أقلام حرة

كيف تُستنهض العلمانية في منطقتنا؟ / عماد علي

والدعوة لدولة دينية جهل بحقوق الانسان والمناداة بالخلافة الاسلامية جهل بالتاريخ .

اينما عاش الانسان فهو وليد مجموعة من السمات التاريخية والموروثات المختلفة التي يتمسك بها محيطه، وهو يكون دائما تحت طائل التراكمات التاريخية ان لم ينقذ نفسه من الخروج من سلبياتها عند النضوج، وهو يتمسك في قرارة نفسه بالثقافة العامة الطاغية وما تفرضه مرحلته التي يعيش فيها مهما تناقض مع ما توصلت اليه عقليته من عدم توافقه مع ما يذهب اليه من التنظير والتفكير والاستدلال والاستكشاف للمفاهيم التي يمكن ان يعتمدها في حياته، ومهما ضغط على نفسه في اية مرحلة من حياته ان يتقمص شخصية السلف وما عاش فيه اجداده من الظروف المختلفة التي كانت فيه، ومهما ادعى ارتياحه من ماموجود فيه من التناقض بين الواقع والعقلية التي يتمسك بها على العلن فهو يعيش يومه ويمس المتغيرات والتطورات التي لا تقبل ما اعتمدت عند السلف من قبل من يقتدي بهم .

عندما يمتلك الفرد من الخصائص التي تدل على موقعه الاجتماعي الثقافي العام، ليس بشرط ان يكون من نتاج عائلته ومحيطه فحسب وانما يمكن ان يكون حاملا من الافكار التي تستولد جراء احتكاك القديم والجديد المتشابك والمتناقض دائما، لما يواجهه يوميا من المستجدات والتغييرات المتلاحقة التي تفرض نفسها دائما على البيئة التي يعيش فيها . وهذا القول والتوجه ينطبق نصا وروحا على المجتمع بشكل كامل وشامل ، وهو جمع لما يمكن ان يكون فيه مجموع ما يتميز به الفرد . ان تميزت بقعة ما بتاريخ ناصع وحضارة بارزة وثمرات فكرية وعلماء ومفكرين وبحقبات متميزة بالعقلانية، تكون لديها موانع لانتشار الشواذ وما لا يتناغم مع الحديث، اي من المستحيل ان تغطي غيمة عابرة آتية جراء ظرف او مصلحة او ضغط ما او قاعدة شاذة برزت في ظرف طاريء سماء ارض الحضارات الى الابد ولا يمكن ان تستمر في المسار الخطا الى النهاية .

الحضارة ليست سهلة الخلق والوجود والانتشار والبقاء، بل انها نتاج عوامل لا يمكن ان تستولد من العدم، فهي المرحلة النهائية من نتاج المخاضات العسيرة للفكر والعقل والعمل والتوجه البشري، بوجود القاعدة والمباديء الاساسية والمستلزمات المادية الضرورية الخاصة بتلك المرحلة التي تساعد على استكمال الحضارة. لا يمكن نجاح اية حضارة في الولود والبقاء في ارضية غير ملائمة او في ظرف ناقص المستوجبات المادية والفكرية، لا يمكن تصور حضارة وادي النيل ونجاح الفراعنة في ممارساتهم على الارض دون وجود النيل ولا يمكن بروز حضارة اليونان والرومان بعيدا عن الاجواء العقلانية والفكرية والارضية المادية الخصبة لتلك الحضارة العريقة، وهكذا بالنسبة لحضارة وادي الرافدين التي لم يكن بالامكان خلقها دون الدجلة والفرات اضافة الى العقليات والمستلزمات العقلانية والنخب والتوجهات الفكرية واليات عمل مطلوبة.

