أقلام حرة

تأثيرات هندو-بوذية في الفلسفة الصوفية – القسم السادس / خالد جواد شبيل

رواها الروائي الراحل نجيب محفوظ عدة مرات، بقيت راسخة في ذهنه الوقاد حتى أراذل العمر أسوق فحواها من الذاكرة لا نصها، يقول: عندما تقدمت لدراسة الفلسفة الى الجامعة، كانت لجنة المقابلة برئاسة طه حسين، وإذ دخلت سألني عميد الأدب العربي سؤالا من كلمتين: ماالفلسفة؟ فحاولت أن أقول هي محاولة فهم الحياة والإجابة على ما تطرحه من أسئلة وتفسيرها عن طريق العقل والمنطق ...والحكمة واستغرقت في الشرح حتى استوقفني معلقا: أنت تصلح للفلسفة لأنك تكلمت كلاما غامضا! انتهت رواية محفوظ. أروي هذا للمعلقين والمراسلين  من القراء الكرام الذين قالوا في ما كتبت كلما طيبا لكوني استطعت أن أقول شيئا مفهوما بميدان طالما كان غير مفهوم أو صعب الغور فيه للكثيرين، ولعلني أجد تفسيرا الى إقبال القراء على حلقات المادة النقدية التي كتبتها في موضوع شعر الغزل وإعراضهم نسبيا عن هذه المادة التي نحن بصددها فالناس تحب الغزل وتطرب له وتعزف عن الفلسفة، والحقيقة أنني ابتعدت عن اللغة الفلسفية -التي لا أجيدها- ما استطعت الى ذلك سبيلا وعذيري أن موضوعي ليس فلسفيا صرفا، هو عرض ونقد لكتاب مادته هي ما عرضتُ مفاصلها في الحلقة الأولى...فإلى مادة اليوم، الحلول والإتحاد ووحدة الوجود وجذورها.

الحلول والإتحاد ووحدة الوجود: تشكل هذه المفاهيم الثلاثة منظومة عقدية واحدة الجوهر بل هي مترادفات لجوهر واحد يتمظهر بثلاث مظاهر، وهي قديمة جدا في الديانات الهنديةالتي وجدت أن روح الإله براماتماBaramatma قد حلت بروح الكائنات بدرجات متفاوتة ووجدت أن جميع الظواهر الطبيعية تكمن وراءه الأرواح مما جعلت لكل ظاهرة روحا جسدت بإله، وهكذا تعددت الآلهه وتدرجت في أهميها وقدسيتها واختصاصاتها وأكبر الآلهة طرا في الهندوسية هو براهما ولذلك تدعى البراهمية، فالإله الاعلى هو المصدر الأول للأرواح، تماما كالمبدأ العلمي أن الشمس هي المصدر الرئيس والأعلى للطاقة وإن اختلفت اشكالها ومصادرها ضوئية وحرارية وكهربائية... وبهذا فإن الروح في الهندوسية أبدية خالدة تنتقل من كائن الى كائن في تناسخ معلوم أواكامانAwakaman(من السنسكريتية) تماما كما تتحول الطاقة من شكل الى آخر لكنها لا تفنى. في حين أن البوذية تؤمن بتداول الذات لكنها تنكر أبديتها يسمى هذا المبدأ بلا أبدية الذات  Anatta   أي ان الروح قابلة أن تعدم وتخرج عن دورة الحياة او الموت أي التناسخ Samsara الى حالة الفناء التام نيرفانا     Nirvana   حيث لا حياة ولا موت. لكن يبقى المشترك الأهم هو أن التناسخ يخضع في العقيدتين الى قانون الجزاءkarma المشترك والذي يقول أن انتقال الروح يكون حسب عملها تعاقب أو تثاب، كما ذكرنا ذلك في حلقات سابقة. ولا بد أن أستدرك هنا على الباحث الدكتور عبد الله مصطفى نومسوك أن التناسخ لم يقتصر على الديانات الآسيوية بل هو موجود في الديانات البدائية في بلاد الأسكيمو وبعض أفريقيا السوداء Sub-Sahara وهو موجود لدى العلويين و لدى الدروز في بلاد الشام،ولا يوجد عند أية فرقة شيعية إمامية أيا كان عدد أئمتها! بل هو موجود حتى في المجتمعات الغربية الحديثة مثل حركة العصر الجديد وهي حركة روحانية حديثة بدأت في الظهور في النصف الثاني من القرن العشرين، بعد الحرب العالمية الثانية متبنية لبعض المباديء علم النفس والباراسيكولوجي ومباديء الطب البديل وتؤمن بترابط الروح والجسد كما تؤمن بوحدة الوجود وهي تضم خليطا من الملحدين وغير الدينيين والموحدين بقيت محدودة العدد.(ابحث عنNew age movement في أكثر من محرك.وعن التناسخ ابحث عنReincarnation أوMetempsychosis )  .

