أقلام حرة

مرسي والاخوان امام استحقاقات الحكم / سعيد الشهابي

بل كانت مخاضا عسيرا ازهقت خلاله الارواح وتساقط الشهداء منذ استشهاد الشهيد عبد القادر عودة وثلة من اخوته في العام 1954. وعلى مدى اكثر من نصف قرن اكتظت بهم السجون وعاشوا في المنافي وتعرضوا للتنكيل الذي كان آخر فصوله المحاكم العسكرية قبيل الثورة وكان الرئيس محمد مرسي احد ضحاياها. ولقد سجل الاخوان بعضا من صفحات تاريخ محنتهم خصوصا بعد الانفراج النسبي في بداية عهد السادات.

 

ويخطئ من يعتقد ان عهدهم الجديد في السلطة سوف يكون اقل تحديا او اخف محنة وشقاء. ويمكن القول بانهم نجحوا في اغلب الامتحانات التي مروا بها، فلم يتراجعوا عن خطهم ولم يساوموا على مبادئهم. ويجانب الصواب من يظن ان المرحلة الحالية والمقبلة سوف تكون اقل عناء ونصبا وتحديا، خصوصا بعد الانقلاب السياسي الذي نفذته قوى الثورة المضادة في وضح النهار بالغائها البرلمان المنتخب وفرضها قوانين واجراءات تهدف لتحجيم سلطات الرئيس وتسعى لهندسة وضع سياسي جديد وفق رؤى العسكر ومن ورائهم قوى الثورة المضادة المدعومة بالمال النفطي الهائل.

 

ويمكن القول بقدر من التأكيد بان مستقبل جماعة الاخوان المسلمين لن يكون كماضيها، وان مدى نجاحها لا يمكن التنبؤ به بشكل دقيق خصوصا مع وجود تباين في الرؤى بين رموز الجماعة، ومع المشاريع المشتركة بين القوى السياسية واجهزة الاستخبارات الاقليمية والدولية لتحجيم الوجود السياسي للاخوان، واحتوائهم ما امكن. البعض يعتقد ان الشارع المصري سوف يعود للبديل الثوري اذا انكشفت خطط قوى الثورة المضادة. ولكن حدوث ذلك امر قد لا يكون ممكنا لعدد من الامور. اولها ان الثورة لا تنطلق بقرار سياسي، بل انها حالة شعبية تندلع فجأة بدون مقدمات ولا تخضع للقوانين السياسية او الخطط الاستراتيجية او المنطق العقلي البحت. ثانيا: ان فترة عام ونصف تقريبا كافية لتبريد الساحة الثورية، وتجميد العناصر الفاعلة، فالنار التي تنطفىء او تطفأ في اجواء مشبعة بالرطوبة يصعب اعادة اشعالها. ثالثا: ان حالة من الاستقطاب اصبحت تسود المجتمع المصري خصوصا بعد التعديلات الدستورية والانتخابات البرلمانية التي افرزت فوزا كبيرا للاخوان ووسعت الهوة بين الاسلاميين وغيرهم، الامر الذي اضعف روح الثورة في نفوس الكثيرين.

 

رابعا:ان قوى الثورة المضادة بذلت جهودا قصوى للتأثير على الوضع المصري، فدعمت العسكر بهدوء في الوقت الذي كانت التموجات السياسية تعصف بالصف الوطني، خصوصا بين قطاع الثوار والاحزاب السياسية، بمن فيهم الاخوان. خامسا: ان تلك القوى كانت تراهن على عامل الزمن لاضعاف جذوة الثورة في النفوس، والضغط المادي على المواطنين الذين كانوا ينتظرون عائدات مادية تؤثر ايجابا على مستوى معيشتهم. فكانت سياسة إطالة امد الخطوات السياسية كالانتخابات البرلمانية والرئاسية وكتابة الدستور ضرورية لاحداث حالة من الاحباط في نفوس الكثيرين، خصوصا بعد ان اتضح ان الثورة يقوم بها البعض ويقدمون مئات الشهداء ولكن تحصد ثمارها السياسية الاحزاب السياسية لانها اكثر تنظيما.

