اسمها (سحب الثقة)!!

ولسنا ندري نحن الذين كتب علينا قدرنا أن نعيش على هذه الأرض الكريمة، ونعم القدر هو، لا ندري متى ينتبه هؤلاء اللاعبون إلى حالهم المزري والمؤسف، ولعلنا لا نعتب على من لبس السياسة بقبوطها الغربي واتخذها شعارا ودثارا، ولكن العتب على من دبغ لحيته وتزيا بثوب الدين ليدخل ساحة اللعب مع هؤلاء فيعطي صورة مؤلمة للرائي، بل ولعلها انتكاسة حقيقية أن ترى أولئك الذي يطيلون اللحى باسم الدين هم طرف من أطراف لعبة جر الحبل بين السحب والتهدئة ليصل الحال بعد زمن من سحب لحبل الثقة ضاعت به هوية الثقة وتاهت عن فضائها القيمي لتجد نفسها حبلا مرذولا ملقى على حائط مولانا وسماحتكم وسيادتكم ومعاليكم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أما آن للناس أن تستيقظ من رقدة الغافلين التي تهوي بهم في مكان سحيق وينتبهوا إلى أين هم ذاهبون، ولماذا؟؟!! في دولة الامويين لا يعتب التاريخ على معاوية وما فعل من مصائب وجرائم لأنها كلها معللة من أجل الحكم، وهو اختار أن يبيع آخرته بدنياه، ولكن العجب كل العجب من الأمة التي باعت دينها من أجل دنيا الأمويين والعباسيين في ذاك الزمان وفي هذا الزمان، فالواقع هو هو وإن تغيرت شخوصه، وإن تبدلت ملابسهم واستبدلوا الحمار بالهمر، والبغل بالجمرة والفرس بصولة .... فضاعت الثقة تحت سنابك خيل الملتحين!!!

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2174 السبت 07/ 07 / 2012)


في المثقف اليوم