أقلام حرة

قوانين الإمام علي / غالب حسن الشابندر

مقدمة

شكوى صاعدة إلى السماء                        

قرَحٌ مسَّني من صميم ذاك العزم، على مشا رف الرب، قوسين أو أدنى، نحكي له رواية الحب المغدور على ما ئدة الطغام، نبكي بين يديه غوايةَ دنيا، تمنحنا بريقَها الموتور بزيفنا يا سيدي، ولكنَّ ضميرك الحي في نفوسنا، حاط ببقية الله فينا، فالشكر لك يا أبا الفقراء، يا أبا المساكين، يد تتوضا تقرِّح عينيك بلئيم الحقد على كل جميل، تنهش جمال الإنسان بمخالبَ مستلةٍ من نصل سُمِّ حيضه الشيطاني، ينفث قرْنه في جسدِ الرب، يمزِّقه إربا إربا، واليد التي تتوضا لا تسرق يا سيدي ...

هكذا قال عبدك الماكر !

مَسَّني من صميم حزنك في صفّين نصلٌ، يحزّ في داخلي   نزيفه اللاهوتي ... يولول ... يصرخ... ينهش ما تبقى بي من لحم، كاد أن يكون سعيرُه من دمع عيني، يُسعِّرني هياجا لاهوتيا، يزعقُ كالسماء وقد شهقت بسفاح حرام، ينتشر نارا بيني وبين يد تتوضا، أدمتْ وردةَ الحب الوحيدة في هذا الوجود، يضحك كانه خنثى من صنع شيطانها الرجيم، يسكب حقده الاعمى على كل يد لم تتوضا لأنها رغم ذلك لم تخن روح الله !

دعني ...

أتركني ...

سيدي لا أطيقك بعد !

مسَّني منك روح جنَّ جنونُها من جمال الحقِ معرفةً دونها كلَّ معرفة، فما كان من دمي إلاّ أن يهجر لونه أملا أن يُعمِّي عليك حظه من الوجود، ولكن هيهات سيدي، هيهات، إنك تريدُ قتلنا، تريد أن تنفذ سكاكين الوغد في أحشائنا عمقا، علنّا نصرخ من شدة الالم فيستيقظ العالم، تنفشُ المنكودة شعرها احتجاجا، ويلوِّح طفلٌ يتيمٌ بسبابة الموت شهادة على من ظلموه، ويهرع سكران فاخرا فاه الى السماء، يشكوك بخمرة عذابه جبّة رجل دين،نسجها من شرايين زمنه المعدوم، و يغني حبٌ عدموه غيلةً لان جماله لم يكن من نصيب قبح تلك الوجوه، وينبعث مهموم من ركام همومه، تسفح عيونه بالدمع من ظلم وفي الدمع ألم !

ماذا تريد بنا يا أبا الحسنين ؟

دمعة !

دمعة حرّى وحق عينيك الجميلتين، دمعة لا أ كثر، تحرق مكرهم، خبثهم، أياديهم التي تتوضا، عُقدَهمْ التي كانت تغزل داخلهم أمل الفوز المخادع على كل أصيل، وما كنّا ندري يا سيدي، دمعة من ذكراك تشهق بنا شهيق ثورة لا تبقي ولا تذر ...

ولكن متى ؟

حدّثنا سيدي ما الذي يشغل ضميرك ذاك الذي اضاء عتمتنا بلهيب الحق والحقيقة، ماالذي يدور في ذاك الضمير المشتعل بحب الحب لله وحده، ماالذي يبكيك دما، تلك دمعوك نراها، نسمعها، نشمها، نتذوقها، تركض في وجداننا، تفتش عن مكان آمن، لان اليد ا لتي تتوضا لوثت كل بقاع الارض بمنيِّها القذر، بدمها الملوث بدماء أبناءك الابرياء، لقد استظهورك علنا، وشنقوك سرا، يد تتوضا تسرق حتى ذاتك، فكم هي يد قد توضات بمنيِّ الشيطان الرجيم ...

حدثنا سيدي ما الذي يبكيك ...

كنت تقول : ليس الزهد أنْ لا تملك شيئا وإنما الزهد أنْ لا يمكك شيء ...

هؤلاء سيدي سرقوا عيون الله، فما بعد ُنبصر !

كنت تقول : الفقير حبيب الله ...

هؤلاء سيدي زرعوا بذرة الموت في قلب كل شريف ... شيَّدوا من جماجم شبابنا قصور هارون الرشيد يطِّلِّون من شرفاتها، على تلال جماجمنا، تتدحرج على شفير سكاكين الحقد ... إنها لعبة جميلة يقدمونها لابنائهم المؤمنين جدا جدا !

سيدي كنت تقول : ما جاع فقير الا بما متع به غني ...

هؤلاء يا نبي الاحرار يلعقون دمنا زكيا، ويفرزونه منيِّاً شيطانيا، يسقون به بطون جائعاتٍ غرثى، في دهاليز صلاة تشع بنازلات الموت خنقا ...

تلك أياديهم التي تتوضا سيدي !

كنت تقول : الانسان بنيان الله ملعون من يهدم بنيان الله ...

سيدي هؤلاء نبشوا قبور الموتى الذين كانوا يحلمون بعالم سعيد لكل انسان واحرقوها بحقد الاولين والأخرين ...

مسني منك شوق يطرب لرقصة جسد طاهر، يطفو لهيبه القدسي على سفح وعد جميل، يوزع ابتسامات العشق الصوفي بين حناينا ...

لعلنا نأمل من جديد ...

1- الزهد ... نظرة إنقلابية

قال الإمام: (ليس الزهدُ أن لا تملكَ شيئا، إ الزهدُ أنْ لا يملككَ شيءٌ) .

حكمة 655 من نهج البلاغة جزء 20

نظرة تأسيسة يطرحها علي بن أبي طالب للناس، كل الناس، حول مفهوم الزهد حيث اتخذ لدى كثير من المدراس والفلسفات الشرقية والغربية منحى عقيم المعنى، معوّج الطريق، يتناقض مع بداهة عطاءالحياة وعمارة الكون الرحيب، فالزهد في عرفها أنْ لا نملك شيئا من هذه الدنيا، من هذا الوجود المترامي الاطراف، أن نحرم أنفسنا من كل خيراته وبركاته وثماره،فيما كل ما يزخر فيه يعلن بصريح حاله إنه لخدمة الانسان، ومن أجله ماديا ومعنويا، فالوجود مخلوق غائي بلغة الاديان، اي خُلِق لغاية أو غايات، بصرف النظر عن عقم مبدأ الغاية في تحليل الاشياء وطرح الحجج في قاموس العلم .

الزهد في مدرسة أو رؤية علي موقف آخر، فلسفة مغايرة تماما، تنبع   من تصوره باصالة الروح الانساني، ومن إيمانه إن التركيبة الداخلية أوالمحتوى الداخلي للانسان هو المسؤول عن صناعة التاريخ، ومن هنا، انطلق في ترسيم خارطة جديدة للزهد، لم نجد لها أثرا عند قدماء الفلاسفة والحكمة ولا عند اللاحقين لهم، وما زالت رؤيته هذه مجهولة لدى علماء الاخلاق والسلوك للاسف الشديد ...

ما هو الزهد ؟

 

ليس الزهدُ أنْ تزهدَ في هذه الحياة، أن تكتب على نفسك الفقر والعوز والحرمان، أن تُمضي علاقة عنادٍ بينك وبين هذه الدنيا، بل الزهد أنْ لا تكون عبدا لها، فانت لست زاهدا حتى لو أمضيت عمرك كلَّه لا تملك شيئا، ولكن مجرد أن تعرض عليك الدنيا من زخارفها ممَّا لا يُسجِّل حضوُره حتى على هامش سقط المتاع، ولكنك تخضع وتطمئن وتفرح وتنتشي، فأنت في هذه الحالة مملوك وليس مالكا، مملوك بالقوة، وغدا تكون مملوكا بالفعل، ولكن قد تملك من الدنيا ما لا تحيط به خزائن أرضها وسمائها،إلاّ أنك تحمل في داخلك القوي الشامخ استعداد الثورة على كل ما تملك فيما لو كان سببا في استعبادك وقهرك وإذلالك، فانت إذن زاهد بما تملك، أنت حر، طليق الوجدان، ذكي الروح، عال الهمة، شجاع الضمير، ليس لأي قوة أن تخارك لإرادتها باطلا وزيفا .

كذلك كان الكاتب الروسي الشهير تولستوي !

هجر كل ثروته الطائلة، هامَ على وجهه في الصحراء، خوفا أن تصرعه الثروة من جديد، خوف أن يندم على ثورته الزهدية العميقة، خوفا على ضميره من أن ينكسر ندما على تمرده الواعي على تلك الثروة المغرية الهائلة .

هناك زهد خارجي، أنْ لا تملكَ شيئا، حتى وإنْ كان ذلك عن عزم وسبق واصرار، ولكن هناك زهد داخلي، هو أنْ لا شيء في هذا الوجود قادر على استعارتك لهيمنته .... لطغيانه ... لجبروته ... زهدك أنك لا يملُككَ شيءٌ ...

2- التجربة والعلم

حكمة رقم 289، نهج البلاغة تحقيق الفضل أبو ابراهيم

قال الامام: (في التجارب علمُ مستأنَف).

هذا الكلام على بساطته وسرعته وقصره يطرح للعقل البشري نظرية في المعرفة في خطوطها العريضة، التجربة من مصادر العلم البشري، أو التجربة من مصادر وينابيع المعرفة البشرية، سواء كانت التجربة ساذجة بسيطة أو معقدة تعتمد آليات وتقنيات متطورة معقدة، سواء كانت التجربةُ طبيعية أو اجتماعية أو شخصية أو طبية، وإلى ما هناك من ألوان التجارب التي يمارسها البشر، من علماء أو مفكرين أو عاديين.

الفكرة ليست بهذه السهولة من حيث بنيتها الفكرية، لان هناك أكثر من تعريف للعلم، فالعلم كما هو في تفسير أهل المنطق: صورة الشيء في الذهن، فيما هو عند آخرين يُطلق على الاعتقاد المطابق للواقع حسب تصور القاطع، أو لان ذلك فعلا، وقد يراد بالعلم هو ذات المعلوم، فعلم الفيزياء مثلا هو قوانين الكون التي هي من حصة الفيزياء بعد أن صارت قيد الكشف والحضور، كذلك علم الاقتصاد، وهكذا، ولكن العلم في فلسفة بعض المشتغلين به يراد منه القواعد التي تمخَّضت عن عالم الاعتبار، كما هو في قواعد النحو، فهذه القواعد مستلة من كلام أهل اللغة، وليس لها واقع خارج اللغة، ولذلك لا تخضع لقوانين الحكمة النظرية، وهكذا تتعدد المشارب والتعاريف للعلم،الذي هو لغة ضد الجهل .

والآن ...

ما هو مراد الامام من العلم في مقولته هذه أو بالأحرى في فلسفته هذه؟

أعتقد أن الاستعمال ينصرف إلى المعلومات المُستحْصَلة من التجربة، أي العلم هنا ينصرف إلى ما يُكشف عنه، بالتجارب أيا كان نوعها وأيا كان اسمها، وأيا كانت هويتها، وهو تعريف يسير، يغلب على الاستعمال العادي لهذه المفردة.

مقولة علي أو نظريته الذهبية هذه تشير إلى ان التجربة تطلعنا على المستور، وتزودنا بعلم جديد، او بالاحرى بمعلومات جديدة، ولم يبين الامام مجالات الاستعمال، وهذا من فطنته وذكاءه ومهارته في تصريف الحكمة والفكر، لان مجالات العلم من الصعب احصاؤها، ومن الصعب البت بها كما وكيفا.

ثم ...

هي دعوة لحياة التجريب، وبالتجريب انقذت اوربا شعوبها من الجهل والظلام والحرمان، حتى لو قلنا باهمية منطق ارسطو .

3- المشاورة والعقل

قال الإ مام : (من شاورالناسَ شاركهم عقولَهم) .

حكمة 160، 161

كثير من الناس يفهم هذا القانون العلوي خطا، فيظن أو يتصور أن الفعل (شاوَر) هنا يفيد (استشار)، وربما يقع في الوهم أصحاب هذا الفهم لانهم يستذكرون قولاً آخر للإمام يحث به الناس على الاستشارة، فمِّما يُنسب إليه سلام الله عليه (ماخاب من استشار)، وربما التقارب المعجمي هو الذي يوهم بهذا الفهم الملتبس الخاطيء، في حين أن ( التشاور )أعمق مفهوما وممارسة وتأثيرا من ( الاستشارة )، التشاور تفاعلٌ، والمشاورةُ على وزن مفاعلة، تستدعي علاقة جدلية، علاقة أخذ وعطاء، والامام هنا يدعو الى المشاورة لا إلى الاستشارة، المشاورة نقاشُ وبرم ونقض، أي يدعو إلى سيرورة فكرية علمية.

ولكن ما معنى العقل هنا؟

هناك كلام كثير حول تعريف العقل، فقد يُطلَق و يُراد به نورٌ فطري يُسلَّط على الواقع والاشياء والحوادث، وقد يُراد به ملكة تمييز بين الصالح والطالح، وقد يراد به ذات الصالح بحد تعريفه ومصاديقه، وقد يُطلق وينصرف إلى التجربة، وربما يُستعمل بلحاظ منهج فكري معتمد في تحليل العالم والتاريخ كما يُقال على سبيل المثال :العقل الماركسي، او العقل الاسلامي، وقد يكون معناه كل معلومة يختزنها الانسان، سواء كانت صحيحة أو خاطئة، أي مطابقة للواقع حقا، او هي مطابقة للواقع حسب شعور وتصور حاملها ...

والقائمة تطول ...

اعتقد أن العقل هنا يدل على الخزين المعرفي للإنسان، وربما بهذا المنظور يعني ذات العلم من حيث كونه دالاً على معلومه، وعلى هذا الاساس يكون مراد الامام بهذا القانون،اجراء الحوار والنقاش مع الآخرين في ضوء ما يحملون من افكار وتصورات ونظريات، وليس دعوة للاسشتارة .

ولكنَّ هذا المحاور سيشارك الآخرين عقولهم، كما هو نص القانون، شاركهم هنا تعني استزاد منهم، ولا يعني بالضرورة شابههم... ماثلهم... ناظرهم,,, فالنتيجة هي الاستزادة، فكرا وتجربة وحكمة وتصورا ...

إنهم الناس ...

لا فرق بين واحد منهم وآخر، مهما كان دينه، ولغته، وجنسيته، ومذهبه، ولونه، ووطنه، إنهم الناس عموما ...لانَّ كلَّ واحد منهم خزين من العلم وإنْ لم يشعر ...

إنهم الناس ....

وبالتالي ... ليس هناك غبي على الاطلاق ...

4- الحرية أوّلا

قال الإمام : ( لا تكن عبدا لغيرك وقد خلقك الله حرا ) .

قال الإمام : ( لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا ).

تحف العقول عن آل الرسول ص 58 / منشورات الاعلمي، وسنتعمد الصيغةالاولى لانها أبلغ

قبل كل شيء، إن العبودية والحرية هنا ليستا بالمعنى الشرعي المتعارف عليه، حيث العبد ويقابله الحر، العبد أو القن أوالأَمة يباع ويشترى والحر ليس كذلك، وفق قواعد واحكام فقهية سطَّرها الفقهاء في كتبهم على اختلافٍ بينهم في الكثير من المسائل والموارد، فالمصطلح الشرعي هنا غير وارد .