 

ثمة فرق كبير بين من يصل الى الحكم عبر صناديق الاقتراع، ومن يحقق نجاحه عن طريق الثورة. فالاول محكوم بالنظام القائم الذي لا يتغير جوهره بتغيير بعض مظاهره، كما هو الحال في مصر. فقد بقيت محكومة بقوانين العهد السابق في مفاصلها السياسية المهمة، اذ ما يزال العسكر مهيمنين على الوضع، اما باستعمال القوة العسكرية او باستغلال المؤسسات القائمة منذ العهد السابق كالمحكمة الدستورية مثلا. هذه المحكمة هي التي ألغت عضوية ثلث اعضاء البرلمان واتخذت ذلك ذريعة لحله واضعاف قبضة الاخوان على اهم مؤسسة اعتبرت الثمرة الاهم للثورة. اما من يصعد الى السلطة نتيجة الثورة الكاملة فلديه مرونة اكبر في اعادة صياغة النظام السياسي الجديد، وقدرة على التخلص من النظام القديم كاملا. ولكن مع بقاء العسكر لم يستطع احد تفعيل قانون 'الالغاء' الذي كان يفترض ان يمنع رموز عهد مبارك من المشاركة في الحياة السياسية التي يفترض ان تقوم بعد الثورة. العسكر نجحوا في تحجيم حجم التحول بسبب غياب ارادة الثورة لدى الاحزاب السياسية ومن بينها الاخوان. ثمانية عشر شهرا كانت كافية لصب قطرات من الماء على لهيب الثورة الذي استنفد قوته في ذروتها وبدأ يخفت تدريجيا. وكان من نتيجة ذلك وصول مرشح العسكر، واحد اهم عناصر النظام السابق الى المرحلة النهائية من الانتخابات الرئاسية، الامر الذي اثار حفيظة الثوار، ولكن بدون ان تكون لديهم وسيلة لمنع ذلك. فأية ثورة هذه التي تسمح باعادة تدوير الاشخاص المشاركين في نظام الاستبداد والقمع والتعذيب والعمالة ليصبحوا رموز العهد الجديد؟ ان الجديد لا يكون جديدا الا اصبح القديم قديما. ومن المفارقات الكبرى ان يحصل احمد شفيق على ما يقرب من نصف الاصوات في نظام يفترض انه قام ضده وضد امثاله من رموز العهد السابق.

 

امام هذه الحقائق، فقد اصبح الدكتور محمد مرسي رئيسا، ولكن بدون صلاحيات حقيقية. وقد بدا هشاشة وضعه واضحا عندما وجد نفسه مضطرا لاداء قسم اليمين الرئاسي امام المحكمة الدستورية التي تنتمي للعهد الماضي. كما ان الحديث عن امكان استلام المشير محمد طنطاوي حقيبة الدفاع في حكومة مرسي يكشف مدى هشاشة الوضع السياسي في هذا البلد الذي قدم ما يقرب الالف شهيد في ثورته التي سعت للمفاصلة الكاملة مع عهد مبارك. يضاف الى ذلك ان الرئيس اصبح محكوما بارادة العسكر، خصوصا بعد ضياع فرصة ذهبية كانت مؤاتية لاستعادة المبادرة وذلك بعد الانقلاب العسكري ضد البرلمان الذي كان اهم ثمرة للثورة. كان على الاخوان ان يتحركوا فورا ليسقطوا ليس المحكمة الدستورية كلها وليس قرارها بحل المجلس فحسب.

 

فقد تجاوزت تلك المحكمة مبدأ حق الشعب في تقرير مصيره والغت ما يمثل ذلك الحقِ متجسدا بالبرلمان المنتخب شعبيا، ولكنها لم تواجه مقاومة حقيقية لخطوتها تلك. مع ذلك يمكن اعتبار خطوة الرئيس مرسي مطلع الاسبوع بدعوة البرلمان الذي حله العسكر للانعقاد وتجاهل قرار المحكمة الدستورية بحله، خطوة شجاعة. فاذا أصر الرئيس ومعه الثوار على فرض الارادة الشعب وتحييد الجيش واعادته الى الثكنات، كما وعد مرسي، فسوف تبدأ مصر طريق الثورة الحقيقية وتضع خطا فاصلا مع الماضي الاستبدادي. اما اذا تم التراجع عن هذه الخطوات فستكون قوى الثورة المضادة قد نجحت في انقلابها الذي لم يكلفها شيئ اطلاقا. وحينها سيسجل التاريخ ان الاخوان ضيعوا فرصة لتجديد روح الثورة والاجهاز على بقايا النظام البائد والمساهمة ليس في الحفاظ على ثورة التغيير في مصر بل في كافة العالم العربي. المشكلة ان الاخوان محكومون بعقلية ترفض الثورة كطريق للتغيير. وينسب للامام الشهيد حسن البنا رحمه الله القول: سيقال عنكم ثوارا، قولوا: نحن دعاة سلام. ان التشبث بمبدأ التغيير ضمن الانظمة القائمة لا يستقيم مع مبدأ الثورة والتغيير الجذري الشامل. ولذلك اصبح الاخوان في وضع لا يحسدون عليه، وليس مستبعدا ان تكون محنهم المستقبلية أشد وطأة من معاناتهم التي تواصلت اكثر من نصف قرن.