المهم هنا ان يذكر، ان من تمسك بالامور وقاد المرحلة من حيث القوة المتعددة المطلوبة، والعقلية الفارضة للراي والموقف كانت حسب مقتضيات المرحلة والتقدم المطلوب والسير نحو الاحسن كثيرا، كان من بين الفاعلين الجديين من الملوك والقديسين وحتى الاشرار والظالمين ، ومن بين الجمع الغفير من الاشرار تجد المتنورين العاملين دوما على ايجاد الطريق الملائم لخير البشرية، وهم المؤمنون بالحياة والمعيشة الانسانية الجميلة . لو نتعمق في التفكير لايجاد نوعية وشكل وتوجه العقليات ماوراء تلك الافعال والحضارات العظام نجد في نهاية الامر او نستنتج دائما ان العلمانية هي في اي شكل كانت من اشكالها وفق ظروف المرحلة وحسب المتطلبات المادية والمثالية لها وهي المؤمنة دائما بالحياة في الدنيا والعمل على التغيير نحو الافضل وتظافر الجهود من اجل التطور والنقلة النوعية نحو الامام، وهي الفاعلة الرئيسية والدافع الاعظم لبناء الحضارات، وكلما تطورت واستنهضت العقلية والفكر البشري كلما بنيت الحضارة والتطور فكانت سيادة العلمانية هي الغالبة دائما على الامور الحياتية، ورغم ان تسمية المفهوم حديث جدا الا ان الفعل والعمل والالية التي عملت وفقهافي كل الحقبات  تنطبق مع جوهر ما متفق عليه اليوم من مفهوم او مفردة العلمانية .

اليوم نرى ونتلمس ونسمع ادعاءات باطلة شتى تضفي صفات وجواهر واشكال مختلفة مخالفة لحقيقة الكثير من المفاهيم بدوافع فكرية مثالية روحية مزيفة نابعة من الجهل بمكنونات الحياة وما يتميز به العالم وما يجب ان تكون عليه الحياة والانسان ومصيره . فحلت الايديولوجيا محل الفكر العريق والفلسفة والعقلية الانسانية الاصيلة في هذا العصر بالذات وفي هذه البقعة من الارض والتي مدت العالم كثيرا بالنتاجات والاكتشافات وثمرات التقدم واليوم تشغل العالم احيانا بافرازاتها السلبية، ولكنها تتراوح في مكانها دون حراك ولا يمكنها الخروج من وحل فضلات المراحل السابقة من تاريخ البشرية .

كانت الاديان في مراحل عديدة وفي يوم ما منقذا لجماعات ومجتمعات من ضيم الجهل وما افرزه التاريخ وما فرض نفسه من اسغلال الانسان لاخيه بعيدا عن ما يفرضه النظام العام للحياة، واستندت زمر ومجموعات على افكار وقواعد ومباديء وهي جاهلة بمعانيها وبجواهرها  الحقيقية قبل غيرها.

اليوم، وبعد طول الدهر والحقبات وما الت اليه الظروف البشرية والبقع المشهورة بالحضارات العريقة وفي مقدمتها بلاد ما بين النهرين، نتلمس الفوضى والرجوع الى عصور الظلام بمعنى الكلمة والعودة عن مقومات التقدم والتطور البشري وما يخدمه .الجهل بالحضارة وما تفرضه وتتطلبه، الغوص في القضايا والاعتقادات والدخول في متاهات لا نهاية لها، والسير على طريق الجهل والابتعاد عن كل ما يخص الانسان على الارض، انه جهل بالتاريخ وحقوق الانسان والعلمانية والحياة باكملها، انه انجراف وراء المجهول من كافة النواحي، انه يمكن ان نسميه الحياة في حلقة مفرغة ولا يمكن ان تسمى بمرحلة تاريخية لحياة الانسان في منطقتنا الا في جانبها المظلم ان لم نبالغ كثير .

لو قفزنا الى ما نحن فيه اليوم من الحياة السياسية الفكرية الثقافية العامة ايضا بعيدا عن سرد ما يتضمنه التاريخ، بعيدا عن الفكر والفلسفة وما نحن فيه من التشاؤم الذي خلقته الافرازات السلبية للمرحلة الانية القصيرة في ظل ما موجود والذي لا يمكن ان نسميه نظاما سياسيا بمعنى الكلمة، او من يديرونه بالعاملين واللاعبين النخبة المتعقلين في هذه الاونة، انها مرحلة يتطلب الجهد والعقلية السليمة والالية المناسبة لازاحة ماموجود بشكل مناسب والعمل على ايجاد الاليات المناسبة لتحضير وايجاد الارضية بداية ليحل البديل، من اجل بدء المرحلة الجديدة المطلوبة لتصحيح مسار الحياة هنا ، وليسجل التاريخ مرحلته بشكل طبيعي ويكون امتدادا للحضارة العريقة لبلاد مابين النهرين .