وفكرة وحدة الوجودPantheism قديمة هي الأخرى وأصلها من الهند والصين جذورها في الهندوسية والتاوية وانتقلت الى الفلاسفة الإغريق وقد اقتبسها محي الدين ين عربي ت638 ،كما أشار الى ذلك أبو الريحان البيروني في كتابه (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة أو في العقل مرذولة ص27) هو" أن االبراهمة عن طريق التأمل والإعتبار تجعلهم يقربون من الله حتى أن الله بذاته يحضر في قلوبهم وضمائرهم فتتوق النفس الى الإتحاد به. فيحصل الإتحاد و، وتذهب الإثنينية والبينية ويستحيل الذاكر والمذكور شيئا واحدا". بينما أن الفناء في البوذية نرفانا فهو أبدي وتام ومطلق  الى العدم حيث لا يبقى وجود أو بقايا من وجود ذات الفاني أي لا حلول ولا اتحاد كما هو عند المتصوفة، لكن الطريق لدى الإثنين  هو الزهد والرياضة الروحية وممارسة الطقوس التي يعمد اليها الرهبان والمتصوفة. بيد أن الحلول(الإتحاد) الذي هو أقصى مراد الصوفي ومبتغاه بعد مجاهدة قاسية مع النفس من أجل تجاوز الذات البشرية وذوبانها في الذات المطلقة، فقد ورد في كتاب"أسرار التوحيد في مقامات الشيخ أبي سعيد بن ابي الخيرات ت440ه"إذا بقي في السالك شيء من صفات البشرية فلن يصل الى هدفه"، ويصف البسطامي الحلول "إني انسلخت من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها، ثم نظرت الى ذاتي فإذا أنا هو "(البيروني في تحقيق ما للهند، البحث ص421)، بينما يقول الحلاج(الرمل):

أنا من أهوى ومن أهوى أنا* نحن روحان حللنا بدنا

 فإذا أبصرتني  أبصرته * وإذا  أبصرته   أبصرتنا

 (تاريخ الخطيب للبغدادي 8/129 دار المعارف، والبداية والنهاية لابن كثير1/133). والهجويري يروي عن أحد شيوخه ابو العباس الشقاني أنه قد انقطع عن كل الموجودات، وكان طبعه ينفر عن الدنيا والعقبى وكان يصيح : أشتهي عدما لا عود فيه، غايتي أن يحملني الله الى عدم ليس له وجود قط، (كشف المحجوب 2/383)، بينما يقول البسطامي" سبحاني سبحاني ما أعظم شاني"ويقول أيضا:" ضربت خيمتي بإزاء العرش" (السراج الطوسي،اللمع في التصوف 464)، وهذا هو الفناء التام في البوذية بينما يقول الحلاج (البسيط):