أيضا، الحرية هنا ليست بالمعنى الكلامي، فقد أثيرت مسالة الجبر والاختيار في تاريخ الفكر الاسلامي لإزمانٍ طويلة، واستغرقت جهود ا مضنية، الجواب على السؤال الذي مفاده (هل الانسان مخيَّر أم مجبر)، تحول الى لغز كلامي معقد مازال قائما لدى المفكرين الاسلاميين من ذوي النزعة اللاهوتية الكلامية الفلسفية، وقد تسبب وما زال يتسبب في الكثير من المشاكل الفكرية والسياسية والاجتماعية، والامام لا يتحدث عن الحرية هنا بالمعنى الكلامي ....

إذن ما هو المجال الذي تنتمي إليه العبودية والحرية في قانون الامام هذا؟

اتصور إن الامام ينظِّر للعبودية والحرية هنا بلحاظ المجال الاجتماعي، إنهما مصطلحان موضوعيان، الحرية الفكرية والسياسية والاجتماعية والدينية والمذهبية، الحرية التي يناضل من أجلها الناس اليوم في كل مكان من العالم، والعبودية تعني هنا الاتباع الاعمى، الطاعة العمياء، في الفكر والسياسة والعمران والذوق والاتجاه والدين وما إلى ذلك من ممارسات ومواقف حياتية لا يمكن عدها أو احصاؤها .

فمراد الامام في قانونه هذا هو الحرية الفكرية مقابل الاتباع الفكري بلا دليل وبلا روية، الحرية السياسية مقابل التبعية السياسية جهلا أو تعصبا أو اعجابا باسباب خارجة عن حريم الموقف السياسي بحد ذاته، الحرية الدينية مقابل التقليد الديني ...

الحرية ...

الاستعباد بكل ألوانه واشكاله ....

إنهما طرفا المعادلة في هذا القانون العلوي الخالد، قانون علي بن أبي طالب عليه السلام .

وفيما يقول: (وقد خلقك الله حرا) لا يقصد أن الله جبلنا على الحرية، فلو كان ذلك حقا لا ينهانا أن نكون عبيدا، لان الجَبِّلة لا تنفك عن مجبولها، فمن غير المنطقي أن تطلب من الانسان أن لا يكون ناطقا، لان الناطقية بالنسبة للانسان جبلة كما يقولون في المنطق والفلسفة الكلاسيكين، وبالتالي، فإن قوله: (وقد خلقك الله حرا)، له تصريف آخر. فما هو؟

إنه تعبير رمزيٌ أو معادِلٌ لقوله ان الله سبحانه وهبك الحق بالحرية، وبالتالي، ليس لك الحق أن تكون مُستعبَدا، طوعا أو كرها، إن ا لله لم يجبلنا على الحرية، ولم يهبنا حق الحرية، بل وهبنا الحق بالحرية ... الحرية مقابل الاستعباد والتبعية والتقليد ...

وفيما وهبك الله الحق بالحرية فلا يحق لك أن تكون عبدا، إنك في هذا الموقف تجافي نعمة الله عليك، بل تخالف ما يريده الله لك، فالله يريدك حرا وانت تريد لنفسك أن تكون عبدا ....

ثم ....

وفي ضوء هذا البيان الصافي العميق : ـ

الحرية تُؤخذ ولا تُعطى...

                       5

ما دام في العمر بقية  

قال الإمام : ( من لم يفُت لم يمُت) .

حكمة رقم 525، نفس المصدر

يطرح الامام في هذه المعادلة البسيطة معنى عميقا يتصل بالحياة وموقفنا منها وتعاملنا معها

كثير من الناس تتعطل فيه همًّة الحياة إذا تقدم في عمره، وتتعثر في وجدانه لغة الحب إذا أصيب بوهن الجسد، وتتكاسل في خياله صور الامل إذا ما قست عليه الأيام، وتعطب فيه تطلعات القوة والحضور والسطوع إذا تعرض لتلف في جسمه أو ماله أو أواسرته أو وظيفته ... وبهذا تنقلب حياته إلى عطل وكسل وتراخي، تضيق به الدنيا بما رحبت، وتتقلص في رؤيته مساحة الوجود العريضة، وتمضي أيامه الباقية من عمره ثقيلة ... باردة ... ساكنة ... وربما تتحول مهمته بالحياة انتظار الموت ليس أكثر.

الامام يطرح في هذه المعادلة رؤية مغايرة، فما دام الانسان على قيد الحياة يمكنه أن ينتج ... يمكنه أن يبدع ... يمكنه أن يعيش بالمعنى الذي يستحق أن يسمّى عيشا، فمنْ لم يمتْ لم يفتْ، أي لم تفت عليه بركة من بركات الوجود، لان الوجود معطاء، ولا ينضب عطاؤه، وعطاؤه درجات ومراتب، وكل انسان يستطيع أن يستنفذ من هذه الدرجات والمراتب بما يتناسب مع عمره وصحته وقوته وممكناته وظروفه ...

الفيلسوف البريطاني برتراند رسل قد بلغ من العمر عتيا،ولكنه كان يواصل طرح الافكار والتصورات والنظريات، وكان تولستوي يكتب الروايات الطويلة وهو قد تجاوز السبعين، كذلك ديسوفسكي ...

معادلة (علي) الجديدة تنطلق من فهم عميق للكون، فالكون حركة وليس سكونا، وللروح الانسانية، إذ هي طاقة متجددة، رغم تقادم الزمن.

علي لا يريد للانسان أن يكون عالة على الوجود، فهو إذا لم يستطع اقتحام الجبال يستطيع أن يقتحم السهول، وإذا لم يستطع تليين الحديد يستطيع تليين التراب، وإذا لم يستطع أن يحمل السلاح دفاعا عن الوطن أو العرض أو الحق يستطيع أن يقول كلمة واضحة قوية ساطعة في أي ميدان من هذه الميادين، وإذا لم يستطع رفع حجرة يتسطيع زرع وردة، وإذا لم يستطع القراءة يستطيع الكتابة، وإذا لم يستطع الكتابة يستطيع الاستماع ...

سئل توفيق الحكيم عن شعوره لو عرف متى سيموت، فقال : سوف أهرع سريعا لانجاز ما يختمره فكري وخيالي من مشاريع كتابية وفكرية ...

جلدمار كتب نظريته في التاويل وعمره كان تسعين عاما، وتزوج أكثر من ممثل وعمره تجاوز الثمانين ...

الانسان الغربي لا يعرف معنى للعجز، فيما الانسان الشرقي حينما يبلغ الاربعين يفكر بتجهيز كفنه وقبره .

(لم يفُتْ منْ لم يمت) !

الدليل الحي على هذه المعادلة الفذة مكتشف نظرية الانفجار الكبير، يفكر ويكتب ويخطط وهو عاجز بدنياً بالمرة !

ذلك أن الحياة تدب في شرايينه !

لحياة مشروع لم ينته ... فما دمت حيا تستطيع أن تنتج، وإن كان الانتاج غير ذي بال من الوهلة الاولى، إذ عليك أن تدرك، بان الخير يتراكم، وذلك بنص القرآن الكريم، فالزبد يتلاشى ويموت،وما ينفع الناس يمكث في الارض .

إذا بلغت الاربعين لا تحفر لنفسك قبرا، بل اختط لنفسك حياة جديدة، تعطي بمقدار ما يسمح لك عمرك وطاقتك وقوتك وروحك ...

فمنْ لم يمتْ لم يفتْ..

        

                         6

حق الوطن على المواطن

حكمة رقم 451 .

قال الإمام: (ليس بلدٌ بأحقّ بك من بلدٍ، خيرُ البلاد ما حملك) .

كثيراً ما قيل في هذا المعنى، ولكن بلغة العتاب والحزن والحسرات،ولكن علي يؤسس هنا لمعادلات، أفكارا، تصورات ...

البداية هي أممية الارض، فهذه الارض للجميع، لكل منْ عليها، امس واليوم وغدا، الحدود مصطنعة، خلقها الانسان، الله خلق البرية بلا حدود، نحن الذين اجترحنا الحدود، واصبح للحدود معنى سياسي، تعرَّض لمشكلات ومشكلات تسببت في حروب ودمار، وهي متحركة كالرمال، لا تثبت ولا تستقر ...

البلد ليس إلها، الوطن ليس إلها، لا يعني هذا خيانة الوطن، مجافاته، العبث بمقدراته، نحبه، ونعطيه، نناضل من أجل سلامته، ولكنه ليس ربا، ليس معبودا ...

المواطن،أو بالاحرى الانسان هو الأحق بالبلد، بالوطن، وليس العكس، لأن عمران الوطن بالانسان، وأنس الوطن بالانسان، وسلامة الوطن من جهد الإنسان ... الوطن هذا قد تسفيه الرياح فيكون قاعا صفصفا، ولكن الانسان باق.

المعادلة تؤسس لحرية الانتقال، حرية الانتقال، ومن ضمنها حرية السفر، تعتبر من الحقوق المهمة التي تنص عليها الدساتيرالعالمية ... هذا ما يمكن أن نستنتجه من روح النص، من خفايا النص الشريف .

يقول: (خيرُ البلادِ ما حمَلَكْ)

الكلام التقليدي يصرف (الحمل) هنا إلى مضمون ضيق عسير الهضم على ذوي القلوب الذكية والوجدان المشحون بالحياة الحرة...

خير البلاد ماحملك، اي خير البلاد ما استوعبك رزقا ... حرية ... كرمة ... جمالا ... احتراما ... أُلفة ... فكرا... فليس بالخبز وحده يعيش الانسان !

نعم ...

ربما الخبز مقدمة، لان القوة الغاذية كما يقول ابن باجه وقبله ارسطو في كتابه النفس مقدمة للقوة الحساسة ومن ثم القوة الناطقة ...

ولكن، ماذا لو امتدت يد القوة الغاشمة مباشرة إلى القوة الناطقة وخنقتها ... زهقتها ...أرهقتها ... قمعتها ...؟

الدعوة الى الهجرة في سبيل عيش أرغد، حرية أرحب، مجال أكثر أمنا، وأكثر تفاعلا مع الفكر والعلم ...هجرة ميمونة ...

ولكن هل مسؤولية الانسان تجاه وطنه معدومة ؟

لا بطبيعة الحال ...

تقول حكمة هندية: (حرمة بلدك عليك كحرمة أبويك، كان غذاؤك منهما وأنت جنين، وكان غذاؤهما منك) .

الخلاصة الوفية،أن العلاقة بين الوطن والانسان جدلية، ولكن الانسان أهم وأعز وآكد ....

علي الوطني العالمي الاول في التاريخ .

                               7

تجاذب القيم الأخلاقية

حكمة رقم 454

قال الإمام : ( إذا كان في رجلٍ خلة رائعة، فانتظروا منه أخواتها) .

لا أقول إنها نظرية في الاخلاق، ولكن أقول إنها خاطرة، ولكنها خاطرة معززة بالواقع.

أقول نظرية، فذلك صعب، ولكن قد اتشجع وأقول إنها ظاهرة متكررة، طالما تستطرد شواهدها ...

ليس بالضرورة من يملك سجية الكرم شجاعا، وليس بالضرورة من يملك سجية الشجاعة متعاونا، وليس بالضرورة من كان متعاونا اتخذ من الزهد سلوكا في حياته، وليس بالضرورة من كان زاهدا في هذه الحياة كان ودودا هشا وبشا ...

العلاقة بين هذه المفردات الاخلاقية ليست علاقة سببية، ولا علاقة شرط، ولا علاقة قيد ...

ولكن هناك تقارب وجداني بين هذه المفردات الاخلاقية الايجابية، هناك أشبه بالالفة الروحية بين هذه المصاديق الاخلاقية الحسنة، هناك تجاذب بين الأثار التي تترتب على كل مفردة من هذه المفردات من مكارم الاخلاق ...

بناءً على هذه المقتربات التي هي ليست بحكم الضرورة أنشا عليٌ تصوره هذا، تصوره العملي الاخلاقي العظيم ...

أن بناء تصور في كثير من الحالات ليس بالضرورة يجب أن يكون حاسم العلاقة بين المقدمة والنتيجة، بل من المهم أن نبني تصورات في كثير من الاحيان تكون فيها العلاقة بين المقدمة والنتيجة راجحة ...

وليس من شك، وانطلاقا من الروح العامة لتلك المفردات الاخلاقية الجميلة، وبتأييد من الواقع في كثير من الحالات، إنَّ كون صديقك شجاعاً يجعلك تنتظر منه المروءة، وكونه عادلاً يجلعك تنتظر منه الكرم، وكونه كريماً يجعلك تنتظر منه التسامح،وكونه متسامحاً يجعلك تنتظر منه التعاون، وكونه متعاوناً يجعلك تنتظرمنه الأمانة، وكونه أميناً يجعلك تنتظر منه الصدق، وكونه صادقاً تنتظر منه الوفاء ...

وهكذا ...

ليست العلاقة سببية ولا اشتراطية ولا قيدية،ولكن علاقة تجاذب وتآلف بالروح والمعنى والآثار ...

علي يريد في هذا القانون أن يؤسس لشيء عظيم، إنه الثقة بصاحب الخلة الجميلة ...

أي خلَّة ...

الصدق ... الأمانة ...التسامح ...الحب ...العطاء ...الإيثار ...التعاون ...الشجاعة ...الحلم... الوفاء ... الزهد ...الكرم ... الأخلاص .

علي يريد أن يؤسس لمفهوم وحدة الاخلاق لا على اساس الضرورة بالمعنى الفلسفي، بل على اساس المفروض الذي ينبغي أن يكونْ .

الضرورة الوجدانية

                           8

القسمة الحاصرة للعلم

قال الامام: (العلم علمان: مطبوعٌ ومسموع، ولا ينفع المسموع، إذا لم يكن المطبوع).

عوالم العوالم، 1 ص 235

هل هي قسمة حاصرة؟

يبدو هي كذلك، فأي علم إما هو مطبوع أو مسموع، ولا ثالث لهما، والعلم المطبوع كما أفهمه هوالعلم الذي نختزنه، فنحن نعلم على سبيل المثال بان افلاطون مات قبل ارسطو، ونعلم أن المعدن يتمدد بالحرارة، ونعم أن المسافة تساوي حاصل ضرب السرعة في الزمن، ونعلم أن الصلاة واجبة في الشريعة الاسلامية، وهكذا، إلى ما شاء الله من معلومات نختزنها في داخلنا بشكل من الاشكال، ونتداول حياتنا في هديها وعلى ضوئها في كثير من الحالات والاحيان، بصرف النظر عن كونها صحيحة أو غير صحيحة

ولكن ها هنا سؤال ...

كيف نحسب أمثال هذه المعلومات مطبوعة فيما هي مكتسبة بتجربة أو خبرة أو أي طريقة أخرى؟

أليست هي مكتسبة ؟

نعم !

هي مكتسبة، ولكن في تصوري إن هذه المعلومات وإن كان مصدرها التجربة أو الاختبار تسربت داخلنا، واستقرت هنا، انطبعت في شعورنا ولا شعورنا، صارت جزءا من تفكيرنا، نتوسل بها وربما لا نشعر، تحكمنا علميا في كثير من الاحيان ولا ندري ...

