أقلام حرة

مذكرات مثقف عراقي في سنوات الحصار (7) / جواد كاظم غلوم

اقترح علينا احدهم – وكان محبّا للمسرح الى حدّ الهوس- مشاهدة احدى المسرحيات التي كانت تعرض على مسرح الرشيد وقتذاك فأصابنا الذهول من هذه الدعوة لأننا جميعا نعرف ان مسرحنا العراقي الاصيل والجاد قد شُيّع الى مثواه الاخير وان صقوره ونسوره من الممثلين البارعين قد اعتكفوا في بيوتهم واعتزلوا التمثيل ولم يبق منهم احد ولايوجد سوى بغاث الممثلين وصغارهم يلعبون ادوارا هزيلة في مسارح مؤجرة هنا وهناك تغلب عليها طابع الكوميديا الهابطة والاسفاف المبتذل ؛ الهدف منها كسب المال والضحك على الذقون وتسخير بعض الراقصات الغجريات لاثارة الغرائز لدى المشاهدين من خلال نفش شعورهن والتمايل مع وقع ضابط الايقاع بحيث اصبح التمثيل عبارة عن تهريج وصخب ورقص غرائزي من خلال هزّ الصدور والبطون ولفّ العجيزة وتدويرها ليراها اكبر عدد ممكن من المشاهدين

لكن صديقي أصرّ علينا وأكّد على ضرورة الحضور ، وزيادةً في استمالتنا لرغبته ؛ أبدى إستعداده ان يدفع مبالغ البطاقات من جيبه الخاص ، والحقّ انه كان أكثرنا ثراءً وسعة مال وأشدّنا حبا للمسرح وهو دليلنا ورائدنا وكان يأخذنا الى مسارح العاصمة منذ السبعينات وفي اوج لمعان الفرقة القومية والمسرح الفني الحديث التي كانت تعرض مسرحياته في مسرح بغداد وسط المدينة مع وجود بعض المسارح الصغيرة الاخرى التي كنا نرتادها معا مثل الستين كرسيا والنجاح وعروض أكاديمية الفنون الجميلة وغيرها الكثير التي انتشرت في بعض احياء بغداد

دخلنا المسرح وكانت المسرحية المعروضة اسمها " الليالي السومرية " من تأليف الكاتبة العراقية اللامعة لطفية الدليمي ومخرجها المسرحي العتيد القدير سامي عبد الحميد وتتحدث المسرحية -- بعرض شيّق وإبداع قلّ نظيره ايام الحصار-- عن شخصية كلكامش وتتعرض ايضا لجانب من حياة انكيدو ورحلته مع صديقه الباحث عن الخلود ، وكم كانت رؤية الكاتبة دقيقة ومؤثرة ونحن مبهورون امام هذا العمل الرفيع الذي جسّده حشد هائل من الممثلين الرائعين واتذكر منهم على سبيل المثال لاالحصر آزادوهي صاموئيل وأميرة جواد ونزار السامرائي والمتدفقة تمثيلا الفنانة أحلام عرب والتي قامت بدور/سيدوري، والفنانة الكبيرة فوزية عارف و د.ميمون الخالدي والحق اني لم ار احدا أجاد تجسيد هذه الشخصية المركّبة مثل هذه الفنانة التي لاتزال حركاتها وحوارها يرتسم في ذاكرتي مع اعتزازي وتقديري لبقية الفنانين المشاركين في هذه المسرحية المذهلة واعتذاري عن نسيان أسمائهم

سعدنا كثيراً بهذا العرض الشيق الممتع المفيد في زمن جفّ فيه ضرع الفن الراقي وماأصاب الادب بكل أنواعه من إسفاف وتدهور نتيجة سيطرة مخبري الثقافة وشرطة الاعلام على كل المؤسسات الثقافية حيث لم تمضِ فترة طويلة حتى تم حجب المسرحية ومنعها  خلال انعقاد مهرجان المسرح بعد ليلة واحدة من عرضها ، ياللغرابة مع انها لم تتعرض مطلقا للوضع السياسي وانما هي رؤية جديدة مبتكرة صاغتها الكاتبة ومسرحية مستوحاة من الإرث الفني العراقي لكنهم مع الاسف لايريدون للابداع ان يظهر ويقف على قدميه

هكذا عاشت الثقافة العراقية محنة لم يسبق ان عانى منها مريدو الثقافة  في ايّ فترة من الزمن اللهم إلاّ في حملات التطهير الستالينية المريرة التي قتلت كل ابداع ولاحقت الشعراء والكتّاب أينما فرّوا وكان نصيبهم الموت او النفي في اصقاع سيبيريا او الرمي في سجون يعتبرها الكثير مقابر للمبدعين ورعاة الفكر النيّر الذي نحا منحى آخر غير ما تريده السلطات المستبدة وقتذاك