لبيك لبيك ياسيدي ومولائي* لبيك  لبيك ياقصدي   ومعنائي

ياعين عين وجودي منتهى هممي*يامنطقي وإشاراتي وأنبائي

 ياكل كلي ويا سمعي ويا بصري*يا جملتي وتباعيضي وأجزائي

أما سلطان العاشقين ابن الفارض (الطويل):

كلانا مصلّ ساجد  واحد  الى* حقيقته بالجمع في كلّ سجدةِ

وما كان لي صلّى سواي ولم تكن*صلاتي لغيري في أدا كلّ ركعةِ

 النضدان الأخيران وردا مع بعض الأخطاء، ودون الأعاريض، التي أضفتها تعميما للفائدة، والأشعار كثيرة والأقوال أكثر. لكنني أريد الإشارة الى كتاب مهم غُفِل عنه هو كتاب عبد الكريم الجيلي سمّاه "الإنسان الكامل" قوامه مئتا صفحة يصف فيه رحلته من الارض الى السماء، يصف مقابلاته وحواراته مع الأنبياء وكيف استفاد من علمه ويمضى قدما في صعوده الى السماء الثانية حتى السابعة، والى الكرسي والعرش والحجب السبعين! ثم يعود هابطا الى الارض..وقد الهم الجيلي كاتبا آخر اسمه اسماعيل بن عبد الله السوداني الذي ألّف سنة1262ه كتابا نسج على منوال" الإنسان الكامل" سمّاه مشارق شموس الأنوار في معنى عيون الكلام والأسرار" والعنوان اختصرته لطوله،وهي رحلة أيضا الى السموات السبع العلى للأرضين(راجع فصل المعراج الصوفي من كتاب الفكر الصوفي في ضؤ الكتاب والسنّة، عبد الرحمن عبد الخالق). ولا شك أنهما تأثرا ب"رسالة الغفران للمعري" التي يعتقد أن دانتي تأثر بها في كوميدياه الإلهية.

وحدة الوجود موضوع خلافي شائك ومعقد، جوهره ان كل مافي الكون هو من تجليات الخالق، وهو متمم لوجوده ، لا بل أن الوجود الكوني والخالق كل مطلق، لا فصل بينهما، وزعيم وحدة الوجود لدى الصوفية هو محي الدين بن عربي الأندلسي (558-638ه) التي ضمنها في كتابيه المشهورين : الفتوحات المكية" و"فصوص الحِكم" نثرا وشعرا فهو القائل"أن العارف من يرى الحق في كل شيء بل يراه عين كل شيء...وإن العبادة لا يستحقها إلا الله الذي هو عين الكل، وله هوية جميع الصور" (شرح القاشاني على فصوص الحكم لابن عربي ص295 عن بحث الدكتور نومسوك ص424). وهو صاحب الابيات المثيرة للجدل التي بسببها اتهم ابن عربي بدينه والتي ينظر فيها الى وحدة الأديان وتكاملها لا تفاضلها، وأن الكائنات كلها تجليات للخالق المطلق حيث يعلن عن حالة اشراقه التي لم يكن عليها سابقا يقول(الطويل):

لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي*إذا لم يكن ديني الى دينه دانِ