فهي مطبوعة وإنْ مجازا، وتطبع تبعا لذلك كثيرا من تصوراتنا واستنتاجاتنا ونظرياتنا عن الكون والحياة والانسان، حتى لو بان خطؤها فيما بعد، تبقى تحفر في ذواتنا بطريقة وأخرى، لا تموت، ربما تحفر بشكل إيجابي أو سلبي .

هذا وهناك معارف أو علوم فطرية كما ترى بعض الفلسفات العقلية، ومن أهمها مبدا الهوية، ومفاده ان ألف هوالف، حيث لا تتساهل هذه الفلسفات في فطرية هذا المبدا مهما كان الثمن .

العلم المطبوع أعم من كونه تجربي المصدر ثم انطبع ومن كونه من خارج التجربة كما هو المباديء الاولى حيث تصطلح عليه الفلسفات العقلية المدرسية ا، ويضيف إليها بعضهم بديهيات الرياضيا ت بل الرياضة كلها ...

العلم المسموع هو الذي يخبرنا به هذا أو ذاك من الناس، والخبر أحد مصادرالمعرفة بشروط ليس هنا محل الكلام فيها وعنها ... ولكنْ العلم المسموع لا يجد له فهما واستيعابا فيما إذا كان المخاطَبُ فارغ العلم بالتمام، أي خال عن أي معلومة مُسبقة، فلابد من سابقة علم كي يعرض الذهن عليها ما نسمعه، إن كل ما نسمعه يمر في الذهن من خلال سيل من المعلومات السابقة، المطبوعة،سواء كانت مطبوعة عن تجربة أو مطبوعة بنفسها،أي من دون تجربة ... ومن دون هذه المعلومات يبقى المسموع مجرد كلام ...

هذا هو علي !

                        9

الكلام من ذهب    

قال الإمام: (إذا تمَّ العقل نقص الكلام) .

عوالم العوالم، 1 ص 65 عن نهج البلاغة

كثيرا ما نقرأ ونسمع عن فضيلة الصمت وذم الكلام، حتى شاع قول بعضهم إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، وكثيرا ما قُرِن الصمت بالحكمة والوقار والسلام والأمان بل والعلم والفكر والفطنة !

إذن لِم رزقنا الله نعمة اللسان، ولِمَ يصفْ القرآنُ النطقَ بانَّه (حق) وذلك في قوله: (وإنَّه لحقٌ كما لو تنطقون).

اللغة أكبر النعم التي منَّ الله بها على البشر، وقيل الكثير في اللغة نشاة وتاريخا وتأثيرا واهمية، حتى قال بعضهم إن الانسان كائن لغوي، والانسان بلا لغة يتكلم بها ناقص المهارة ... قليل الاجتماع ... فقير الافكار ...

لعل بعضهم يستدل من هذا القانون العَلوي على أنَّ الصمتَ سمةُ العقل الناضج والفكر الناشط، فهناك علاقة جدلية في ظاهر القانون بين تمامية العقل وقلَّة الكلام !

كان عليٌ نفسُه كثير الكلام، لم يسكت، كان يخطب وفي خطابه تحليل وتركيب واحتجاج ونصح وارشاد، ونادرا ما لم يتحف مستمعيه بفكرة أو خاطرة أو قانون فيما رأي شيئا أوسمع قولا أو راقب ظاهرة، وهكذا، وصف لنا الطاووس والنمل والنحل، وتكلم لنا عن نشاة الارض وتاريخ السماء، وفصَل بين المتخاصمين ناصحا مرشدا معللا ..

الصمت في محله فضيلة، والكلام هوالاصل، والصمت طاريء، او مؤقت، الكلام هو السائد في الاسواق والنوادي والمحافل والمقاهي في السفر والحضر في الوفاق والاختلاف والمدارس والمحاكم والمتاجر في الاسرة والدائرة والشارع، في النهار وفي الليل ... وبالتالي ... في الحياة ...

فالكلام هو الاصل والصمت طاريء !ّ

 

إذن ما الذي يقصده الامام في هذا القانون؟

في البداية، أن عليا بهذا القانون لا يتكلم عن الصمت، بل عن قلَّة الكلام، وفارق كبير بين المعنيين كما هو بدهي ...

عليٌ يتكلم عن قلّة الكلام ليس في كل مجال، ولا في كل زمان، ولا على أي حال، بل يتكلم عن قلَّة الكلام فيما (العقل تم) !

اي نضج واستوى على قواعد صحيحة من التفكير والتحليل والتركيب، ولكن ما المقصود من قوله: (قلَّ الكلام)، وهو الطرف الثاني من المعادلة؟

أتصور، أن قلة الكلام هنا تعبير رمزي عن التركيز والتكثيف والايجاز والتلخيص، اعطاء زبدة، تقديم ثمرة ناضجة، اتحاف المستمع بخلاصة وافية، وليس المقصود هو قلة بالمعنى المعروف، أي قلة حروف وكلمات وجمل.

وليس ذلك على كل حال، فقد يضطر العقل أحيانا، وربما أحيانا كثيرة إلى الإسهاب بالشرح والبيان والحجاج والتوضيح، فهي معادلة لها ظروفها وشروطها، وليست قاعدة كلية تصلح لكل زمان ومكان وفي كل الاحوال والظروف، أي ليست قاعدة مطَّردة كما يقول علماء الفلسفة والمنطق في بعض الاستعمالات ...

ثم ...

ليست العلاقة بين الطرفين علاقة ضرورة، بل عليٌ يتحدث ـ هنا، عمّا ينبغي أن يكون، وليس عمَّا هو كائن، إنه لم يؤسس لقاعدة تكوينية، بل لقاعدة سلوكية ترجيحية في سياق ظروفها وشروطها، إنّه لم يكتشف قانون تكويني، وإنما يؤسس لقانون معرفي سلوكي له ظرفه وشروطه وسياقاته .

المفروض بالعاقل أن يوجز ويلِّخِّص ويكثِّف، لا يُسهب ويطَّرد، فيما كانت الظروف تستوجب الايجاز والتلخيص والتكثيف .... وكم حقيقة ضاعت لان صاحبها أسهب بالكلام عنها وفيها؟

قد يرى بعضهم أن عليا يتكلم في هذه الحكمة عن مجتمع العلماء والعقلاء والذين نضجت فيهم ملكة التفكير، حيث يقل الكلام ويكثر التفكير، ولا أعتقد إن هذا التفسيرموفق، فمن يدعي إن الكلام بين أهل العقل يقل ويندر؟ تلك فرضيات خيالية لا موقع لها من الحقيقة، بل قد يضطر أهل العقل إ لى الحوارات الطويلة المعقدة، مما يستوجب كلاما كثيرا، وربما يطول سنوات وسنوات .

الامام يوصي أهل العقل بالايجاز المفيد والخلاصة الوافية فيما كان الموقف يتطلب ذلك، فهو قانون تربوي تعليمي له ظروفه ومجاله وليس على الاطلاق.

                       10

أثر التجربة على العقل

قال الإمام: (العقل غريزة تربِّيها التجارب).

حكمة رقم 907

قال كثير من علماء الكلام واساطين الفلسفة إن العقل غريزة، كما هي غريزة الجنس والاكل والشرب والتملك على سبيل المثال، وكون العقل غريزة ينفي كونه عضوا، لان الغريزة ليست كائنا عضويا، والذي يتبادر إلى الذهن إن المقصود هنا، ان العقل في حقيقته عبارة عن (تفكير)، والجدير ذكره، إن القرأن الكريم لم يستعمل كلمة العقل بالصيغة الاسمية، وإنما اشار إليه من خلال نشاطه المعرفي (يعقلون، يفكرون، يتدبرون، ينظرون)، مما قد يُعزِّز هذا الرأي في تعريف العقل، وهو تعريف له مكانته في الفلسفة الحديثة .

يقول الامام بأن التجارب تربِّي هذه الغريزة، أي العقل، والتعبير يصب لصالح تفسير العقل بانه ذات (التفكير)، وليس جهازا عضويا، والتجارب في كلام أو قانون الإمام على نحو مطلق، غير مقيدة بمجال أو زمان أو مكان، فكل تجربة حتى إذا كانت فاشلة أو مُرَّة تساهم في تربية هذه الغريزة، أي تربية العقل ...

ولكن ما المقصود بالتربية هنا؟

هل تعني زيادة معارف؟

ربما !

ولكن يبدو لي إنَّ الاقرب لمرا د علي، إن التربية في هذا الاستعمال تزوِّد العقل ـ بما هو تفكير ــ طرقا ومناهج وبرامج واساليبا، أي طرق استنتاج وتحليل وتركيب واكتشاف، ومناهج بحث ودراسة وتنقيب وتحقيب في داخل النصوص وتضاعيف معلوماتنا،و اساليب معاينة ومقايسة ومقارنة بين الافكار والتصورات والنظريات،وليس المقصود ــ على مستوى فهمٍ أعمق للقانون ـ أن التجارب تزيد من معلوماتي المخزونة داخلي، فإن التربية على التفكير غير زيادة المعلومات، إنها أعمق من هذا المستوى، التربية منهج، فأنت عندما تربيني إنما تمنهج حياتي ... سلوكي ... فكري ...

لم يقل الإمام ان التجارب تزود أو تمون أو تغذي العقل، بل قال تربِّي العقل، والتربية اعمق وأوسع وأثرى معنى وتاثيرا وعطاء من التموين والتزويد والتغذية ...

ولكن هل هذا على نحو الحتم؟

لا ...

بل يعتمد على خلفية المتلقي الثقافية، وعلى ظروف اهتماماته ونوعها وهويتها ونكهتها، التجارب عندما تتراكم تُقدح في الذهن الذكي، ولدى المشتغل بالعلم والمعرفة مناهج تفكير، طرائق تفكير، اساليب تفكير ... وإلِّا َّ سوف لا تخرج نتائج التجارب عن كمية من المعلومات والمعارف سواء كانت على شكل تصورات أو تصديقات ...

نعم، التجارب تختلف في تاثيرها على المجرِّب تبعا لاختلاف الخلفيات الثقافية والاجتماعية والاديولجية والمعاشية، فهي بين أن تكون كمَّاً من المعارف والمعلوما ت تصورية وتصديقية، وبين أن تكون ـ فضلا عن ذلك ـ مناهج استنتاج واستدلال واكتشاف وتفسير.

                          11

ظنون العقل

حكمة رقم 803

قال الامام: (العقلُ الإصابة بالظنِّ ومعرفة ما لم يكن بما كانَ).

يقولون إن ظن اللوذعي يقين، أي ظن المتمكن من الفكر، المتمكن من كيفية استخدام عقله في حل المشاكل أو تحليل الظواهر أو اكتشاف الاسباب أو أي عملية عقلية أخرى ... هذا المتمكن، يكون ظنُّه مصيبا، أي يصيب الواقع، ولذلك يحتل ظن هذا اللوذعي مكانة كبيرة ومعتبرة لدى الآخرين، لانه يمتاز بالمهارة الفكرية، والقدرة على النظر الثاقب فيما متوفرٌ لدية من معطيات ومعلومات سابقة على طريق حل معضلة أو تحليل مشكلة أو اكتشاف سر أو تفكيك نظرية، أو استجلاء مفهوم، أو إرجاع قضية إلى أصولها الأولية وجذورها البعيدة ...

هذه هي القراءة الجوانية للحكمة، ومن هنا، قد نستفيد من أنَّ العقل المشار إليه في الشاهد ينصرف إلى النشاط الذهني المُتَّبع للقواعد الصحيحة في التفكير، وليس الذهن الوقاد فقط ... ليس الذهن الذكي وحسب ... ليس الذهن النشط وكفى .... ليس الذهن الموهوب ولا غير ... بل هنا أيضا، استخدام الطرق الصحيحة في التفكير، فالذكاء وحده لا يكفي، بل قد يصيب ظن العقل العادي باتباع الطرق السليمة في التفكير، فيما يخفق الذكاء الوقاد بتجنب هذه الطرق .

الامام هنا يريد أن يطرح لنا مقياسا في تسمية (العقل ) عقلا، في استحقاق هذا العنوان عن جدارة، إنه العقل الذي يصيب ظنُّه الواقع، وإلا كل عقل هو عقل بحد ذاته ... سواء كان يصيب بظنه الواقع أويخطئه .

ولم تنته المعادلة بعدُ .

هناك مقياس آخر، إنّ العقل: (معرفة ما لم يكن بما كان)

كيف؟

أي معرفة المجهول بالمعلوم، معرفة المستقبل بالماضي، معرفة المخفي بالظاهر، معرفة مالم يحصل بما حصل !

كيف؟

انْ يتحرك فيما عنده من معلومات، جمعا وتنسيقا وترتيبا ومن ثم استنتاجا واستخلاصا !

حركة من المعلوم إلى المجهول، لا عقل بلا معلومات سابقة، ولا حركة بلا انتقال بين المعلومات السابقة، ولا نتيجة بلا ربط بين ما عندنا من معلوما ت من أجل معلوم جديد ...

وقد قال بعضهم إن العقل هو هذه الحركة بالذات، اي حركة من المعلوم إلى المجهول ...

معرفة (ما لمْ يكنْ) ...!

ما هو المقصود بهذا المقطع الذي هو أهم مقطع في الحكمة؟

(ما لم يكن) بمثابة تعبيرمجازي عن المجهول، عن المطلوب إثباته، عن المخفي، عن المستور، عن الثاوي في ما عندنا من معلومات، معطيات، أفكار، تصورات ...

وهي دعوة غيرمباشرة إلى تشريح ما نختزنه ونحتفظ به،

وهي دعوة غير مباشرة إلى عرض ما نواجهه من مشاكل ومعضلات على ما عندنا من خلفية معرفية هائلة ربما لا نشعر بها ...

وهي دعوة غير مباشرة إلى فهم طرق الاستدلال والاكتشاف والبحث والتطوير .

بل ...

هي دعوة غير مباشرة إلى تنمية العقل وتطوير مهاراته وفنونه وطرق تفكيره ...

                              12

العلم قوَّة

قال الإما م: (العلم سلطان من وجده صال به، ومن لم يجده صِيل َعليه) .

حكمة رقم 660

لقد قيل عن العلم وأهمية العلم كثيرا، لقد نظّر كثيرون للعلم، عن تأريخ العلم، وعن طرائق وسبل تحصيل العلم،

وعن علاقته بالاخلاق، ودوره في تطوير المجتمع البشري، وصناعة التاريخ، واليوم، حيث مضى العلم خطوات جبارة على طريق الاكتشافات والتقنيات والتكنولوجية، يُثار حول العلم كلام كثير وكثير، يتسم بالجدّة والعمق، وذلك بعد أن اخترق العلم مملكة المنوع ... باحة المحرَّم ... المخيف ... التابو ... التلاعب بالجينات مما يعني اقتحام الطبيعة البشرية، عزو الفضاء مما يؤكد تحطيم اسطورة ألوهية عالم ما فوق القمر، كذلك تزييف نظرية النفس الكواكبية، توحيد كل قوى الطبيعة في قانون واحد هو (قانون كل شيء)، تفتيت الجزء الذي لا يتجزا والله يعلم ماذا لو تمكن العلم من تحطيم الكوارك، الاستنساخ، أنسنة الطبيعة، تحويل هوية الجنس البشري، إزاحة الفلسفة من عرشها، والاستيلاء على أهم أبنائها ومهماتها العزيزة، أي نظرية المعرفة، اكتشاف الاصل الدماغي للاخلاق بشكل وآخر ...