لكن ما يسمّى بالمسرح الهزيل الذي اشرنا اليه فقد بقي يعرض مسرحياته البائسة بمباركة السلطة والقائمين على الثقافة لأجل مسخ اي توجه فكري ناضج وإشاعة الثقافة الرثّة وغسل أدمغة الناس من كل ماهو رائق وبقي عالقا في الاذهان

20)

 

خلال سنوات الحصار المريرة  ، استمرت المهرجانات الادبية والشعرية خصوصا بالانعقاد ولكنها كانت عرجاء وتعقد بشكل متقطع ومتعثّر إذ قد تمرّ سنتان او اكثر دون ان يتمّ الاعداد لها وتنظيمها بسبب الظروف الاستثنائية التي كان يعيشها العراق وضعف الامكانيات الماديّة التي تخصص لوزارة الاعلام ، اما المدعوون لهذه المهرجانات كالمربد وابي تمّام فان معظمهم من ادباء الداخل من العراقيين الذين بقوا في بلدهم صاغرين أو مستضعفين لاحول لهم ولاقوّة ماعدا قلة قليلة من الادباء العرب وبعض الاجانب حيث كانت معظم الموارد المالية تصرف للبطاقة التموينية لاجل توفير الاغذية والادوية والمستلزمات الضرورية الأخرى ولاطاقة للاعلام بإهدار المزيد من المال على المدعوين بعدما تبيّن عدم جدوى ذلك مع تباين واختلاف مواقف الكثير من المثقفين العرب التي كانت معظمها سلبية تجاه سياسة العراق آنذاك إذ شعر الكثير من قادة الثقافة بالندم على السخاء الذي كان يغدقهُ العراق على أشقّائه المفكّرين العرب أخوة يوسف

والحق نقول ان تلك المهرجانات قد خفتَ نجمها وأفلَ ضوؤها لان اغلب المدعوين  يقيمون  خارج العراق و كان هدفهم من المشاركة هو الطمع والحصول على منافع مادية والسكن الرغيد في فنادق راقية ذات الخمس نجوم ويصعب توفير هذه الرفاهية في زمن شحّ فيه حتى الدقيق لكي نصنع منه خبزا

لقد ذهبت الى غير رجعة تلك المهرجانات الوهّاجة اللامعة التي زخرت بها أرض العراق وتألقتْ في بغداد والموصل والبصرة ايام السبعينات ومابعدها وأدار الشعراء والكتّاب وجوههم عن بلاد الرافدين نظرا للنزر اليسير الذي ينالونه خلال مشاركتهم في تلك المهرجانات واتجهت أنظارهم الى دول الخليج السخيّة بمواردها والتي أكرمت زائريها العرب بالهدايا والمال نكايةً ببلادنا مثلما كان يفعل العراق في سنوات مضت ، كل ذلك حصل بسبب العجز والهزال الذي أصاب البلد جرّاء قسوة الحصار الظالم

ومثلما توقف المربد عدة سنوات وخيّم الصمت الثقافي في الساحة فقد أحسّ المسؤولون لاحقاً  بالحاجة اليه رغم الظروف القاسية التي لم تزل قائمة وقتذاك مادام الحصار ناشبا أظفاره اذ تمّ اعادة ترتيبه ودُعي اليه بعض الادباء من خارج العراق ، لكن اغلب المدعوّين لم يلبوا الدعوة ماعدا نفراً قليلاً استجابوا فصار طابع المهرجان عراقيا باغلب صفاته ومدعوّيه بالرغم من ان القائمين على تلك المهرجانات كانوا يريدون اضفاء الصفة الاعلامية العربية واظهار العراق بالمظهر اللائق عربيا وعالميا كما في السابق لكنهم اصيبوا بخيبة امل جرّاء الضعف الواضح في المشاركة واقتصارها على مجموعة من ادباء الداخل الذين شاركوا في جلسات المربد وغير المربد

وفوق كل هذا وذاك كانت التعليمات والتوجيهات التي تصدر من قبل وزارة الاعلام بعدم التعرّض الى الجانب المظلم والسوداوي –وما اكثره – والذي أفرزه الحصار وإظهار العراقي –عنوة وجزافاً-- بطلا مقاوما عنيدا لكل اشكال المعاناة التي يسببها ذلك الحصار الوحش الكاسر في حين ان واقع الحال يُظهر العراقيَّ مسحوقا مُعنّى وجائعا ولا يجد قوت يومه الا بشق الانفس ، ناهيك عن المطارق التي تُدقّ على رؤوس الادباء في كل مناسبة تدعو الى ضرورة اتباع وصايا القائد والاسترشاد بهديهِ والالتزام بالتوجيهات الثقافية المحددة من قبل وزارة الاعلام والتي تتسم في احيان كثيرة بالتهديد والوعيد المصحوب برائحة الدم ، كل ذلك من اجل تلويث الجمال والابداع وخلق ثقافة تتحرك وفق ما يشتهي القائد وما يملي عليه نزقه ومزاجه الشخصي فنرى الادباء والفنانين يتجهون اينما اتجهت دفّة السفينة التي يقودها الفارس الفذّ ويميلون مثلما تميل ريحه والويل الويل لمن لايرعوي ولا ينصاع للعنجهية البوليسية التي لاتتردد في إلقاء ايّ فكر له كرامة في الزنزانات وطمرِه في المقابر الجماعية  فيكون نسياُ منسيا