هل الجهل والتخرف والتخلف الذي اصاب الاكثرية ينهي نفسه بنفسه، اي انه يحمل مقومات انهاء وفناء نفسه في ذاته، وفق العديد من النظريات، ام على العكس من ذلك لا يمكن انهاء هذا جراء تاكل بعضهم لنفسهم بمرور الزمن والتقادم كما نسمع، الا ان العمل الهاديء واحيانا الانتظار خير وسيلة لفعل الاشتباك والتصارع لما موجود مع النفس في ثنيا عمل الزمرة المسيطرة، وللوصول الى الموت المحتم والفناء وظهور البديل، وهنا تستهل المرحلة المعبرة عن تراكمات التاريخ المنير والحضارة والعقليات السليمة الحاملة لبذرة التقدم الاصلي . الا ان المهم هو التفكير على العمل الملائم في الوقت المناسب، وهو البدء في مرحلة بناء قاعدة استنهاض روح العلمانية الحقيقية بمعناها الواسع، وهي التي تكون مزيحة للافكار البدائية الجاهلة بالحياة والحقيقة الانسانية ومعنى المعيشة . وانني اتعجب اليوم من وجود الخلافات الكبيرة بين القوى المؤمنة بالحياة الانسانية والانسان  على العوامل الصغيرة في هذه المرحلة، وهم يتعايشون مع من يعمل على ابتلاعهم في اية لحظة وفي اقرب فرصة ممكنة . انها مرحلة الوقوف على المباديء والدوافع الكبيرة لاستنهاض العلمانية بمعناها الصحيح الحقيقي دون هوامش او اضافات مزيفة ودون غيرها وبما تحمل من اوجه، انها من اجل الانسان ومستقبله في هذه البقعة المعقدة من الارض والشعوب على وجه الخصوص .

بداية، يجب كشف واستغلال زيف الادعاءات الكاذبة والمضللة لجوهر العلمانية التي تستغلها الجهلاء، من اجل  بناء السدود المنيعة اللازمة امام انتشار الافكار الجاهلة ومنعها من السيطرة الكاملة على عقل الانسان وسد الطريق امام امتداد التخلف والتضليل، وهذا يحتاج لجهد وفعل واليات وتعاون وتنسيق بين القوى المتنورة الموجودة على حالها اليوم بين مكونات المجتمع والتيارات والتجمعات والافراد وبعض الاحزاب، والشعب ليس خاليا من المبدعين النخبة التي تفعل ما لا يمكن ان تقدم عليه الالاف من الهؤلاء المضللين الجهلة. العمل على الارض يبدا من خطوة التعاون والتنسيق وحتى الاتحاد والتوحيد للقوى القريبة من بعضها اولا ومن ثم الاعتماد على الفرد والنخبة على خاصة .

 الابتعاد عن المصالح  الضيقة والاغراءات وما تقوم به السلطات السياسية والدينية المختلفة،و تبدا الخطوة من حث الجماهير على اتباع ما يؤكدون عليه اول الطريق نحو الغيث، حض الجماهير المتنورة على الاحتجاجات المستديمة والانتفاضات المتكررة استنادا على الفكر والفلسفة الصحيحة وبيان وتوضيح اوجه التخلف وما تفعله القوى المظلمة من التخبط ، وما اكثرها، وما تصر عليه من استرجاع الشعوب الى حقبات الجهل والتخلف بمساعدة القوى المصلحية العالمية .

بداية الامر يستهل الفعل من توضيح ما تتطلبه الحياة والجانب المستنير للعلمانية على ارض الواقع ولو بامثلة صغيرة بشكل سهل وسلس بعيدا عن الاختلافات العقيدية التي لا خير في الدخول فيها في مراحل معينة ومنها اليوم، وبذل الجهد اللازم لاشراك النخبة في الاعمال والواجبات المطلوبة من اجل العمل على كسب الجيل الجديد المتنور . لكل فرد و جهة ومجموعة وتيار ومنظمة سياسية كانت ام مدنية دور خاص يجب ان يقوم به كي يضع حدا للفوضى والتخلف السائد، من اجل بداية سليمة وبناء جديد وبعقلية متنورة متفتحة بعيدة عن كافة انواع التشدد والتعصب الفكري والعقيدي والفلسفي .

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2177 الثلاثاء 10/ 07 / 2012)


في المثقف اليوم