استولى العلم إذن على ناصية الحياة ...

الكلمة الأولى له ...

ليست للدين بكل صراحة، وليست للفلسفة بكل وضوح، وليس للادب بكل جلاء، بل كل هذه الآفاق راحت تسنتجد به، تستعطفه، تستجديه، تأويلا، تفسيرا، دعما، ومن ثم، أن يفسح لها حق الحضور...

والعلمُ ماضٍ ...

والله وحده يعلم ما الذي يحصل بالنتيجة من هذه المسيرة التي لم تقف لحظة واحدة في تاريخ الفكر الإنساني ...

حقا إذن العلم سلطان ...

سلطان بيد من يحوز عليه، سواء كان شخصا، أو حزبا، أو مجتمعا، أو حضارة، أو عشيرة ... سلطان يسود به، ويتحكم من خلاله بمن حوله، وبمن يبعد عنه، بالطبيعة والناس والاخلاق والاقتصاد والمصائر والاديولجيات ....

كانوا يقولون: المعرفة تنتج القوة، أمّا اليوم فقد قفزت هذه المعادلة مديات أكبر وأعمق وأوسع ...

كيف؟

اليوم يقولون: المعرفة قوَّة !

وكم الفارق النوعي بين المقولتين؟

عليٌ كان دقيقا في تعبيره عن العلم، كان يترجم نظرية القرن العشرين والحادي والعشرين عن العلم، العلم لا ينتج السلطان، لا ينتج القوة، العلم نفسه سلطان، نفسه قوة، عليٌ بهذا القول يوضِّح أو يكشف عن (هويَّة العلم)، عن (روح العلم)، عن (جوهرالعلم) !

إنه سلطان ...

إنه ذات المعرفة ...

هناك ذاتية بين العلم / المعرفة من جهة وبين القوة من جهة ثانية، العلم / المعرفة لا تنتج قوة بل هو القوة بحد ذاتها ... القوة ليست نتاج العلم/ المعرفة حيث هناك إمكان إيقاف هذا الانتاج، تعطيله، أعطابه، قمعه، بل العلم / المعرفة سائر في طريقه، يتحدى، يحطِم الاسوار، يزيح العوائق، وتلك هي معالم وخصائص القوة ... لا قوة خارج العلم، حتى القوة الغاشمة ...

هذا العلم يمكن أن نجده وليس فقط ننتجه، يمكن أن نشتريه، يمكن أن نقتنيه، يمكن أن نحوز عليه بمال أو حيلة أو أي وسيلة أخرى ... وهو بيد من يحوزه صائل، والصول يعني الاستطالة، والاستطالة تعني التمكن، ومن قانون الامام نفهم إن من يحوز على العلم يستطيل على كل شيء، ليست الاستطالة بالاديولجية ولا بالدين ولا بالاخلاق بل بالعلم ... يستطيل على الثروة والصحة والجغرافية والتاريخ والاجتماع ... كل شيء ... كل شيء ...

الامام كان دقيقا، كأنه قد أطلع على ما سيحققه العلم على مديات تستوعب كل تاريخ البشر إلى أن يشاء الله في أن يرث الارض وما عليها ...

                         13

اللغة والدليل

قال الإمام: (مَن اشتغل بتفقُّد اللفظة، وطلب السَّجعة، نسي الحجَّة).

حكمة رقم 639

إنه أدب الفكر ...

لا شك أن لجمال اللغة دورا مهما ورائعا في تحبيب الافكار، وتكريس التصورات في الذهن والقلب،اللغة جاذبة مؤثرة فيما لو أُحسن أداؤها، ليس في مجال الأدب وحسب، بل حتي في مجال الفلسفة والطب والفيزياء والكيمياء والاجتماع، بل حتى الرياضيا ت فيما احتجنا لللغة الكلام توضيحا ام حجاجا أو تفسيرا، فضلا عن التاريخ واللغة ذاتها والاجتماع والنفس والجغرافية .

لقد قيل عن صاحب (الإمتاع والمؤانسة)، إنّه اديب الفلاسفة وفيلسوف الادباء، وذلك لما كان يتمتع به اسلوبه الرائع من قوة في الفكر وسطوع في اللغة، يجمعك إليه روحا وعقلا، تستنطق كلماته مستمتعا، متأملا، لانك بين يدي فكر ولغة، اي بين علم وفن، بين فلسفة ولسان .

الدكتور طه حسين كتب الفتنة الكبرى فكان كتابه ثورة في عالم المنهج والبحث وبلغة سامية، شفافة، كذلك كان كتابه بحث في سيرة الرسول، ولا نتحدث عن عباس محمد العقاد الذي اتحف المكتبة العربية بأكثر من ثمانين كتابا في الفلسفة والادب والتاريخ والسير الشخصية، وكان قامة في التعبير الادبي الآخاذ، فجمعك إليه فكرا وروحا ...

اللغة الجميلة ضرورة حتى لو كان موضوع اللغة جافا، ثقيلا، كأن يكون منطق أرسطو أو فيزياء انشتين .

 

إذن أين يقع تحذير الامام في قانونه هذا؟

يخطيء من يتصور إن الامام يدعو إلى نسيان اشراقة اللغة وجمالها ورونقها وسناءها ونحن نفكر، ونحن نبحث، ونحن نكتب نظرية، ونحن نحاور قضية علمية ..

كيف؟

وهو صاحب تلك اللغة السنية فيما يفكر وينصح ويرشد ويحاجج ويصف ويستدل ويفند؟

إن الامام ينهانا عن (التكلّف اللغوي) وليس عن الجمال اللغوي، الجمال اللغوي لا يحتاج إن نفتش عن مفردة، ولا عن سجعة، بل هو سليقة، لها جذرها من الموهبة، ولها ماؤها من المران والممارسة .

السجع يعني تزيين الكلام بنهايات متطابقة من الحروف جملة بعد جملة، والامام يتوسل بذلك استعارة للتحذير من التكلف اللغوي، لان السجع أكثرالشواهد على منهج التكلُّف اللغوي ...

التفتيش عن لفظة تعبير كنائي عن التكلف هو الآخر، وليس تعبيرا عن جهد كريم مخلص عن لفظة مناسبة، وكلمة وافية بالغرض مع جمال يشع بلحاظ علاقتها بالكلمات الاخرى من النص .

لقد عِيب على فيلسوف الحركة المسلم ـ في تصوري ـ ابن باجة اسلوبه في الكتابة، رغم عمق ما كان يفكر وينتج، عابه عليه نقاد ماهرون، وفلاسفة حذاق، وهل نعلم إن بعض افكاره المهمة، خاصة ما يتعلق بثنائية (المادّة والصورة) لم يتوفر عليها فهم واثق من نفسه بخصوصها؟

لماذا؟

الاسلوب الركيك ... المتوعك ...

وبالمثل ضاعت قيمة لزوميات ابي العلاء المعري لأنها ذات لغة جافة...

ولكن ...

كان تشيخوف يسهر ليلة كاملة من أجل كلمة مناسبة، فهل نسي حجته ؟ وهل ضاعت سليقته ؟

لا ...

الإمام في هذا القانون يطالبنا أن نوازن بين اللغة والفكرة، عمق فكري وجمال لغوي، يعني أن يجمعنا الكاتب إليه روحا وعقلا ...

?

                             14

الموضوعية العلمية

قال الامام: (إذا خُلِّي عِنان العقل، ولم يُحبَس على هوى نفسٍ، أو عادة دينٍ، أو عصبيّة لسلف، ورد بصاحبه على النجاة).

حكمة رقم 950

ماذا يريد هذا الرجل من هذه الحكمة؟

إنها درس في الموضوعية العلمية والفكرية والنقدية، هذا هو الفهم الجوَّاني للحكمة، المخفي ... البعيد ... القصي ... وهكذا ينبغي أن تكون قراءة النصوص، الحكمة ربما وعظية، بل هي وعظية فعلا، ولكن رغم وعظيتها تطرح لنا مدرسة في التفكير السليم، منهج في الوصول إلى الحقائق (ورد ـ العقل ـ بصاحبه على النجاة) .

النجاة هي ذات المعلومة التي تطابق الواقع، ذات الحقيقة التي تم التوصل إليها، ذات القانون الفيزيائي أو الكيماوي أو الرياضي أوالحدث الجغرافي أو القاعدة الاجتماعية الذي وصل إليها العقل، وليس النجاة هنا مفهوما اخلاقيا ... إن كثيرا من العقول الجادة تصل للمعلومة الحقيقية صافية مشرقة،ولكنهم يستغلونها لتخريب الارض والسماء والانسان وكل ما هو جميل في هذا الوجود ...

إنها: النجاة العلمية ... الفكرية ... المنطقية ... متمثلة بالحقيقة ...

العقل ليس كائنا مطلقا، يتأثر بما حوله، ويتأثر بما يُملى عليه، ويتأثر بمزاج حامله، وخلفياته، والاجواء التي تتواصل معه، رضي أم أبي، ويتأثر بانتماءت صاحبه العشيرية والدينية والاسرية والمجتمعية ...

هناك نظرية تقول إن كل المعارف اجتماعية، إي نتاج المجتمع، بكل عناصره ومكوناته وثقافته وتاريخه وجغرافيته ... حتى المعرفة الرياضية نتاج الاجتماع، حتى المنطق نتاج الاجتماع، لا معرفة خالصة على الاطلاق!

كان الفيلسوف الانكليزي فرنسيس بيكون قد قفز بالفكر الانساني مديات عملاقة على مستوى منهج وطرق التفكير، وكان من انجازاته ما يسمونه عادة بـ (أصنام بيكون)، وهي اربعة أصنام، صنم العشيرة، وصنم الكهف، وصنم المسرح،وصنم السوق ...

إن الانسان يرتكب فضائع فكرية وعقلية ومعرفية بسبب ارتهانه للحس الظاهر، وبسبب انصهاره بما لُقِّن به وعليه، وبسبب استسلامه التلقائي العفوي لِمَا دَرجَ عليه مجتمعُه من عادات وتقاليد بالية خاطئة، وبسبب ما ينُتج من ارتباك بالفهم من استخدامه لغة المجاز والترادف، وتجييِّر اللغة للمصالح الخاصة ...

هذه أصنام، يعبدها الانسان من حيث لا يشعر، ومن ثم، يتطبَّع بها تفكيُره من حيث لا يشعر، فلا يردُ صاحبَه على مورد النجاة (الحقيقة)، وهو لا يشعر !

(بيكون) يطالب بالتحرر من هذه الاصنام خدمة للفكر والحضارة والمدنية والحقوق والواجبات ...

أصنام (بيكون) مجرَّد أمثلة، وإلَّا هناك أصنام كثيرة، عليٌ بهذه الحكمة يذكر لنا بعضها ...

ولكن هل يمكن للإنسان أن يتحرر تماما من هذه الاصنام ؟

مستحيل ...

إن عليا هنا بصدد تقريب الفكرة، وليس بصدد إملائها على سُنَّة المطلق، حتى وإنْ بدتْ لغته الكريمة لا تفي بهذا المعنى، وإلّا مَنْ يدَّعي التحرر من كل نزعات الذات واملائات الاجتماع ؟

إنها دعوى جاهلة أو مغالية أو مغرضة ...

عليٌ يطالبنا ببذل الجهد قدر المستطاع أن نتحرر من هذه الاصنام، علنا أن نرد مورد الحقيقة ...

الاصنام التي كشف عليٌ عن زيفها ودورها في تزييف العقل وعمل العقل كانت الهوى والعادات والتعصب ...

إنها أمثلة ...

عليٌ يذكرها على نحو الطريقية وليس الموضوعية، أمثلة، ولكنها أمثلة صارخة، ربما أكثر من غيرها غيا وارهابا وتزييفا ...

ولكن ...

هناك شرط جوهري كي يرد العقلُ صاحبَه النجاة ...هذا الشرط جاء في البداية ... لأهميته ... لخطورته ... لدقته ... لقوته وحضوره الطاغي .

يقول: (إذاخُلِّي عِنان العقل) !

هذا هو الاسا س، الحرية المطلقة للعقل، أن يُطلق عنانه، لا أسوار، لا ممنوعات، لا محرَّمات، لا تابو على العقل ...

التحرر من الهوى والعصبية والعادات شروط ثانوية، شروط معززة، شروط داعمة، ولكن الشرط الجوهري هو الحرية العقلية المطلقة ...

ورغم كل هذا ... يبقى الاستثناء قائما... فمن المستحيل ان نصل دائما إلى الحقيقة، إلى المعلومة المطابقة للواقع (وما أُتيتم من العلم إلّا قليلا) .

ولكن ...

ألم نقل إن الحكمة وعظية ؟

نعم، إنها حكمة وعظية أخلاقية ...

إنها الاخلاق العلمية ... وليس أخلاق السلوك بالمعنى المألوف، ليست الاخلاق الاجتماعية المتعارف عليها، بل هي أخلاق البحث العلمي، أخلاق القراءة الفكرية ...

الموضوعية ..

                             15

الإمضاء والعقل

قال الإمام: (إذا أردتَ أن تختم على كتاب، فاعد النَّظر فيه، فإنِّما تختم على عقلك) .

حكمة رقم 595

ماذا يعني (الكتاب) هنا؟

هل هو هذا الكتاب المتداول بيننا بالمعنى المألوف؟

لا بطبيعة الحال، فلا المضمون يساعد على ذلك، ولا التاريخ الذي تنتمي إليه الحكمة العلوية الشريفة، الكتاب كما يبدو هنا الخطاب المكتوب في مجالات التداول،والرسائل المتبادلة بين الناس،خاصة ـ كما يبدو من ظاهره ـ بين رئيس ومرؤوس، بين حاكم ومُعتمَد، بين قائد ومقود، بين خليفة ووكيل، وهكذا ...

ولكن ماذا يعني (الختم) هنا؟

ليس من ريب الختم هنا الإمضاء على الرسالة، على الخطاب المتبادل، على الوثيقة المتداولة، وقد كان لاكثر الحكام والقضاة والقواد ختم،وما زال الختم ساري المفعول بروحه القديمة هذه، ولكن استعيض عنه في بعض الحالات بالتوقيع اليدوي كما هو معروف .

ولكن !

الختم في مخفي المعنى من النص الشريف يعني الموافقة،يعني الإمضاء الفكري، يعني صحَّة ما جاء فيه، يعني إجراء اللازم، وما إلى هناك من مقتربات يمكن استفادتها من هذا الختم ...

هذا هو ظاهر الحال، ونحن نتعايش مع ظاهر الحال، ونبني عليه، ونرتب عليه الآثار والمستحقات ...

الختمُ الظاهريُّ يعكسُ حالة من الرضا والتوافق والانسجام بين الخارج والداخل، ومن هنا كان حجة على صاحبه، حجة قضائية أو قانونية أو علمية أو أخلاقية ...

وهذا أيضا هو ظاهر الحال، وهو المتداول، وهو الذي يتحكم في أصول المحاكم والقضاء وفض الخصومات وتقرير الحقوق والواجبات وتحديد الوظائف والمناصب والمسؤوليات .

ليس مكمن العبقرية في هذه النقطة وإن كانت دقيقة في قول الإمام،أي لها وزنها من جسد الحكمة كلها، حيث هناك ملاحظة في غاية الدقة والمسؤولية والعلمية البارعة ...

يقول الإمام: (فإنَّما تختم على عقلك).