21)

حينما صدرت رواية "زبيبة والملك " المنسوبة الى صدام حسين والتي أشير اليها في غلافها الرئيسي عبارة /رواية لكاتبها ؛هللتْ لها الالسن وصفقت لها الاكفّ ترحيبا واستحسانا وكأن مزامير داوود عادت الى اسماعنا تنفث سحرا وابداعا أو كتابا مقدّسا من السماء ينضح بيانا وبلاغة وجمالا ، ولكن الذي ادهشنا حقا وصدم الوسط الثقافي كلّه ما صرّح به احدهم من المحسوبين على مثقفي السلطة حين قام بمقارنة هذه الرواية بملحمة جلجامش العظيمة واعتبرها توازي تلك الملحمة في الاهمية والقدرات الفنية الهائلة التي تمتلكها مما أثار حفيظة الكثير من مريدي الثقافة والكتّاب حتى من كان معتليا ركاب السلطة

تُرى كيف يجرؤ مثل هذا المثقف ان يقول ذلك في ملحمة تعدّ من الاسفار العظيمة الراسخة في ذاكرة البشرية وولدت من رحمها اشهر الملاحم الانسانية كالاوديسا والإلياذة والتي نالت اهتماما عالميا لم ينلْه ايّ اثر ادبي اضافة الى ترجمتها الى معظم لغات العالم

ولم يقتصر الامر على هذا الحدّ بشأن رواية /زبيبة والملك اذ ان العالم الغربي اهتم بها اهتماما ملفتا للنظر فور صدورها ، ففي فرنسا قام " جيل مونيه "امين عام جمعية الصداقة الفرنسية/العراقية وقتذاك وشمّر عن ساعديه وترجم الرواية الى اللغة الفرنسية عام/2000 والاغرب من ذلك ان يقوم مخرج كبير مثل "لاري تشارلس " بالاتفاق مع شركة /بارامونت لانتاجها كعمل سينمائي ضخم في استوديوهات هوليود

وفي شباط من عام/2000 أعطى كاتب/زبيبة والملك  توجيهاته الى القسم الاكبر من كتّاب الرواية في العراق ورسمَ لهم الخطوط العريضة لكتابة عدد هائل من الروايات وفق المقاسات التي يريدها حينما التقى بحشد منهم وقد تمخضت هذه اللقاءات والتوجيهات عن صدور مايربو عن ثمانين روايةً جلّها ذات مضامين تدعو الى تمجيد الحروب التي خاضها حامي البوابات الشرقية والغربية ضد دول الجوار وغير الجوار وكان من نصيب القائد الكاتب الروائي  ثلاث روايات من مجموع الثمانين وهي (زبيبة والملك ، القلعة الحصينة ، رجال ومدينة ) اما البقية الباقية فقد توزعت لهذا الكاتب وذاك الروائي وهي في معظمها ان لم نقل كلها روايات مدفوعة الثمن ، كتبتْ بدافعٍ من السلطة ومن رأس الهرم بالذات باعتباره "روائيّا " ومن المهتمّين بالادباء كتّاب الرواية ، وباستثناء بعض الروايات القليلة ذات البعد الفني الراقي والسرد المتقن والتي لايزيد عددها اصابع اليد الواحدة كرواية "أطراس الكلام " لعبد الخالق الركابي و"ضحكة اليورانيوم " للطفية الدليمي و"رغوة السحاب " لمحمود عبد الوهاب و"كراسة كانون " لمحمد خضير التي تميزت عن بقية الروايات بحسن الصنعة وايلاء الجانب الفني اهتماما ملحوظا الا ان معظمها كانت تخلو من الهمّ الانساني وتبتعد كثيرا عن معاناة الانسان العراقي المسحوق إلاّ فيما يخصّ همومه وشقائه جراء الحروب المدمّرة التي مرّت بها بلادنا في الثمانينات والتسعينات وسعت هذه الروايات الى تمجيد حروب صدام طوال فترة حكمه وإضفاء المشروعية عليها وإبراز "جمالية الحرب " باعتبارها ملاحم للبطولة اذ تم تسخير هذه الاعمال بشكل كامل وأدلجتها للفكر الذي كان يحمله القائد وانه الراعي الامين الحامي لرعيّته حتى لو جعل هذه الرعيّة حصب جهنم وحطبها الدائم  ما دامت تحقق له النصر المزعوم لوحده وليذهب الاخرون الى جحيم الحرب

 

جواد كاظم غلوم

  

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2183 الاثنين 16/ 07 / 2012)

في المثقف اليوم