 

ولذلك يواجه اخوان مصر اليوم تحديات كبرى سوف تمثل ضغوطا كبيرة على القيادات الاخوانية، ومصدر قلق لدى العناصر التاريخية بالحركة حول مدى القدرة على الاحتفاظ بنقائها والتزامها بقيم مؤسسيها. من هذه التحديات ما يلي: اولا الخشية من تحولهم الى حزب سياسي ينازع الاحزاب الاخرى في الوصول الى السلطة وما يستلزمه ذلك من تنازلات عن المبادئ التي تأسست عليها الحركة ورددها كوادرها طوال الحقبة الماضية. ومن اول ضحايا ذلك التحول التخلي عن شعار 'الاسلام هو الحل'. الاخوان لم يتخلوا عن ذلك الشعار طوال عقود، حتى عندما خاضوا انتخابات مجلس الشعب في الدورة الاخيرة . ولكن ذلك الشعار توارى فجأة عن الانظار استنادا لمقولة 'العقلانية' و 'الواقعية'. لقد حافظ الاخوان على قدر معقول من التماسك في صفوفهم تحت هذا الشعار، واستطاعوا تحييد الحركات المتطرفة الاخرى، لانهم وفروا بذلك الشعار بديلا اسلاميا واقعيا، ساهم في حماية الشباب من الوقوع في فخ الحركات المتطرفة. ولذلك فمن المتوقع ان يكون التخلي عن ذلك الشعار (او لنقل تجميده) مثارا للجدل داخل اوساط الاخوان انفسهم، كما سيكون مادة بايدي الحركات المتطرفة للنيل من الاخوان والتشكيك في مدى جديتهم ازاء المشروع الاسلامي، خصوصا ان الاخوان يعتبرون رواد المشروع وقد دفعوا اثمانا باهظة لذلك، واستهدفوا ليس من قبل النظام المصري فحسب بل من كافة الانظمة العربية والغربية. وما تزال البيانات ضد الاخوان تصدر من مسؤولين كبار خصوصا في دول مجلس التعاون الخليجي الذين يرفضون الاخوان لانهم يحملون مشروعا اسلاميا يضعف بريق اطروحاتهم الدينية التي يستعملونها لاحتواء جيل الصحوة الاسلامية من جهة، ويستمدون منه شرعية دينية خصوصا بوجود علماء البلاط المستعدين لدعم تلك 'الشرعية'.

 

التحدي الثاني يتمثل بقضية فلسطين التي تمثل حجر الزاوية في ثقافة جماعة الاخوان المسلمين منذ العام 1936 عندما اندلعت الثورة الاسلامية المسلحة. الامام حسن البنا وصف قضية فلسطين بانها ' قلب أوطاننا وفلذة كبد أرضنا وخلاصة رأسمالنا وحجر الزاوية في جامعتنا ووحدتنا، وعليها يتوقف عز الإسلام أو خذلانه'. هذه الثقافة تفرض على قادة الاخوان موقفا واضحا ازاء الاحتلال الاسرائيلي الذي حظي بشرعنة غير مسبوقة بتوقيع اتفاقات كامب ديفيد في 1979، وتبادل السفراء مع مصر. قضية فلسطين التي قال عنها الامام البنا انها (سوف تجسد الصرا ع بين قوي الشر والكفر والظلم من أمم الاستعمار الظالمة من ناحية وقوى الخير والعدل والمرحمة من ناحية أخرى) ستكون مثارا للجدل الكبير خصوصا مع استمرار السياسات الاسرائيلية التي تفرض حصارا مميتا على قطاع غزة وتواصل تهديداتها للمنطقة وتهدد بالحرب. محمد مرسي سيكون في الفترة المقبلة امام موقف صعب وهو يرى السيادة المصرية منتهكة بشكل لا يتلاءم مع موقع مصر ودورها، ومسخرة لخدمة المشروع الصهيوني في المنطقة، ويرى البلطجة الاسرائيلية والامريكية تجاه مصر والدول الرافضة للاعتراف بالاحتلال الاسرائيلي. ولكن السؤال سيظل حول مدى قدرة الدكتور مرسي على تحمل عبء التصدي للمشروع الصهيو ـ امريكي تجاه بلده والمنطقة. انه تحد من العيار الثقيل الذي يحتاج وضوحا في الموقف وعزما وارادة ليس واضحا مدى توفرها لدى الرئيس المصري او الاخوان المسلمين الذين ما يزالون مترددين في حسم الموقف داخل مصر (خصوصا مع المجلس العسكري) فضلا عن خارجها. الاخوان سيكونون امام تحد تاريخي ازاء قضية فلسطين، وهو تحد يفوق ما عانوه طوال نصف القرن الماضي لانهم دخلوا الآن عالم السياسة من اوسع ابوابها، واصبح عليهم ان يثبتوا لقاعدتهم مستوى مقبولا من المبدئية والالتزام بالثوابت خصوصا ازاء قضية فلسطين.