إنَّ ما أمضيتَ عليه، ما ختمتَ عليه، ما وقَّعتَ عليه فإنَّما هو عقلك، أي إنَّما هو فكرك، إنَّما هو تصورك، إنَّما هو مفاهيمك، إنَّما هو النتيجة التي توصلت إليه بطريقة من الطرق ... هي قناعتك ...

العقل هنا مضمون ما وقَّعت عليه، محتوى ما أمضيته، معنى ومبنى الخطاب الذي ختمته بخاتمك الخشبي أو المعدني، فيما أنت ختمت عليه في حقيقة الامر بمنظومة أفكارك وتصوراتك ومفاهيمك وقناعاتك ...

هنا دقة الملاحظة في الحكمة ...

وما يترتب على هذه الحقيقة، أنْ تعيدَ النظر كثيرا في هذا الخطاب، في هذا الكتاب، في هذه الرسالة، قبل أن تمضيها، قبل أن تختمها، قبل أن تمهرها .

يقول الإمام: (إنَّما هي عقلك).

و (إنَّما) تفيد التوكيد بلا شك، وبالتالي، ما امضيته، ووقعَّت عليه، وأجريته هو عقلك بالفعل، لم يقل الإمام (كأنما) بل (إنَّما) فما عليك سوى المراجعة تلو المراجعة وأن تريد أن تختم على كتاب ...

درس للقضاة والولاة والحكام والرؤساء والتجار واصحاب المهن وغيرهم، في المعاهدات والعقود والمتاجرات ...

ولكن الاعمق فيه، كون ما تمضيه هو عقلك ...

                           16

المخاض العقلي

قال الامام: (العقلُ ولادة، والعلمُ إفادة، ومجالسةُ العلماء زيادة).

عوالم العوالم، كتاب العقل، ص 66 .

العقل ولادة !

أي ولادة يقصدها عليٌ بهذه الحكمة الكريمة؟

إن العقل يولِّد الافكار، يُخلِّقها، يستنبطها، فهو ولادة حقا، وولادة مستمرة لاتقف أبدا، وتسمية العقل أو توصيفه أو الاخبار عنه بانه ولادة للمبالغة، وهي مبالغة في محلها، بل قد يكون وصف الولادة بالنسبة للعقل من اروع ما يمكن أن نصف به العقل البشري، ومن أدق ما يمكن أن نسمت به العقل البشري، فالولادة إيذان بجديد، والولادة إيذان بمخاض ومعاناة ومشقة وصبر، ولادة الافكار ليست دائما عفوية، بل كثيرا ما تكون عسيرة خاصة على مستوى الافكار الكبيرة، الافكار التي تغير العالم، وتجدد التاريخ، وتحويل مجرى المجتمعات والامم والاوطان والافكار ...

إن صرفَ وصفِ الولادة في النص إلى المنحى البايلوجي محاولة غير موفقة، وسياق الحكمة يشجع على تفسير الولادة هنا بانتاج الافكار، وتخليق الرؤى، وبعث التصورات، فإن كون العلم إفادة، وكون مجالسة العلماء زيادة، يعطي للولادة الواردة في وصف العقل صفة حركية، صفة جدلية، نشاطاً وانتاجا، تركيب وتحليل، تجميع وتفريق،استنباط اًواستقراء ...

العقل لا يولّد الافكار من عدم، بل مما يملك مسبقا من خزين معرفي، ومن حركة التجارب بين يديه، وعندما نقول أن العقل يخلق أو يخلِّق الافكار والتصورات،فإن الخلق في اللغة والقرآن لا يدل على إيجاد شيء من لا شيء، بل التخليق التصيير، فان أي عملية خلق أو تخليق هي تحويل في مادة سابقة، فالانسان خلق من نطفة، والنطفة خلقت من ماء وغذاء، وهكذا ... كذلك خلق العقل للافكار والمفاهيم والرؤى والتصورات، إنما من خلال العمل في تضاعيف ما نملك من فكر ومعلومات، ومن خلال ما نمر به و /أو غيرنا من تجارب وخبر وملمات ومحن وعمل ...

العقل ولادة !

ولا ولادة بدون جديد، كل ولادة ليست نسخا، ولا استنساخا، كل ولادة نبأ بحد ذاته، نبا جديد، وبالتالي،وحسب هذه المقولة العلوية الحية، العقل مجدد، يجدد، وهو في كل لحظة يمارس عملية الولادة هذه،أي في كل لحظة يجدد، إن العقل لا يكرِّر، لا يجتر، نحن نتصور ذلك، نتوهم ذلك، بل حتى إذا أعاد العقل على لسان حامله ذات الكلمات، ذات الجمل، ذات الالفاظ، فهو يجدِّد في الاثناء.

العقل بعد أن يولِّد الافكار، تتحول إلى علم، والعلم كما تنص الحكمة العظيمة إفادة، الافادة هنا استثمار للولادة، ولادة الافكار والمفاهيم والنظريات والتصورات، حيث كان العقل يعمل عمله الجبار .

توليد العقل للافكار بطبيعة الحال يعتمد في السعة والعمق والكثرة والقوة والاهمية على مقدار ما نملك من خلفيَّة ثقافية، من رصيد معلوماتي، على مديات التنوع المعرفي الذي نتسلح به، ومن هنا، تستبطن الحكمة دعوة جادة إلى المزيد من المعارف والمعلومات والافكار، كي يتحرك العقل حركة توليدية طاغية، نشطة، عميقة، واسعة، معطاءة ...

الحكمة تدعونا إن ننتبه ونحن نعيش حياتنا العادية، فإن عقلنا من خلال هذا العيش يفكر، ينتج، يولِّد، ولكن ربما لا نشعر، في حين قد ينتج ويولِّد افكارا عملاقة ...

                         17

أعماق الذات

حكمة رقم 144 من نهج البلاغة

قال الامام: (المرء مخبوء تحت لسانه ).

ولم ينتبه لها كثيرون، وإنْ انتبهوا فكلام عابرإ ..إنشائي تسطيحي، خطابي، وإنْ تعمَّقوا بها فعند السفح دون العمق القصي ...

المرء في حكمة الامام هنا بالتحديد الهوية النفسية والفكرية والوجدانية، ليس كيانا من لحم وعظم ودم وجلد، بل هو ذات الكيان النفسي للإنسان، كيانه الداخلي، محتواه الداخلي، الذي يصدر منه وعنه في كل سلوكياته ومواقفه وتصرفاته حتى مع نفسه في خلوة وفراغ، فضلا عن أقربائه واصدقائه وأعدائه، في علاقاته الاسرية والاجتماعية، في كل مجالات الحياة وميادين أنشطتها ...

المرء هنا يعادل الذات بكل ما تنطوي عليه الذات من عوالم وأسرار وآفاق وخزائن وذخائر ومعانٍ وتصورات ورغائب وامنيات مقموعة أو مسموح بها ...

كل إ نسان عالَم، والمرء في الحكمة عالم، ليس الكلام عن طول وعرض ووزن ولون ونسب وحسب وجمال وموقع وما شابه ذلك، بل الكلام عن شعور واحساس وتفكير، عن الذات بكل ما تنطوي عليه .

هذه الذات مختفية، ليست ظاهرة، الظاهر منها ليس حجة من حيث النية، ولا من حيث المحتوى الداخلي بالضرورة...

ربما هناك تطابق بين الخارج والداخل،ولكن ربما هناك تناقض أيضا، علما إنه من المستحيل أن يكون هناك تماهي كامل بين الداخل والخارج، بين الضمير والظاهر، مثل هذا التماهي من احلام بناة المدينة الفاضلة.

اللسان في الحكمة هو اللغة، فالمرء مختف تحت لسانه، أي الإنسان متواجد ... حاضر ... في لغته، أو بالاحرى في كلامه ... شخصيته الحقيقية ليس في عمله بالضرورة، بل في كلامه ...!

الكلام هو الضمير، ضمير الإنسان الحقيقي في كلامه ... ليس ضرورة في عمله، حتى وإنْ بدى هذا العمل في غاية الجمال ...

كيف نفهم ذلك؟

شطحات اللسان اليوم أحد وسائل التحليل النفسي، أحد أهم طرائق اكتشاف دوافع السلوك،أحد أهم سبل أكتشاف الموقف الحقيقي من الآخر، من حدثٍ ما ...

شطحات اللسان تزيح اللثام عن المكبوت، عن المقموع، عن الموقف السري، عن النيّة المبيتة ...

أكثر من هذا...

قراءة النص اليوم أصبح علما قائما بحد ذاته، ليس القراءة الابجدية، بل القراءة التحليلية، قراءة خلفيات النص، قراءة العوامل الاساسية التي ساهمت في كتابة النص، ومن أبرز ما خرج به هذا العلم، إن النص ستراتيجية ضخمة، ليس هناك نص بريء، وليس هناك نص خال من مخفي، بل حقيقة النص ليس ما يبديه، ومهما يحمل هذا التصور من مبالغة وهول إلّاَّ أنه يحمل في نفس الوقت الكثير من الحقيقة، ترى كيف يتجرد الانسان من كل ما بُني عليه، وتربّى عليه، ودرج عليه، وشابَ عليه، حتى يكون نصُّه خالص القصد، ظاهره وباطنه سواء؟ من هنا انطلق مشروع قراءة ما بعد السطور، حيث يكمن هناك الماضي العتيد،بكل ما يزخر به من مفارقات واسرار ...

إذن ...

المرء مخبوء تحت لسانه، أي في كلامه، في شطحاته، في اختيار كلمة دون غيرها، في ترجيح صورة بلاغية على غيرها ...

اللغة عالم ....

اللسان مراوغ ...

الخطاب سلطة خفية ...

النص قد يكون باطنا أكثر من كونه ظاهرا ...

المرء بكل كيانه مخبوء تحت اللسان، إذن كم هو عالم ضخم هذا اللسان، كم هو عالم ضخم هي اللغة ...

                               18

كيف يضيع الصواب

حكمة رقم 234

قال الإمام: (إذا ازدحم الجوابُ ضاع الصوابْ) .

البداية بكل بساطة وبدون تعقيد أن هناك سؤالا، والاسئلة تختلف من حيث هويتها واغراضها وطريقة إلقائها،فقد يكون السؤال استفهامياً حقا، يرمي صاحبه المعرفة، وقد يكون السؤال تعنتا ومماراة وتهكما، وقد يكون السؤال استنكاريا، وهكذا، يبدو إن السؤال المطروح في حكمة علي هذه، هو السؤال المعرفي، السؤال الذي يرمي صاحبه العلمَ، المعرفة، استجلاء غامض أو تعليل ظاهرة أو اكشاف سر، والقائمة تطول في هذه النقطة بالذات .

هذا سؤال مطروح ...

ينتظر جوابا ...

جاء الجوابُ زدحما، وبنص الحكمة، إن َّمما يتمخَّض عنه ازدحام الجواب هو : ( ضياع الصواب ... ) .

فماذا يعني ضياع الصواب هنا؟

هل يعني أن هناك جوابا صائبا و ضاع؟ أي أن هناك جوابا صحيحا، صائبا، مصيبا، ولكنه ضاع، أختفى، تلاشى، المقصد واحد والتعابير شتَّى، وبالتالي، هناك خسارة كبيرة، خسارة علم وحقيقة وواقع   ...

كيف؟

فقد يُطرح السؤالُ على مائدة البحث والفحص، ويُطرح أكثر من جواب، ونظراً لكثرتها، كثرة الاجوبة وتشعبها، (قد) يضيع الصائب منها بسبب هذه الكثرة، وإنما يضيع الصائب من الأجوبة الكثيرة هذا بالنسبة لمن ينتظر الجواب، تتيه عليه الامور بسبب هذه الكثرة، فيرتبك اتجاهها، تختلط عليه الاجوبة، فيختفي الصائب منها.

ليس الذنب هنا هو كثرة الاجوبة، يبدو إن الذنب هو عدم قدرة المستمع على تمييز الصائب من الزائف من هذه الكثرة .

إن الكثرة سبب عرضي في ضياع الصواب، وليس سببا جوهريا، ليس علّة حقيقية ... وإلاَّ لو توفر ماهرالتفكير، ذكي الفؤاد، ممن له باع في التمييز بين الكلمات والافكار والمفاهيم،ويملك عقلا ناقدا، فقد لا يضيع الصواب هنا .

و هل من المعقول إنَّ الامام ضد الاجوبة المتعددة تجاه سؤال واحد؟

ليس هذا معقولا أبدا ...

هناك سؤال مطروح ...

السؤال ينتظر جوابا ..

يُطرح أكثر من جواب، هناك كثرة بالاجوبة، كما هي الحالة السابقة، ولكن هذه الكثرة بالاجوبة متداخلة ... متشابكة ... أيُّ جواب من هذه الاجوبة لا يملك استقلالية كاملة، بل يتقاطع ويتلاقى ويتضارب مع الاجوبة الاخرى، فمثل هذه الحالة قد يوجد جواب صحيح، ولكنه متناثر هنا وهناك، متوزع بشكل من الاشكال على الاجوبة المطروحة، وفيما يصعب على المستمع أن يلتقط هذا الجواب الصحيح من هذه النثرية المرتبكة، يضيع الصواب، رغم إنه موجود في هذه النثرية بالذات ...

إن تداخل الاجوبة هنا سبب جزئي في ضياع الجواب، حيث السبب الاهم هو عدم تمتع المُستمع بالتقاط الجواب الصحيح من بين هذه النثريات المتشابكة ...

أما إذا كان المستمع واسع العقل، ذكي اللب، صاحب مهارة استدلالية، مطلعاً جيداً، فقد لا يضيع عليه الجواب الصائب، قد يجمع شتاته من بين هذه النثريات المتعددة ...

هناك سؤال مطروح ...

وهناك أكثر من جواب مطروح أيضا ...

ولكن هذه الاجوبة متنناقضة، بعضها ينفي بعضا، العلاقة بينهما ليست متداخلة، كل جواب عالم قائم بنفسه،ولكنه ينفي نظيره،لانه يناقضه،أويضاده أو يختلف معه ...

هناك جواب صائب، ولكن تبعا لهذا التنانفي قد يختلط على المستمع،على المنتظر الصائب هذا ...

وليس الذنب هو هذا التنافي بين الاجوبة، بل الذنب يقع على عاتق المستمع، القاريء، المنتظر، إنه لا يملك حاسة الفرز بين الصائب والزائف .

ولكن هل سيضيع الصواب على الجميع ؟

لا بطبيعة الحال ... وإلّاَّ حكمنا على كل البشر بالغباء والكساد العقلي، والعطب الفكري ...

هناك سؤال مطروح ...

ياتي جواب واحد ...

ولكنه مزدحم !

كيف ؟

جواب في   غاية التعقيد ...

والسؤال بـ (كيف) مشروع هنا أيضا ...

فروض متعددة ... احتمالات كثيرة ... تشعبات ... تفريعات ... أكثر من مقدمة ومقدمة ... استدلالات متتالية ...

قد يكون الجواب صحيحا في نهاية المطاف، ولكن يضيع على الآخر،بسبب هذه الكثرة من الافتراضات والمقدمات والاستدلالات ...

والمسؤول عن هذه الخسارة بالدرجة الاولى هو المخاطَب، الذي ينتظر الجواب، وليس ذات المنهج، خاصة إذا كان الجواب يتطلب أحيانا مثل هذا المنهج المعقَّد .

يُطرح ُسؤال ...

يأتي الجواب، جواب واحد ...

