أقلام حرة

سوريا التي يريد العراق / وليد العبيدي

غير أنه من الظلم الفادح للشعوب العربية التي تحركت ضد أنظمتها الفاسدة في تونس ومصر وليبيا والبحرين ثم سوريا أن نقول أنها تحركت بإرادة أمريكية لسببين أساسيين:

الأول أن هذه الشعوب قد تحركت ضد أنظمة حليفة للغرب كما في تونس ومصر ونظام أهوج وهو نظام الفذافي قدم خدمة كبيرة للولايات المتحدة والغرب من خلال افتعاله المشاكل المستمرة مع جيرانه وجميع الدول العربية تقريبا، أما النظام السوري فهو دائما ما كرر القول انه ليس لديه مشكلة مع الولايات المتحدة بل مشكلته مع إسرائيل وحاول بشتى الطرق استرضاء الولايات المتحدة إلى درجة التماهي مع مخططاتها كما فعل نظام الأسد الأب عندما قام عشية استلامه للسلطة بانقلاب عسكري في 1970 بإعادة الوحدات العسكرية السورية التي أرسلتها حكومة نور الدين الأتاسي لدعم المقاومة الفلسطينية في حربها مع النظام الأردني في ما سمي بحرب أيلول. وفي عام 1976 أرسل حافظ الأسد جيشه إلى لبنان لمنع هزيمة تحالف القوى الفاشية اللبنانية الممثلة بحزب الكتائب وحزب الأحرار على يد نحالف الحركة الوطنية اللبنانية والثورة الفلسطينية في الحرب الأهلية اللبنانية بطلب وتمويل من دول الخليج....

ومع الأسد الابن شهد العراقيون تواطؤ النظام مع السعودية والولايات المتحدة في تسهيل عبور الإرهابيين العرب إلى العراق عبر الأراضي السورية في موقف انتهازي أراد من خلاله إنقاذ نفسه بعد أن ظن أن الأمريكيين يوشكون الالتفات إليه بعد أن انتهوا من صدام حسين...وكلنا يتذكر كيف أن نظام بشار رفض رفضا قاطعا الإقرار بأن قيادات الإرهاب البعثي المقيمة في دمشق مسئولة عما يجري في العراق من إزهاق للأرواح البريئة بل ذهب أحد المسؤولين السوريين إلى القول ردا على رئيس الوزراء نوري المالكي بأن سوريا لو كان من تقاليدها تسليم المعارضين العراقيين لكانت سلمت نوري المالكي إلى نظام صدام حسين (أيام كان المالكي لاجئا سياسيا في سوريا) وهو قول فاضح في انتهازيته لأن النظام لم يكن ليأوي المعارضة العراقية عموما لولا وجود تطابق بين أهدافها وأهداف النظام السوري فيما يخص الموقف من نظام صدام الذي كان يعمل على إسقاط نظام حافظ الأسد واستبداله بقيادة بعثية موالية للعراق ومن الناحية الثانية تناسى المسئول السوري أن نوري المالكي لم يكن يرسل السيارات المفخخة من سوريا إلى العراق لقتل العراقيين الأبرياء كما كان يفعل شراذم البعث التي أواها الأسد الابن...

والسبب الثاني الذي يجعلنا نؤمن أن الشعوب العربية هي التي مسكت زمام أمرها بيدها ولم تتحرك بطلب من ا الولايات المتحدة هو ن الولايات المتحدة لا يمكن أن تفكر ب"حل شعبي" من أجل تغيير نظام حليف لها انتفت الحاجة إليه وان التغيير الذي تريده قادرة على إحداثه بسهولة من خلال انقلاب قصر...أي إذا ما كانت الولايات المتحدة قررت في لحظة ما أن مصالحها تتطلب التخلص من مبارك كان باستطاعتها الاكتفاء بإشارة منها إلى العسكر ليقوم بالهمة تحت ذريعة يتم إعدادها جيدا- وهذا ما فعلته مع حليفها الرئيس المصري السابق أنور السادات عندما قررت قي لحظة إبداله بحليف أكثر وثوقا اسمه حسني مبارك -لا أن تحرك الشعب المصري ضده....