 

اما التحدي الآخر الذي لا يقل اهمية وخطرا، ويتصل باستراتيجية مصر المرتقبة بقيادة الاخوان المسلمين فيتمثل بموقفهم ازاء وحدة الامة. فلا يمكن مواجهة التحدي الصهيو ـ امريكي بموقف عربي ـ اسلامي ممزق، على اسس عرقية او مذهبية. فالذي يريد ان يواجه امريكا لا يهدم منزله ويزلزل الارض تحت اقدامه باثارة الخلافات واستهداف الآخرين من منظور مذهبي او عرقي. الامة الباحثة عن الحرية والاستقلال لا تحقق ذلك الا بوحدة ابنائها ضمن المشتركات العامة. الاخوان المسلمون مطالبون برفع راية الوحدة بشجاعة، ورفض دعوات التطرف او الطائفية. وعلى الدكتور مرسي وجماعته حسم موقفهم في هذا الجانب بوضوح، بعيدا عن اساليب الدبلوماسية التي غالبا ما تؤدي الى طرق مسدودة.

 

ان مصر تحتل موقعا جغرافيا جعلها حلقة الوصل بين فئات متعددة، فهي نقطة التواصل بين المسلمين والمسيحيين، بين آسيا وافريقيا، بين الصوفيين وغيرهم، بين السنة والشيعة (فلمصر جذورها الشيعية التي تمتد الى الفاطميين الذين بنوا الجامع الازهر)، فذلك تجسيد لقيم الاسلام التي تستوعب الاختلاف الناجم عن الاجتهاد.

 

الحقيقة التي يجب على الاخوان استيعابها انهم وصلوا الى السلطة ليس بسبب مشاركتهم السياسية ضمن نظام حسني مبارك، فتلك المشاركة لم تؤد بهم الا الى المزيد من التنكيل والاحكام العسكرية، وانما بسبب الثورة ضد مبارك. ولكي يحافظوا على وجودهم السياسي مطلوب منهم امورمنها ما يلي: اولها تمسكهم بثوابتهم (مع قدر من المرونة التي يتطلبها لم الشمل والوحدة الوطنية والاسلامية)، ثانيها: استيعاب حقيقة انهم يحكمون مصر، كبرى الدول العربية، ونقطة تقاطع المشاريع الصهيونية والامريكية والاسلامية ـ العربية، وهذا يتطلب منهم ان يعيشوا بحجم مصر عندما يتعاملون مع الكيانات السياسية التي أنشأها الاستعمار الغربي لتفتيت كيان الامة. ثالثها: انهم مطالبون بوضوح الموقف وعدم التواري وراء شعارات فضفاضة تقلل وهج الثورة وبريق النصر، وتنعش قوى الثورة المضادة، رابعها: ان يعلنوا انتماءهم الكامل للشعب وقوى الثورة، وليس مع العسكر الذين تجاوزوا حدودهم منذ عقود ومنعوا قيام الدولة المدنية الحديثة، والالتزام بما قاله الدكتور مرسي الاسبوع الماضي ان على الجيش ان يعود الى الثكنات ولا يتدخل في السياسة.

 

د. سعيد الشهابي

' كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

2012-07- 12

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2180 الجمعة 13/ 07 / 2012)


في المثقف اليوم