ولكنَّه مزدحم ...

كيف؟

قد يكون الازدحام في تعبير الامام هو التناقض،التناقض في تضاعيف الجواب، فهو جواب غير منسجم، جواب يجمع بين النفي والاثبات، جواب مضطرب من داخله، واليوم يعد اكتشاف التناقض داخل النظريات والمفاهيم والتحاليل من أهم وسائل النقض،من اهم واجدى براهين الرد والتزييف والاطاحة الفكرية ...

ازدحام الجواب يعني اضطرابه من الداخل ...

وضياعُ الصواب لا يعني إنه موجود وضاع، بل يعني إنه لم يحصل أبدا، هو موجود،ولكنه خارج دائرة الجواب ...

ولا يكفي هذا !

قد يكون الجواب منسجما، قد يكون خاليا من التناقض والتضارب والاختلاف في داخله،ولكن رغم ذلك إنه غير صائب .

وما أكثر هذه
الحالات
!

إذن ما هو مقصد الامام بهذه الحكمة ؟

إن أروع ما في هذه الحكمة إنها تجعلنا نفكر كثيرا ...

                             19

جهل القيمة لا جهل الوجود

حكمة رقم 446

قال الإمام: (الناس أعداء ما جهلوا) .

قال محققون هذه من كلماته الشريفة التي لا نظيرلها ...

أي جهل يشير إليه علي بحكمته أو قانونه هذا؟

إذا كنتَ تجهل وجود شيء كأن يكون إنسانا، أوعالما أو حيوانا مفترسا أونظرية أو موقفا سياسيا لاحد السياسيين أو خطرا يتربَّص بك، حيث ينعدم منك أي تصرف تجاه هذا المجهول الوجود لديك، فهل تستحقُ النقد والتقريع والتشنيع واللوم والعتاب ؟

لا بطبيعة الحال ...

لأنك لا تعلم اصلا وجود هذا العالم، هذا الحيوان المفترس، هذا الموقف السياسي، هذا الخطر، هذه النظرية ...

أنت محلُ نقد وتستحقه، وربما نقد جارح فيما تعلم وجود هذا العالم ولم تستفد منه أو لم تستشره في معضلة تعاني منها، أنت محل نقد وربما جارح فيما تعلم إن حيوانا متفرسا كان على طريقك من البيت إلى الدائرة ولم تتجنبه،بل جازفت وخاطرت ومضيت كما كل يوم إلى دائرتك من ذات الطريق التقليدي، فتعرَّض لك الاسد،وتسبب لك بأذى خطير ...

انت لا عدو ولا صديق ماتجهل وجودَه، لانتفاء موضوع الصداقة والعداوة، أي العالم أو البطل أوالثورة القائمة في بلد ما أو الحيوان المفترس أو مرض استاذك العزيز عليك أوالكتاب الذي يتطرق إلى تفصيل ما عسر عليك فهمه في الرياضيات أوالدواء الذي وصفه الاطباء بانه قاطع الشفاء بالنسبة لبلاء البروستا، وكم لهذه الأمثلة من نظير .

الناس أعداء ما جهلوا من قيمة الاشياء،الاشياء المعلومة الوجود، قيمة العالم الساكن بين ظهرانيهم، قيمة هذه الشجرة الكبيرة التي تضلل مساحات واسعة من الارض، قيمة السياسي المحنك الذي يحلل الاحداث بدقة وموضوعية وهو يتسكع في شوارع المدينة، قيمة الدواء الجديد الذي عُلِمَ وجودُه ولكنْ أهمل استعمالُه، وقيمة الثورة التي تفجرت في بلد ما ضد طاغية متجبر، والامثلة ليست محصورة بل لا يمكن حصرها ...

الجهل بقيمة الاشياء وليس بوجود الاشياء ...

إن الجهل بقيمة الاشياء يحوِّل ــ ظاهرا ــ النافع إلى ضار والضار إلى نافع، يحوِّل ــ ظاهرا ــ الحق إلى باطل والباطل إلى حق، يعطل الطاقات، ويسيِّد الزيف والضرر والشر ...

ما هو موقف من يجهل قيمة تحفة فنية ؟

ربما يرميها في مكب النفايات ... ربما يهملها ويتركها لعاديات الزمن أو لهو أطفاله ... ربما يخزنها إلى غير رجعة ...

ما هو موقف من يجهل قيمة العلم من عالم يسكن جارا له؟

ربما يتعامل معه كما يتعامل مع أي جار آخر ... ربما يخافه ولا يقترب منه ... ربما يرى فيه خطرا ....

ما هو موقف من يجهل قيمة كتاب الطبري وهو ملقى في مكتبته صدفة؟

ربما يتركه يتراكم عليه تراب الزمن المتتالي ... ربما يتخلص منه في أقرب فرصة ممكنة باهدائه لصديق أو قريب ... ربما يمزقه ليجعله سفرة طعام متواضعة ...

إن صور العداء هنا متنوعة ... متعددة ... قد تكون عبارة عن اهمال ... قد تكون عبارة عن حرب وتشويه وعزل ... وقد تكون سجنا وتعذيبا وقتلا ...

فالناس أعداء ما جهلوا من قيمة العلم والعلماء، الفن والفنانين، الشعر والشعراء، الفكر والمفكرين، قيمة الطبيعة، قيمة الوجود، قيمة الحرية، قيمة المساواة، قيمة الشجاعة ....

                             20

تعدد الآراء

حكمة رقم 175

قال الامام: (منْ استقبلَ وجوهَ الاراء عَرَفَ مواقع الخطأ)

فهمُ هذا النص الجليل يستوجب الايغال بالمعنى بعيداً ... بعيدا ... الاستقبال هنا ليس عملية مواجهة تقليدية متروكة للصدفة أو الفرصة العادية،

الاستقبال هنا استقصاء، استقبال وجوه الاراء استقصاؤها... في الكتب ... في الاسفار ... في الدواوين... في الرسائل ... في الخطب ... في العقول ...

وأخيرا ...

الاستقصاء الافتراضي ... وما أوسعه من عالَم ... وما ارحبه من عالَم ... وما أكثره من عالَم ...

وجوه الاراء ماذا تعني؟

إن الامام بقانونه هذا يطالبنا باستقصاء أبرز ما في الاراء ... جوهرها ... لبها ... صميمها ... النقطة النووية في الراي ... لا الهامش منها ... لا المترتب عليها ... بل أصل الرأي ... خميرة الراي ...

إن النّظر في جوهر الراي يغني عن الايغال في كثير من الاحيان في تفاصيله، وإن نقد مذهب فلسفي ابتداءً من قاعدته الرئيسية يغني عن كثير من الجهد المشتت هنا وهناك، فإن نقد النقطة النووية في اي فلسفة أو نظرية علمية أو تصور ادبي هو نقض من الاساس، مما يقود إلى تفكيك كل الدائرة التي تتاسس بسبب هذه النقطة النووية ... ماذا يقى من الماركسية فيما تم تفنيد مبدا اجتماع المتناقضات؟

ماذا يبقى من الاشتراكية الماركسية لو تم تفتيت مبدا فائض القيمة؟

ماذا يبقى من فلسفة المنطقية الوضعية فيما تم نقد قاعدتها التي تقول إن أي قضية لا يمكن ان تكون علمية أو فلسفية فيما لا تخضع للتجريب؟

وجوه الاراء تعبير رمزي عن نقطتها النووية، تعبير معادل عن جوهرها، لغة رائعة عن القاعدة الاساسية للرأي ....

وهل من جديد عن (استقبال وجوه الاراء)؟

نعم ...

الاستقبال هنا في ظني ليس الاستقصاء وحسب، بل ضرب هذه الاراء بعضها ببعض، مقارنتها بعضا ببعض، تقليب مزدوج ...

وما هي القرينة على ذلك؟

إن الاستقصاء وحده في كثير من الاحيان قد لا يعين على تشخيص مواقع الخطا ... التناقض ... النقص ... الدليل الزائف ... إن اكتشاف مواقع الخطا يحتاج في كثير من الاحيان ضرب الاراء بعضها ببعض ...

إن من يريد أن يقع على مواقع الخطا وهو منهمك في قراءة أومناقشة أو معالجة فكرة أو نظرية أوراي أو وجهة نظر فما عليه إلّاَّ أن يستقصي وجهات النظر المختلفة ويضربَ بعضَها ببعض ...

ولكن هل يعني هذا إننا نصيب الصحيح من الاراء بالضرورة؟

لا ...

                           21

الشفاهية والكتابية

قال الامام: (عقلُ الكاتبِ في قلمه) .

نهج البلاغة، 20 ص 328

العقل في هذا القانون العلوي الشامخ لا يعني جهاز التفكير سواء كان الدماغ صرفا أو نفحة روحية لا يعلم سرَّها إلاَّ الله تبارك وتعالى ...

العقل هنا كما اتصوره هو المعقول، او المعقولات، فالنفس الانسانية موج هائل من المعقولات، والمعقولات هي ما يستخلصه العقل من الجزئيات ومن الحوادث المفردة والوقائع الذرية المنتشرة في عالم الوجود ... يسمونها احيانا بالماهيات، ويصفونها بالكلية في كثير من المحاولات، ويرى بعضهم أنها مجردة، أو على درجة عالية من التجريد، على اختلاف مع مدارس أخرى في الوصف والنعت والوظيفة ربما .

وقد قالوا: إن هذه المعقولات تنتسب إلى الانطولوجيا، المعقولات تفكر، وهي العقل عند كثير من فلاسفة امس واليوم وربما غدا ايضا .

وقد قالوا :إن هذه المعقولات لا تموت ولا تفنى مادام صاحبها على قيد الحياة، تتحرك سرَّا وعلانية، في اليقظة والنوم، في كل لحظة من لحظات العمر الانساني، ويغالي بعضهم ليدَّعي أنها تبقى حية نشطة حتى بعد الموت، ويسرح الخيال عند بعضهم ليقول إن مصيرها بعد موت صاحبها الاتحاد بما يسمونه العقل الفعال،وهو العقل المسؤول عن تدبير عالم ماتحت القمر ...!!

وقد قالوا : إنها قد تتسلل خفية على الالسنة فتخرج فجأة ومن دون أن يشعر بها صاحبُها، وقد قالوا أيضا إنها قد تتسلل خفية وبمهارة شيطانية إلى ما نكتب ونسطِّر ونرسم وننحت وننظم من شعر وجميل الكلام وما نخطط ونمنهج .

هل انتهى الامر ؟

العقل ايضا هنا في تصوري خزين النفس الانسانية من تجاربها المرّة والحلوة، المقموع والمسموح، احلام الطفولة،عذابات المجتمع، تطلعات الجسد، ذكريات الليل والنهار، تراكمات التجارب ...

العقل هنا النفس الانسانية بكليتها ...

وماذا يعني القلم في حكمة الإمام عليه السلام ؟

ببساطة مذهلة يعني الكتابة ... الكتابة بعينها ... هذه الحروف والكلمات والجمل وما بينهما من علاقات وروابط بصياغات شتَّى وسياقات متنوعة وصورمتعددة واشكال مختلفة ...

القلم تعبير معادِل في القانون العلوي عن الكتابة بعينها ...

إذن ...

نفهم: (عقل الكاتب في ما يكتب)

سواء كان يكتب قصيدة او قصة أو مسرحية أو رسالة أوخطابا أو كتابا، في أي موضوع كان، وفي أي حقل معرفي كان، وفي أي اتجاه كان ...

والكتابية تعيد وعي الشفاهية حتما ...

والكتابية تعيد صياغة الشفاهية حتما ...

والكتابية أكثراستدراكا، واكثر استنثاء، واكثر تفريعا، وأكثر تشعبا، وأكثر تلميحا، وأكثر تركيزا ... من الشفاهية ...

والكتابية أغنى فرصة للمراجعة،والمفردة المكتوبة لا تنتهي لحظة َمفارقتهِا كما هي المفردة المنطوقة ....

والقرآن يطرح نظرية مهمة، فتعليم الانسان كان بالقلم، أي بالكتابة جوهرا، لان القلم صرفا لا يعلم أبدا ...

وقديما قال العرب : ما سُمِع فر، وما كُتبَ قر ....

عقل الكاتب إذن فيما يكتب ...

إن الكاتب وهويكتب يصبُّ كلَّ نفسه في عباراته وجمله، لا يكتب بجانب من جوانب تكوينه النفسي، بل يكتب بكل كيانه النفسي وإنْ لم يشعر ... إن سعة حضوره فيما يكتب أكبر من سعة حضوره وهو يتكلم .

فهل فهمنا ووعينا بأن أي تحليل لفكر كاتب وفلسفة كاتب ومذهب كاتب يجب أن يبدا من مكتوبه لا من منطوقه ...

المنطوق يتصرَّمه الزمان بتتالي لحظاته، والمستمع قد لا يملك الوقت الكافي لاستيعاب ما يتصرّمه الزمان المتتالي، المكتوب تاريخ حاضر بين أيدينا حتى وإنْ ماتتْ لحظات الولادة الاولى...

يكتب الكاتب وهو أكثر وعياً مما يتكلم ...

ذلك في أكثر الحالات ...

?                       22

وعاء العلم

حكمة رقم 201

قال الامام: (كلُّ إناء يضيقُ بما جُعِل فيه إلّاَّ وعاء العلم فإنه يتسع به).

من أروع ما قراتُ وطالعتُ في فلسفة العقل والعلم والمعرفة، سَبقٌ تاريخي رائع لعلي بن أبي طالب

في هذه المجالات التي استحوذت في الايام الاخيرة على موائد القراءات والبحوث والدراسات الفلسفية والنفسية والفسيولجية...

بدايةً ...

الإ ناءُ معروف، إنه بكل بساطة ما نسميه في استعمال آخر بالماعون، وهي تسمية فصيحة جاءت في القرآن الكريم ...

هذا الاناء يضيق بما نضع فيه من أكل وفاكهة وما شابه فيما زاد عن حجمه، فاض على طاقته الاستيعابية، ربما يتبدى ويتساقط، وربما يكون في ذلك ضرر وآذى وخسارة .... وقياسا عليه أي ظرف كان، كأن يكون كاسا، أو يكون كيسا، أو يكون خزانة، أو يكون محلا، أو يكون جيبا .. بلا استثناء ... والاناء في استعمال علي في هذه الحكمة للمثال وليس للحصر .

كل هذا معروف ولا يحتاج إلى إعمال فكر وعقل، الشق الثاني من قانون علي هو المهم، أي قوله : (... إلّاَّ وعاء العلم فإنه يتسع به) .

ترى ما هو إناء العلم ؟

إنه بكل صراحة وبساطة أيضا (العقل) .

وهذا يفيد أولا وقبل كل شيء، إن العقل كإناء للعلم يخزن العلم، لا شيء من العلم إذن يضيع، هناك خزان للعلم،هو العقل، وهذا النشاط تبع العقل هو ما يطلق عليه فلاسفة الاسلام بالخيال، وربما يقولون عنه (القوة المتخيلة)، ربما ننسى العلمَ ولكنَّه يبقى مخزونا في أخاديد العقل، في عمقه، في فضائه،مهما كانت هوية العقل،سواء كانت الدماغ أو طاقة روحية مجهولة الكنه رغم وجودها، اي معلومة الوجود مجهولة الحقيقة .

ثم ...