وكان بشار الأسد عشية اندلاع التحركات الجماهير ي في تونس ومصر يظن أن سوريا سنظل بمنأى عن المد وعند سؤاله من قبل إحدى الصحف الأجنبية فيما لو كانت لديه مخاوف من انتقال عدوى الاحتجاجات إلى سوريا رد بالقول أنه لا يخشاها لأن الشعب السوري (حسب راية) شعب "يؤمن بالمبادئ" و"صاحب قيم وطنية" وغيره من الكلام...وككل الأنظمة المعزولة عن الجماهير والتي تعيش وهم "حب الجماهير" لها توهم نظام الأسد أن شعاراته القومية المناهضة لإسرائيل و" المؤيدة للقضايا" العربية سوف تغني الشعب السوري عن التطلع نحو التحرر من التسلط والدكتاتورية والفساد...وبالطبع لم تمنع "مبادئ" النظام القومية من تحويل لبنان إلى منفذ لتصريف أزماته الاقتصادية وفتح الباب أمام الإرهابيين ليتسللوا إلى داخل جاره الكبير العراق ولم تمنعه قبل ذلك من سعيه لوضع منظمة التحرير الفلسطينية تحت وصايته الكاملة...

لقد جاء تحرك الشعب السوري ضد نظام بشار مدفوعا بالجو والمزاج الثوري الذي ساد في العالم العربي بدءا من تونس وربما كانت حركة المعارضة السورية - ومعظمها موجود في الداخل- عشية اندلاع الاحتجاجات الأكثر استعدادا لاستيعاب التحركات وقيادتها من بين مثيلاتها في مصر وتونس حيث فوجئت معظم القوى السياسية في هذين البلدين بالمد الجماهيري ولم تكن متهيئة لقيادته رغم أن الشروط الموضوعية كانت متوفرة...بمعنى آخر أن التحرك الجماهيري في سوريا كان مقدرا له وفق طبيعة توازن القوة الموجود في الداخل أن يؤول في نهاية المطاف إلى انتصار التيار الديمقراطي الذي يمثل البديل الأفضل للنظام الدكتاتوري الحاكم لولا دخول الولايات المتحدة على الخط وإدخال عناصر غريبة إلى المشهد اعتمدت البعد الطائفي من اجل تحويل المعركة ليس بين نظام دكتاتوري وقوى ديمقراطية بل بين نظام علوي وغالبية سنية بما يؤدي إلى حرب أهلية وانهيار الدولة وهو ما يرضي إسرائيل والسعودية...

لقد حصل في بداية الثمانينات من القرن المنصرم صراع مفتوح بين التيار الأخواني السوري ونظام حافظ الأسد انتهى بتوجيه ضربة ماحقة للتيار فيما سمي بمجزرة حماه والتي قام بتنفيذها رفعت الأسد شقيق الرئيس حافظ بدا بعدها أن التيار الأخواني لن يستعيد الحياة خاصة وأنه لم يلق تعاطفا مع الشعب السوري بما في ذلك السنة في بلد ذي تقاليد علمانية عريقة تتعايش فيه ديانات وقوميات مختلفة. وقد حاول الأمريكيون والسعوديون في البداية توظيف رفعت الأسد الذي يعيش في المنفى بعد أن أبعده أخوه ولكن يبدو أن المعارضة السورية التي تعيش في المنفى نبهت الأمريكيين والسعوديين إلى أن رفعت الذي كان يرأس وحدات عسكرية تسمى "سرايا الدفاع" يحظى بسمعة سيئة للغاية في أوساط الشعب السوري بسبب الممارسات الخارجة عن القانون التي كانت تقوم بها السرايا أيام كان رفعت داخل سوريا..وكان حافظ الأسد أصدر أمرا بحل تلك السرايا إثر إبعاده أخيه و بعد أن خاض معها معارك دامية...

