أقلام حرة

طريق الدفلى إلى جمهورية البرتقال / فاروق مصطفى

وفي محطة كركوك القديمة اصعد القطار لأصل إلى (بعقوبة) المضمخة بضوعات بساتينها الحبلى ببرتقالها وليمونها ورمانها ونهرها الحالم المستسلم لدغدغات أصابع شعرائها وعشاقها.

 هذه المدينة التي تواءمت مع كركوك واستوطنت ذاكراتنا ونحن يافعون نمر منها صوب بغداد وحزنها السرمدي الشفيف الذي يواجهنا ويهب علينا لفحات شائقة مجهولة المصادر، ولكن نحس دبيبه المضطرب يخطو في الشوارع والطرقات، منبثقا من خلل بيوتاتها الآمنة، ومن حفيف أشجارها المتعرشة في بساتينها الخوالد.

 وفي بعقوبة استحلي الدخول إلى جمهورية البرتقال والتقي بشاعرها الجوّاب (إبراهيم الخياط) الذي يعيدنا إلى تلك التوأمة، ويجدد لنا ذلك التواطن، ويموسق ذياك التساكن بين بعقوبة بضفائرها الذهبية مع كركوك المعنقدة بزيتونها وتوتها، وفوق ذلك تتوحدان بأعناب ناسِهما والقلوب التي نتعلم منها كيف يكون حب الإنسان، وكيف يكون حبه لأخيه الإنسان، وفي حديقته الشعرية تمد موائد الفتنة، وتنساب ألفة مدينته وهو يدعونا إلى ذواق قصائده المغمسة بعشق مدينته والمعجونة بخبز مودته.

يقول في نصه المعنون (الضجة الصديقة):

"ترى أمن الضجة كل ما بي

 فعند التقاء المدارات

 شاعرا أطلقت قلبي

 وسميت عشقي برتقالا

أسكنت حرفي

حيث اختلاف الدروب"

وأتذكر الان نصا يروى لـ (جان دمو)، وهو نص قصير مكثف يتميز بمعلميْ المجانية والاقتحام، ومفاد ذلك النص "لقد طردني صاحب الفندق لأنني سطوت على البرتقال"، ليس في مكنة أي صاحب فندق أو خان ـ يا جان ـ أن يطردك، لأنك مدعو مثلي إلى دخول عوالم جمهورية البرتقال، لتفيء ظلال أشجارها، والذواق من فواكهها النادرة، والاستطعام من حبات شهدها، فالشاعر إبراهيم مدّ موائده، وملأ فوقها الأكواب، فأسكرنا بقهوة كلماته، وروّانا بتدفاقها السيال، فغدونا ننطلق في جمهوريته، نستظل أشجارها، ونقتعد مصاطبها، ونتقمص أحلامها، فمن جمهورية أفلاطون إلى ممالك مؤيد الراوي إلى جمهورية البرتقال يطيب التجوال، ويحلو التطواف.

 ومع كل تلك الشموع المتوهجة المتقدمة والمتأخرة وهي تضيء ذلك النفق الذي نمشي فيه ولا نعرف إلى أين سيكون المآل؟ ومع ذلك نمشي، وفي هذا المشي بعض العزاء وبعض السلوان، ونعرف إننا لن نصل إلى مدينة (أين)، ومع ذلك، في مكان ما نشعل النار ونسخن الشاي ونحن بانتظار صحبتنا الشعراء الذين نتسول بوحهم، ونتوسل حماماتهم الزاجلة البيضاء، وما حملت لنا من أخبار البحار، ورسائل الجزر البعيدة.

 

ادخل جمهوريته أو حديقته الشعرية لألوذ إلى ظل شجرة برتقال، واقتعد مصطبة تحتها، وأتسكع مع أقوال صحبي الشعراء، فهؤلاء الشعراء الحالمون مشرعو حدائق الجمال ومؤسسو مدن العشق، وها هو قول لـ (صلاح عبد الصبور) يتسكعني ووجيزه انه قبل أن يشرع بكتابة نص يكون قد قرأ عشرات النصوص، استمرأها وهضمها وبعد هذا الاستغوار داخل هذه النصوص ينبري لكتابة نصه، وهذا الرائع (محمود درويش) يقول إنني لست صاحب هذه النصوص التي خطتها يدي وإنما يشاركني في هذا عشرات الشعراء الذين سبقوني.

وها أنني أجول في جمهورية البرتقال لأقع على أجمل التناصات التي أخذت مواقعها، فأية إزاحة لها ذات اليمين أو ذات اليسار لأختل النسق الشعري وتعثر البناء، وتأمل هذه الصورة المتناصة مع المصحف الكريم:

"تحلم بهل آتى على الشعراء حين؟

 وها انتذا بخذلانك تياه" 

وتعمقْ هذه الصورة التي تتناص مع الغناء العراقي التراثي:

"قلبي أو هذا الجلمد الذي ما حنّ

 للنوافل المشرئبة لاحتواء الحزن"

فالصورة تمتاز بحركيتها الهارمونية مما تضفي عليها هذا الاستحلاء الشائق.

وفي نصه الموسوم (واحدة لا تكفي)، يبحر الشاعر في تناصاته، فهذه المرة يمتح من دنان الموشحات الأندلسية (جادك الغيث إذا الغيث همى)، يقول في نصه:

"عيناك خردلتان

 والحرائق طائرات

 فهل جادك الغيث

عندما الموت همى

هل راعك وأنت تحت نار

يا غصة الغريب على دار"

فهذا دليل على غنى معجمه الشعري وخصوبة مرجعياته فيه، فهو يستقي من آيات القران الكريم ثم يعرج إلى التراث الشعري العربي ويميل إلى تراثنا الغنائي، فهو في كل هذا يتفنن في تناصاته لتأخذ مفرداتها وتتشكل قوية في بنائه الشعري في منتهى الاقتدار والاحتكام.

ويشوق الحديث عن جمهورية البرتقال، ويحلو التجواب في هذه الحديقة الشعرية، ويطيب للناظر في شعرية نصوصها أن يقع على لغتها الناصعة القوية التي تذكرك بجزالة اللغة في شعرنا التراثي إبان عصوره المشرقة، ومدينة بعقوبة هي مدينة بساتين البرتقال، وهي التي تسيل بأعناقها الأحاديث ليمتح الشاعر من انساغ أشجارها وجداولها وطرقاتها حبر كلماته ويسطر به بوحه الشائق النبيل. 

 

فاروق مصطفى/ كركوك

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2183 الاثنين 16/ 07 / 2012)


في المثقف اليوم