هذا الاناء، هذا الظرف، هذا العقل لا يضيق بمخزونه من المعلومات، من المعقولات، بل يتسع بها، أي أن العقل يكبر بها، الكُبر هنا ليس ماديا، وإنما فكريٌ، كلما تُضافُ معلومةٌ جديدة، كلما يُضافُ معقول ٌجديد، العقل يتَّسع بالمُضاف، وكما قلتُ، إن الاتساع هنا ليس ماديا، بل فكري ...

لنحكي أعمق قليلا ...

العقل يستقبل المعلومة، المعقول، ولكن هذه المعلومة أو المعقول ليست مادة ميتة، ليست مفردة جامدة، سوف تلتحم بما سبقها من معلومات ومعقولات، وتتفاعل معها باي طريقة من الطرائق، وبأي وسيلة من الوسائل .

فما الذي يحدث ؟

مزيدا من المعلومات والمعقولات، أي مزيدا من العلم، وعليه، يتسع العقل ... يكبر ... يضخُم ... يمتدد ....

لا خلاف في ذلك ...

سواء كانت المعلومة أو المعقول صحيحا أو خاطئا، سواء كان صائبا أم خائبا، سواء كان في ميدان الفلسفة أو العلم أو الفن أو الادب او الحياة العامّة ...

إن التدقيق بقانون علي الجديد هذا قد يفيد إن معنى العقل هو ذات المعلومات، ذات المعقولات ... وقد يفيد إن العقل جهاز تفكير، ولكنه ليس ماديا ...

العقل يتسع لمعقولاته مهما تضايفت ومهما تكاثرت ومهما توالت، يتسع لها من تجريده المستمر للمحسوسات، ومن ضرب بعضها ببعض داخل ملكوته الرائع، ومن حواره وتواصله مع منتجه أيضا ...

وفيما يفترق العقل عن أي إناء بهذه الخاصة الجوهرية، نستفيد بشكل ربما فيه الكثير من الوضوح، إنه ليس ماديا. كل منا عاش ويعيش تجربة السعي وراء المجهول، العلم يكتشف، ولكن فيما يكتشف تنفتح أمامه مساحات جديدة من المجهول، كل معرفة علمية أو اجتماعية أو نفسية أو حتى عقلية بحتة تضعنا أمام اسئلة جديدة، أمام مشاكل جديدة، وعليه، العقل لا يضيق بهذا الزخم من المعلومات والمعقولات الذي يتوالى بشكل مذهل على مملكة العقل ...

العقل مضياف لما ينتج، لما يُلقى في أعماقه، لما يتعلمه، لما يعقله، ولا يهمل كل ضيف جديد، بل يحفتظ به ذخرا لمستقبل ربما آت لا محالة .

                          23

مجالسة العقلاء

قال الإمام: (جالسْ العقلاءَ أعداء كانوا أم أصدقاء، فإن العقل يقع على العقل).

حكمة رقم 597

لا يذهب فكري إلى أن العقلاء في حكمته الجديدة إشارة إلى أهل الرشاد في السلوك، وأصحاب الخلق الرفيع، وممن التزم باداب العرف والمجتمع، بل العقلاء هنا إشارة إلى أهل الفكر والعلم وحملة الثقافة ورواد الجدل، بدليل قوله فيما بعد : (فإن العقل يقع على العقل) .

إن وقوع العقل على العقل لا يعني من بعيد أو من قريب إن العقل يتفق مع العقل، يتماهى معه، يوافقه،ويسايره ويتطابق وإياه، بل وقوع العقل على العقل يعني أن العقول تتصادم، وتصطرح، وتتجاذب،وتتحاور، لان وقوع شيء على شيء يسبب حركة وصوتا وجلبة ... وهذه ليست من معالم التوافق والتماهي والتطابق، بل من معالم التجاذب والاحتدام والاختلاف، فالعقل عندما يجتمع مع عقل، إنما يكون هناك الحوار والسجال والاخذ والرد والبرهان والاستذكار والتنويه والإبطال والإثبات والاستدراك ...

إن العقول إذا اجتمعت لا تأتلف كما يقول بعض الناس، بل تأتلف على شيء واحد ألا وهو الحراك الفكري بين قبول ورفض، بين نفي وإثبات، بين إجمال وتفصيل، بين اتفاق وافتراق، مجتمع العقلاء، أي مجتمع أهل النظر والجدل والفكر هو مجتمع ساخن بالحركة الفكرية، يتحول إلى بؤر متوترة من الافكار والاراء، هذا التوتر لا يعني بطبيعة الحال العصبية والمزاج الحاد وتبادل الاتهامات، بل التوتر هنا اشتداد الفكر، وتصاعد الحجاج بلغته البرهانية، أي هو مزيد من انبثاقات الفكر .

(العقل يقع على العقل)، أي العقل يجادل العقل، يناظره، يحاججه، فيما لو اجتمع العقل مع الجهل لا يحصل مثل هذا الحراك الحيوي الساخن، وفيما اجتمع الجهال ليس من وراء اجتماعهم غير الكلام السطحي اليومي العادي المكرور.

القرآن الكريم يقول :(وكان الانسان أكثر شيء جدلا) .

الانسان إذن وبنص القرآن الكريم كائن جدلي، وما قاله عليٌ أحدى مفردات هذه القاعدة الانسانية الفكرية الكلية .

أن مشروع المدينة الفاضلة الذي يدعي إن الفلاسفة والحكماء إذا اجتمعوا في مدينة يبطل النقاش، وتسكت الالسنة، لانهم يجتمعون على العقل، ولأنهم لا يتكلمون ولا يفكرون إلا ما ينتبجه ويقره العقل السليم إنما ذلك لون من الوان السفسطة والخيال، بالعكس تماما، إذا اجتمع هؤلاء في مدينة، سوف تتحول المدينة إلى سجال فكري لا ينقطع.

لماذا؟

لأن العقل يقع على العقل ...

إن الامام لا يدعو في هذه الحكمة أو هذا القانون إلى الجدلية الانسانية، بل يكشف عنها، يميط اللثام عنها، يزيل الغبار عن هذه الجوهرة الخالدة، ومن ثم يدعو إلى الالتحام بها، إلى الالتصاق بها، وكم هو رائع عندما لا يشترط بهذه الجدلية موقفا اخلاقيا مسبقا، فسواء كان صاحب العقل صديقا أو عدوا، فإن عقلك إذا اجتمع بعقله سيكون هناك سجال وحوار وحراك، مسيرة، هي مسيرة العقل .

                           24

العقل وديعة الله

قال الامام: (ما استودع الله امْرأً عقلاُ إلّا ليستنقذه به يوماً ما)

بحار الانوار 1 / ص288،ح2

هذه نظرية عملاقة عميقة تطلعنا على غزارة علم علي وسعة فكره،

لا نقول ذلك جزافا وسيتضح الواقع بعد سطور بإذن الله تبارك وتعالى ...

ليس هناك عقل واحد إذن، لم تقل الحكمة أو القانون وهذه التسمية أقرب إلى نفسي من حكمة، بدليل قوله (عقلا) وليس (العقل)، جاءت المادة بصيغة التنكير وليس التعريف كما هو واضح بيّن .

ولكن مدخل فهم القانون هو التساؤل عن مقصده بكلمة (عقل) !

من هنا المنطلق، ومن هنا البداية، فهل الاستعمال ينصرف إلى المعنى الخطابي عن العقل، أي سلوك ممدوح بين الناس، وسيرة مطعَّمة بالقيم الاخلاقية المعتبرة في المجتمع او حتى القيم الاخلاقية فيما يقره العقل والفكر؟

أم ان العقل هنا هو جهاز كما هو جهاز البصر متمثلا بالعين وما يتصل بها والاذن وما يتصل بها، غاية الأمر إ نه جهاز روحي وليس ماديا كما يقول أصحاب النظرية الروحية أو ليكن دماغا صرف، وظيفته التفكير؟

أم أن العقل في القانون ما يعرف بالمعلومات الفطرية الاولى على اختلاف بين فلاسفة المدرسة العقلية فيما يخص عددها وكيفية فطريتها؟

الذي يخطر في ذهني إن العقل بصيغة التنكير هنا لا هذا ولا ذاك ولا ما بينهما بل شيء آخر ...

ما هو يا ترى؟

العقل هنا طاقاته الفذة ... قابلياته الخارقة ... قدراته الضخمة ... وظائفه العملاقة ...

كيف؟

قدرته على التجريد... قدرته على الاستنتاج ...قدرته على الحكم ...قدرته على المقارنة ...قدرته على الربط ...قدرته على الافتراض ...قدرته على تجسيم المعاني ...قدرته على التمثيل ...قدرته على التمييز ..قدرته على التحليل ...قدرته على التركيب ... قدرته على توليد المعاني والافكار الجديدة ... وهكذا ...

العقل في القانون اشارة إلى هذه الطاقات والقابليات والقدرات الفذة ... الرائعة ... التي تميَّز بها الانسان وتميزت به حصرا...

هذه القدرات من فضل الله على الانسان، وبذلك يتم تفكيك الجزء الاول من القانون، ولكنَّ البقيَّة أكثر بركة واهمية وخطورة ...

كيف؟

هذه الطاقات شغاَّلة ... فاعلة ... أي قدرته على التجريد قائمة ومستمرة، قدرته على الحكم قائمة ومستمرة، قدرته على تجسيد الافكار قائمة ومستمرة ... دائم العمل ... دائم الانجاز ...

هل تعطل عقلنا يوما؟

لحظة؟

لا ...

فالعقل إمَّا مشغول ــ من حيث نشعر أو لا نشعر ــ بتجميع مفردات منضوية تحت عنوان متجانس، ثم من حيث نشعر أو لا نشعر يُسقط المتشابهات وُيبقي على القدر المشترك ... أو مشغول بمقارنة بين مهارة مهندس وآخر ... أو مشغول بترتيب حجة لدفع تهمة أو إدانة خصم أو إبطال راي ... أو مشغول بتفكيك نص أو ظاهرة أو حادث ...

وهكذا ...

إذن عندما يقول الامام (يوما) يكون قد امضى ضمنا استمرارية هذا النشاط أو هذه الانشطة، كلا أو بعضا، وليس المقصود بـ (يوم) هنا لحظة تنتظر ظروف خروجها من سجن القوة إلى رحاب الفعل ...

وماذا نفهم من كلمة (استنقذه)؟

بكل وضوح تعني إن هذه الطاقات عاملة ... نافذة ... فاعلة ... التجريد ماض ...المقارنة ماضية ... الحكم ماض ...

وهناك صيغة أخرى للرواية تأتي فيها كلمة أو مفردة (استنفذه)، والاستنفاذ تعبير مجازي رائع عن توكيد الاستعمال، فاعلية الاستعمال ...

وإذن ...

وبناء على ما سبق ....

يكون المعنى: (إن الله وهب الانسان طاقات عقلية عظيمة، وإن هذه الطاقات فاعلية مستمرة ...) !

هل انتهى كل شيء؟

لا ...

إن مفهوم القانون هو أن هناك تطابقا بين الوجود والعقل، فإن الوجود قابل للمعرفة والاكتشاف، وإن العقل الانساني مزود بما يمكِّه من اختراق هذا الوجود واكتشافه ومعرفته بل وتطويره ...

                           25

ثراء العلم بالتجربة

حكمة رقم 34

قال الامام: (في التجارب علمُ مستأنف ...).

لقد مضى بنا كلام عن التجربة في حكم أو قوانين علي بن أبي طالب، كان جوهر القانون السابق إن التجربة تربِّي العقل، الآن نحن مع رؤية أخرى للتجربة، والتجربة هنا استعمال على اطلاقه، تجربة المجتمع، وتجربة الحياة،وتجربة المختبر، وتجربة البحث والاستقصاء، وتجربة الذات ...

ما هو الجديد في الحكمة الجديدة؟

إنَّ في التجربة أو التجارب (علمُ مُستأنف) .

العلم في القانون ليس صورة الشيء في الذهن كما يعرَف المنطق العلم، وإنْ كان يستلزم ذلك بشكل وآخر، العلم هنا قوانين علمية وفكرية واجتماعية، كأن يكون قانون اقليدس أو نظرية آنشتاين أو نظرية اللاشعور في التحليل النفسي الافرويدي العظيم أو أي نظرية أخرى في اي مجال من مجالات العلوم والفنون والاداب .

ولكن ما هو توجيه (مُستأنف)؟

إنه علمٌ ولكن بقيد أو صفة مميِزة،إنه علمٌ (مُستانف) ... أي علم جديد، لم يكن سابقا، كان خفياً والآن ظهر ببركة التجربة، مهما كانت هذه التجربة ...

ولكنَّ جديداً بالنسبة لمنْ؟

للمكتشف؟

للعلم ذاته؟

يبدو لي إنَّه جديد في مضمار العلم ذاته، إنه علم جديد ليس بالنسبة لمكتشفه، ولا للمجتمع، ولا للعلماء، بل للعلم ذاته، لتاريخ العلم، معلومة جديدة، جديدة تماما، ربما تقلب المعلومات السابقة عليها، راسا على عقب، إنه علمٌ مُستأنف، لم يكن بالمرَّة والآن تمظهر للعيان، للعقل، للفكر، لتاريخ العلم، العلم بعد مخاض التجربة يتسع، يتعمق،يتكثر.

هل يغرينا هذا القانون بالقول إن تاريخ العلم عبارة عن تجارب؟

إن تاريخ العلم عبارة عن علوم مُستأنفة، كل تجربة علمٌ مُستأنف، حتى وإنْ كان المُستفاد من التجربة علما خطأ، ليس المعيار بأن هذا علم أو ذاك ليس بعلم بلحاظ المطابقة مع الواقع، العلم هو ما يصل إليه العلماء مهما كانت درجة صحته من درجة خطأه ...

التجربة علمٌ مستأنف سواء أثبتت أمراً كان يكون إن الذرّة مركبة، أو نفت هذا الأمر كما نفى العلم النظرية البطليموسية حول شكل الكون أو نفى أن تكون الشمس تدور حول الارض، فهو علم،وعلم جديد، علم يدشن تاريخ العلم بمفصل جديد، بعتبة جديدة من تطور العلم ذاته .

ولكن هل يعني هذا ان كل علم مستانف تجريبي؟

لا بطبيعة الحال ...

إن الامام يطرح قانون يخص التجربة ودورها في تشييد التاريخ العلمي، أو تساهم في تشييد تاريخ العلم، فمن المشكوك به أن تكون الرياضيات علما تجريبيا أو ان َّالمنطق تجربة، ولذلك الاقرب للمعقول أن نقول : إن التجربة تساهم في صنع التاريخ العلمي ....

هذا ما كان يريده علي والله أعلم .

                             26

تعلم الأهم من العلم

حكمة رقم 59

قال الامام: (العمر أقصر من أن تعلَّم كلَّ ما يحسُن بك علمُه، فتعلَّم الأهم فالأهم) .

ليس من شك إنَّ اسرار الوجود بحر لا ينضب، نصّ على ذلك القرآن الكريم بآية البحورالسبع،والشجرة أقلام، بل إن العلوم التي هي بحوزة الجهد البشري والتي هي نتاج هذا الجهد بحر زاخر وافر، وكل يوم بل كل لحظة يثرى العلم بالجديد ثم الجديد، دون توقف، دون انقطاع ...