لقد جمع الأمريكيون عناصر شتى من السوريين الموجودين في الخارج والكثير منهم لم يكن له تاريخ في معارضة النظام السوري ليشكلوا المجلس الوطني السوري بوجه علماني ولم يسمحوا لتيار الأخوان باحتلال مركز الصدارة رغم أن الكثير من المؤشرات توحي بأنهم سيكون لهم الدور الأكبر في سوريا ما بعد الأسد وما طبيعة المجموعات المسلحة التي ترسل إلى سوريا إلا دليل على أن الوجه العلماني للمعارضة السورية الذي يظهر على شاشات التلفزيون ليس إلا للتسويق وأن القوة الحقيقية ستؤول إلى المسلحين إذا ما انهار النظام السوري...

لم يكن تحرك الجماهير السورية المطالبة بالحرية ليشكل مصدر قلق للعراق وهو الذي سلك طريق التعددية والاختيار الشعبي كحل لأزمة السلطة وعلاقتها بالشعب بل يمكن القول أن انتصار التيار الديمقراطي المعارض لنظام بشار ربما يكون فاتحة لتفاهم أكبر بين جارين كبيرين تخلصا من نظام البعث وباتا يشتركان في خياراتهما السياسية بما يمهد الطريق لولوج تجربة تكاملية من نوع جديد لا تشبه تجارب "الوحدة" الفاشلة السابقة كما حصل في برنامج "الوحدة"بين العراق وسوريا في بداية السبعينات وقبلها برنامج الوحدة بين العراق ومصر إثر انقلاب تشرين البعثي في العراق وقبل ذلك تجربة الوحدة الفاشلة بين سوريا ومصر في الخمسينات وهي تجارب كانت قائمة على شعارات قومية سرعان ما أخلت مكانها لاصطراع على القيادة...

غير أن التدخل الأمريكي الخليجي الذي أضفى طابعا مسلحا على الصراع قد حيد قدرة القوى الديمقراطية السورية على تصعيد النضال الجماهيري المدني وقيادته إلى نهاية سليمة تنتهي باستسلام النظام أمام الضغط الجماهيري كما حصل في تونس ومصر وانتقال السلطة إلى القوى الجديدة وأعطى هذا التدخل اليد الطولى للمجموعات المسلحة المدعومة من تركيا والممولة من السعودية وقطر والحاملة فكرا عدائيا لقيم الديمقراطية فكان ذلك بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة على احتمالية أن تتمكن القوى الديمقراطية السورية التي قادت الاحتجاجات من الانتصار وسدت الطريق أمام التطور الديمقراطي في سوريا...

لم تنطلق القوى السياسية العراقية المختلفة من مفهوم متفق عليه للمصلحة الوطنية في صياغة موقفها إزاء سوريا بل كان منطلقها "أن ما يضر الحكومة يفيدني"لذلك وقف معظمها موقفا لا يمت بصلة لمصلحة العراق معارضا رئيس الحكومة عندما وقف موقفا حازما من إيواء النظام السوري للقيادات البعثية التي كانت تدير نشاطا تخريبيا في العراق واتهموه بتخريب العلاقة مع سوريا ومع العرب. واليوم عندما تعبر الحكومة العراقية عن خشيتها من أن انهيار النظام السوري تحت وطأة العنف القادم من الخارج يشكل خطرا حقيقيا عل العراق (وقد بدأت بعض إشاراته من خلال التفجيرات الأخيرة) لاذت نفس تلك القوى السياسية المعارضة للحكومة بالصمت ولم تقدم نفسها منافحة عن النظام السوري كما كانت في الأيام التي سبقت التحرك الجماهيري في سوريا وهي بموقفها هذا مالئت الولايات المتحدة والسعودية لم تأخذ المصلحة الوطنية المتمثلة بضرورة درء احتمال انتقال العنف مجددا إلى العراق بنظر الاعتبار.