لقد صار قلبي قابلا كل صورة *  فمرعى لغزلان وديٌر   لرهبانِ

وبيتٌ  لأوثان وكعبة طائف * وألواح  توراة  ومصحف    قرآن

أدين  بدين الحب أنّى توجهت* ركائبُه  فالحب  ديني  وإيمان

ثم تبلور المذهب أكثر على يد عبد الحق بن سبعين الأندلسي(614-669ه) الذي اشتهر ب"المسائل الصقلية" وهي أجوبة لأسئلة الأمبراطور فريدريك الثاني، ولا بد من التأكيد على حقيقة مهمة هو أن ابن عربي هو الذي نقل وحدة الوجود بشكلها المتبلور معه الى المشرق بعد أن كانت منضويه بشكلها الأولي مع مبدأ الحلول الإتحاد عند الجيل الأول من المتصوفة البغداديين. في حين نشرها ابن سبعين الى الغرب عن طريق رسائله المشار اليها.شاع مبدأ وحدة الوجود في الغرب في القرن الثامن عشر وتبناه الفيلسوف سبنوزا ثم ظهر لدى الشعراء الرومانتيكيين وانعكس في أشعارهم أمثال وليم وردزورث، وسام كوليرج وشيلي وانتشر عبرهم الى أوربا، وبالإضافة الى ذالك أن حركة عالمية لها أنصارها في العالم ما فتئت تتسع دائرتها وتضم مختلف الأتباع الملحدين والعلمانيين والمؤمنين والإنسانيين من مختلف الأديان تتبنى وحدة الوجود هي حركة اتباع وحدة الوجود العالمية ًWorld Pantheist Movement بينما تصدّر العالمُ البيولوجي الشهيرُ رتشارد داوكنز صاحبُ كتاب  The God Delusion(وهم الإله) حركةَNaturalist Pantheism وحدة الوجود الطبيعية.

التناسخ لا يؤمن به الصوفية فالإستغراق به من قبل الباحث نومسوك لا مبرر له. والتفنيد الذي تفضل به الباحث لمباديء الصوفية هو حكم متطرف نجم عن منهجة الدوغمائي فحتى استاذهم الكبير ابن تيمية الحراني لم يتجن كما تجنت الوهابية، فقد ميز بين اتجاهات الصوفية، إذ يقول"فيهم السابق المقرب بحسب بحسب اجتهاده وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وف يكل من الصنفين قد يجتهد فيخطيء، وفيهم يذنب فيتوب أو لا يتوب"(كتاب التصوف من الفتاوى11/18)ومن الطبيعي أن ابن تيمية اذي جاء الشام بعد خمسين سنة من قدوم ابن عربي قد كفّر هذا َ وكل من آمن في وحدة الوجود، ولا غرابة!كما انقسمت مختلف الإتجاهات الإسلامية هنك من أيدها مثل الغزالي، أما الشيعة فهناك من أخذ بها مثل حيدر بن علي العلوي الآملي والبهائي العاملي وملا صدرا الشيرازي وهناك من كفرها!!كل حسب فهمه، وظلت المشكلة الكبرى هو الفهم الظاهري للنصوص الصوفية دون محاولة فهم أن المحاججة بالنص أو المنطق المثالي لا تجدي نفعا، لأن الصوفية فيض وجداني، عبروا عنه بالرمز والإشارة في نثرهم وشعرهم وأسلوب عيش ينأى بنفسه عن عيش العامة فهي طريق العارفين بالله، يقول أحد المتصوفة(الوافر):

قلوبُ العاشقين لها عيونٌ * ترى ما لا يراه الناظرونا

وجه الدكتور الباحث نقدا حادا للصوفية ص462 اقتبسه من كتاب "هذه هي الصوفية لعبد الرحمن الوكيل171ط3 دار الكتب العلمية1979) لأنهم لم يهبوا للسلاح ولم يشاركوا بالجهاد ضد الصليبيين عام492 حيث سقطت القدس ذاكرا أسماء الغزالي، وابن عربي وابن الفارض...والحقيقة أن الجهاد الأكبر لدى الصوفية هو جهاد النفس وسلوك طريق العارفين السالك الى الله رغم أن الجهاد في مثل هذه الاحوال فرض عين لا فرض كفاية، ولكن لنسمع الحارث المحاسبي "ويسقط عن العبد بالخلوة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وامن من مداهنة الناس، ويورث راحة القلب عن عموم الدنيا، ويوقى شرور الخلق، وكلفة مداراتهم"(حياة القلوب على هامش قوت القلوب2/99، والبحث462).

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2174 السبت 07/ 07 / 2012)


في المثقف اليوم