(تحدثت أنباء عن مشادة بين رئيس الوزراء نوري المالكي ووزير الخارجية هوشيار زيباري حول الشأن السوري وتفيد بعض التسريبات أن الخليجيين طلبوا من زيباري إن يتناغم مع نهج ابن آخته مسعود وليس مع المالكي مع وعود بمال وفير يوضع في حسابه)

ومنذ بداية الاحتجاجات كان موقف العراق الرسمي معبرا عنه على لسان رئيس الوزراء المالكي واضحا في أنه يقف مع تطلعات الشعب السوري في الحرية وأن العراقيين قد عانوا من الدكتاتورية و لا يمكنهم أن لا يتفهموا مطالب الشعب السوري و دعا إلى حل داخلي للصراع يجنب البلد الحرب الأهلية رافضا التدخل الأجنبي...

و لا يمكن من الجانب الأخلاقي الصرف الدفاع عن نظام ذي تاريخ قمعي ودموي كالنظام السوري و لا يملك المرء إلا أن يقف مع القوى التي تبحث عن بديل ديمقراطي له غير أن انقلاب الصورة وتصدر القوى (البدوية) المسلحة القادمة من الخارج عملية المواجهة مع النظام لابد وان يدفعنا لإعادة الحسابات انطلاقا من المصلحة العراقية الصرفة والتي لا يمكن أن تتمنى انتهاء الصراع بسيطرة هذه المجاميع المسلحة على السلطة هناك...

وليس الوضع في سوريا واحتمالات تطوره مشكلة تخص نوري المالكي وأن من يراهن على هزيمة النظام السوري أمام المجموعات المسلحة وإشاعة الفوضى والحرب الأهلية سوريا من أجل هزيمة السياسة الخارجية لنوري المالكي إنما يراهن بمصير العراق و يفعل بالمثل من يضع رأسه في الرمل ولنا في لقاء طارق الهاشمي بممثلي المجموعات المسلحة أصدق تعبير على المخاطر التي تنتظر العراق كوطن....

من الناحية الأخرى فإن الرسالة التي يمكن للحكومة والشعب العراقي أن يوصلها للنظام السوري هو ان عليه أن يدرك أن انتهاء المواجهة المسلحة لصالحه هو انتصار ضد هذه المجاميع وليس انتصارا على شعبه وأن هذا الانتصار سوف لن يعفيه من استحقاقات دفع السوريون ثمنها الكثير من الدم ألا وهي استحقاق الاحتكام إلى إرادة الشعب غير المزورة في تقرير من يحكمه...على النظام السوري أن يدرك أن زمنه والأنظمة المشابه والأنظمة المشابه قد ولى على غير رجعة وان وطنيته إذا ما بقي منها شئ تتطلب منه القبول بإدخال تحولات سياسية جذرية على النظام إذا ما أراد أن يبقى له ولحزب البعث شئ في الحياة وإذا كانت شراذم البعث العراقي وبقايا أنظمة مبارك وبن علي قد وجدت من ينفخ فيها الحياة ويطيل من عمرها فإن ذلك لا ينطبق عليه....

كما وأن رسالة الحكومة والشعب العراقي للشعب السوري هي أن مخاوفهم من تحول الصراع إلى حرب أهليه يدفع ثمنها الجميع لا تعني التنكر لحقه في الانعتاق من الظلم وإذا كان هناك من فرط بحقه وحرف نضاله عن سيره الطبيعي والذي كان سينتهي بالانتصار لا محالة فهو التدخل الخارجي الذي عسكر الصراع ....

  

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2193 الخميس 26/ 07 / 2012)

في المثقف اليوم