كان فيلسوفا مثل أرسطو يكتب في الفلسفة والطبيعة والطب والنفس والمنطق والقانون والسياسة، وكان الفيلسوف يعني الذي ألمَ بطرف بكل علم من العلوم، لذلك ليس غريبا أن يكتب لنا مثلا الخوارزمي كتاب (مفاتيح العلوم)،وليس غريبا أن نقرا عن ( البهائي ) مثلا بانه ضليع بالكلام والشعر والطبيعة والفلسفة والرياضيات،وليس غريبا أن يوصف أحدهم بانه آية في العلوم كلها، ذلك إن مساحة العلوم كانت محدودة، ولم يلبث الجهد البشري أن يتقدم ويتقدم على طريق تحصيل العلوم حتى بات موضوع الاختصاص في العلم قضية محسومة، ثم تطور العلم وإذا بالعلم الواحد يتحول إلى مجموعة اختصاصات، ويتطور أكثر وأكثر وإذا بالاختصاص الواحد مجموعة اختصاصات، فهناك أكثر من اختصاص بشؤون العين الطبية،وهناك أكثر من اختصاص بالذرة، وهناك أكثر من اختصاص بالألكترون، وربما أكثر من اختصاص بالجسيم الصغير الواحد ... وهكذا المسيرة ماضية باتجاه المزيد من التخصص ... ذلك أن اسرار الوجود لاتنضب، ولأن العلم يقفز قفزات مذهلة، خاصة بعد تطور آليات البحث والتقصي والدراسة ...

العلم يحسُنُ بالعلم، لان العلوم تتفاعل فيما بينها،وتتواشج بالمواضيع، وتتفاعل بالنتائج، فكلُّ علمٍ يحسُن بعلم، حتى لو تباعدت المسافات بين هذا العلم وذاك، فعلم النفس يحسن بعلم الفسلجة، وعلم التاريخ يحسن بعلم الجغرافية، وعلم الرياضيات يحسن بعلم الاجتماع،وهكذا، تبادلا وتفاعلا وتواصلا، كلُّ علم يستفيد من نتائج العلم الاخر، بل من نتائج العلوم الاخرى، فهناك وحدةٌ ما بين العلوم .

الانسان مدعو إلى أن يتعلم ما يحسن به ما يعلم، ولكن حسب الطاقة والحاجة لان العلوم بحور زاخرة، يضيع من يفكر بريادة كل شواطئها وسواحلها، ومن المعقول أن يبدا بالاهم ثم المهم، وتحديد الاهم والمهم هنا يخضع لظروف الشخص وطبيعة العلم الحائز عليه ...

الإمام في حكمته هذه يعلمنا منهج الاستفادة من العلوم إضافة إلى علمنا السابق، اي العلوم التي ينبغي أن نحوز عليها إضافة إلى ما نعلم من قبل، كي يترسخ العلم السابق، ويقوم على ساق متينة ..

                             27

معنى إحياء العلم

قال الامام: (ما ماتَ مَنْ أحيا علما، ولا افتقر منْ سلك فهما).

حكمة رقم 109

احياء العلم يعني إن العلم قد يموت .. قد يذوي .. قد يضمحل .. قد يكسل ... قد يعطل .. قد يتراخى ... قد يفتر ... قد يُجتَر ... قد يتكرر ...

كل هذه صور من صور الموت العلمي، وإحياؤه يعني بعث القوة والنشاط والتجديد والهمة فيه، ولكن ما زال المعنى غير واضح ...

ربما هناك نظريات علمية رائعة، ولكن منسية، أو اسدل عليها ستار الحسد والاغفال والاهمال ....

إنَّ تسليط الضوء على هذه النظريات من جديد، إخراجها من عتمة النسيان والاهمال إلى نور العلن والإعلام والطرح، هو بمثابة إحياء للعلم ...

ربما هناك نظريات وتصورات علمية اصطدمت بعدم الفهم والاستيعاب والوعي لسبب من الاسباب، فَتُركتْ على الرف، واودعت خزانة التاريخ، ولكن ياتي من ينهض بتوضيحها وشرحها وبيان الغامض منها وتجلية نقاط العسر فيها .

إنَّ مثل هذا العمل إحيائي، علمي إحيائي، وهو في العمق إضافة وليس توضيحاً وحسب، إضافة إلى تاريخ العلم جديدا .

ربما يتعرض علم من العلوم للسكون، لم يعد هناك من يضيف إليه شيئا، وربما يقولون : إن العلم الفلاني نضج واحترق، لقد قالوا بعد ان اكتشف نيوتن قانون الجاذبية،إنَّ علم الفيزياء وصل الذروة، أي اختصاص جديد بالفيزياء لا يكشف عن جديد، قُضِيَ الامر، ولكن فيما خلفه آنشتين بنظريتيه النسبية الخاصة والعامة نهضَ من جديد بعلم الفيزياء، أنقذه من الاحتراق المزعوم .... فهذا العمل الجبار كان بمثابة إحياءٍ لعلم الفيزياء ....

ربما يتكلس علم من العلوم على منهجية واحدة متكررة، ولكن ياتي من يجدد بالمنهجية هذه،أو يطرح منهجية جديدة في البحث والتوصيف والتنقيب والتعليل والسبر والاستنتاج، كأن ينتقل بالعلم من منهج التأمل والاستبطان إلى منهج الاستقراء والسبر والتحليل ...

إنه إحياء بالصميم .... إحياء بالعمق ... إن هذا الاحياء إكثر ثراءا وعطاء من الصورتين السابقتين .... المثال الصارخ على ذلك إدخال منهج التجريب في علم النفس على يد ( فونت)، وكما هو الحال في علم الرواية الاسلامي، فهناك عمل على استبدال معايير صحة الرواية من سند ومتن إلى القرائن،حيث يكون اصل الصحة هو الوثوق وليس التوثيق ... كم هي النتائج خطيرة التي سوف تترتب على هذا الانقلاب المأمول؟

ربما يكون هناك موضوع لعلمِ، ولكن ياتي عِالمٌ من رواد واساطين هذا العلم يقلب الموضوع راسا على عقب،يغيره، يستبتدله تماما، كما هو علم النفس، فقد كان يعنى بالروح ثم انتقل ليعني بالعقل، ثم انتقل ليعني بالسلوك، سلوك الانسان من حيث هو ظاهرة خارجية مثل الغضب والفرح وبعض الامراض ذات الصلة مثل انفصام الشخصية والعصاب الذهني والوسواس القهري، وأهمل الروح والعقل، فأثرى العلم أيّ ما إثراء، واتسعت المدارس النفسية بشكل مثير بحيث يصعب احصاؤها ....

إن اكتشاف هندسة الجسم المكور، وهندسة الجسم المقعّر، ليس ردا على هندسة اقليدس التي تختص بالجسم المسطَّح،بل هي هندسة جديدة، فبدل الهندسة الواحدة التي تدعي الشمولية الجبارة المتسلطة، كانت هناك أكثر من هندسة، وربما يكتشف العلماء هندسات أخرى ....

هذا الاكتشاف إنقاذ للهندسة اقليدس من جبروت خاطيء، من جمود خفي ينخر في جسمها، في عمقها ...

إن اكتشاف قوانين الاجسام الدقيقة، الالكترون والبروتون والكوارك ليس بمثابة قتل لعلم فيزياء الاجسام الكبيرة الحجم، بل هو إحياء لعلم الفيزياء، تطويره، إثراءه ...

إن ظاهرة النموذج الارشادي في العلم تقتل العلم، فإنَّ تسيُّد الشيخ (الطوسي ) على علوم الفقه والحديث والاصول لمائة سنة متتالية،حجَّمت الفكر الديني الشيعي، وارعبت عقول الاخرين، وألّهت المألوف، حتى جاء ( ابن ادريس ) وخرق هذا المقدس،فكان قد أحيا علوم الفقه والحديث والاصول، إن تسيد نظرية آنشتين بانها الحق الذي لا يمكن تجاوزه خطا كبير، لان العالم مفتوح،واسراره لا تنتهي، ولذلك فيما جاء من يخترق هذه الهيبة، ويثبت لنا على سبيل المثال إن هناك جسيمات أسرع من سرعة الضوء، فإنما يفتح عالما جديدا لانتصارات الانسان ...

هذه الصور من الاحياء يخلد الزمن فرسانها، فهم خالدون لانهم جاؤا بجديد، لانهم قلبوا معادلات التاريخ، لانهم غيروا مجرى الزمن،حتى إذا كان ما جاؤوا به خطا،ويثبت خطأه في المستقبل القريب أو البعيد ...

هذا هو فكر علي بن أبي طالب .

                            28

الاسترشاد بغير العقل

قال الامام: (مَنْ استرشد بغير العقل أخطا منهاج الراي، ومن أخطأته وجوه المطالب خذلته الحيل،ومن أخلَّ بالصبر أخلَّ به حسنُ العاقبة، فإن الصبر من قوى العقل، وبقدر مواِّد العقل وقوَّتها يقوى الصبر).

حكمة رقم 44

كلامي عن هذا القانون العَلَوي الجديد ينصرف بالتحديد إلى الاستهلال أو البداية بتعبير أدق (مَنْ استرشد بغير العقل أخطأ منهاج الرأي)، إذ يتضمَّنُ إلتفاتة دقيقة ثرية بالمعاني والمفاهيم، كلمة ذهبية بكل معنى الكلمة .

الاسترشاد بغير العقل يعني الرجوع إلى غير العقل في الحكم على الاشياء والمواقف والافكار والسلوك والنظريات ونتائج الدراسات والابحاث والإمضاءات الفكرية والعقلية، الانسان قد يرجِعُ إلى هواه ويستمد من خزين هذا الهوى مواد حكمه وتقييمه لهذه النشاطات التي هي نشاطات عقلية من حيث الهوية والحقيقة، أي يرجع الى مصفوفة ما يحبُ وما يكره، ما يستلذُ وما يستنفر، فيحكم بالصحة والخطا، بالحق والباطل، بالعمق والسطحية، بالوقوع وعدم الوقوع، بالصدق والكذب، على نظرية علمية، أو حدث وقع، أو خبر منقول، أو راي مطروح ...

هنا، واستطرادا لما سبق، كثيرا ما نسمع من الآخرين قولهم: (من أجل عين ألف عين تُكرمُ)، والاكرام نوعُ تقييمٍ بشكل وآخر، وإكرام الآخرين وفق هذا المعيار قد يضر بالحقيقة، ويزيِّف الواقع، ويجترح حالة غير صحية، إنَّه استرشاد بغير العقل، وقد يسترشد بعضُهم بما تمليه عليه قيمٌ بالية لا تمت بصلة إلى حب الحقيقة والتفاني من أجلها وفي سبيلها وعلى طريقها، فإن الانتماء العشائري كثيرا ما يكون هو الفيصل النهائي في إطلاق الحكم على الكثير من هذه النشاطات، قيمُ الانتصار للأخ العشائري ظالما أو مظلوما، قيم الانتصار للعشيرة من أجل أن تكون العشيرة قوية عزيزة مهابة الجانب، تضيعُ الحقائقُ في ضوء تحكيم القيم العشائرية، يختلط الصحيح بالخطا، الحق بالباطل، الواقع بالوهم، فإن هذا اللون من الانتصار يغطي على الحقيقة إذا تناقضت مع غايته المصطنعة، غايته الضيقة، هذه القيم تقتل الصدق، نظريا وعمليا، نظريا لانها تغيِّبُ قيمة الصدق بحد ذاتها، وعمليا لانها تخلق واقعا مزيفا... باطلا ... وقد يكون الاسترشاد بنصوص مقدسة سابقة على العقل، تمرّن عليها العقل سرّا، تربيةً، سلوكا، لقد ترسخَّت فيه وتحولت إلى نتائج مقدسة نهائية، قصوى، إنها النموذج الارشادي النهائي، ومن الصعب تحديه إلاّ بالعقل الحر... وقد نسترشدُ سلطة النص المستَمدةِ من سلطة صاحبه، كأن يكون زعيما جماهيريا أو مفكرا حاز اعجاب أهل الفكر والقلم فعلا، وقد يكون طاغية سياسي، أو متحكِّم قسري بالناس، وكم لهذه الحالة من مصاديق في حياتنا الفكرية والروحية والعقلية، إنها تتضاد تماما مع حكمة ذهبية للامام تقول: (أنظر إلى ما قيل ولا تنظر إلى من قال)، إنَّ مثل هذا الاسترشاد يشوِّه المشهد الفكري للامة والانسان والوطن والشعب، يشوه المشهد الفكري ويعبث به عبثا قاسيا جافيا ...

إن مناهل الاسترشاد من غير العقل كثيرة، ومن الصعب استجلائها وبيان مفرداتها عدا وحصرا، وهي قد تتعاضد وتتساعد وقد تنفرد حيث لكل منهل من هذه المناهل شخصيته وخصائصه وتبعاته ...

كل هذا قد يكون واضحا،وليس فيه جدة معتبرة على مستوى عال من التثمين والتقدير، ولكن الجدَّة أو الروعة، عندما يقول الامام إن الاسترشاد بغير العقل يقود إلى الخطا في (منهاج الراي )!

هنا تلتمع حكمة الامام بنور الحقيقة، تلتمع بروحه الوثابة، تلتمع بتاريخ يريد له الامام أن يسود،حقيقة الفكر والعقل والعلم والمنطق ...

إن أوَّل ما تنبيء عنه الحكمة العلوية الرائعة، أن للراي منهاجا،أيُ رأيًّ إذن هو خلاصة منهاج، نتيجة منهاج، يتمخَّض عن منهاج، حتى المعلومات التي نمهد بها للاستنتاج أو الاستنباط إنما هي نتيجة منهاج، هذا المنهاج ليس بالضرورة نعيه، وليس بالضرورة نستشعره، وليس بالضرورة ننتدرب عليه عمليا ومن خلال قراءة ودرس وتعلم،إنه قد يتأسس داخلنا من حيث لا نشعر، إن القيم العشائرية قد تتحول إلى منهاج في خلق وتقييم ومحاكمة الراي من دون أن نشعر إن تلك القيم هي المسؤولة عن هذه الخطيئة الكبيرة، قد ينعكس ذلك حتى على عملنا العلمي التجريبي، فيما يتأكد ذلك أكثر في اعمالنا العلمية الاجتماعية والاخلاقية، وبالتالي، فإن قيم الذات المنغلقة، ومصفوفات ما نحب ونكره، واملاءات الاديولجية، وافرازات التربية البيتية والاجتماعية والمدرسية والحزبية ... كل من هذه المقتربات عبارة عن منهج، والنفس الانسانية خزين من المناهج، هناك أكثر من منهج يحتل داخلنا النفسي، ونحن نفكر ونقيم ونستتنج ليس بعيدا عن هذه المناهج التي تعتمل في داخلنا دون أن نعلم أو نشعر ...!

وما هو المطلوب إذن ؟

الامام يحذرنا أن نقع فريسة المناهج الخاطئة، نحاول جهدالامكان أن نتحرر من المسبقات، ونعتمد العقل وحده ....

ليس ذلك بالسهل ولا بالمطلق ولا بالهين، ولكن قدر الامكان والجهد، وليس من شك أن المزيد من الثقافة،وارتياد ميادين العلم والفكر،والتواصل المستمر مع نتاجات العقل، والتفاعل مع تاريخ العقل الطويل، ربما من شانه أن يحررنا من ضعوطات تلك المناهج الرابضة في داخلنا، اي منهج التفكير العشائري والاديولجي والقيمي الاجتماعي،حيث يجد العقل له مكانا أرحب في تضاعيف تفكيرنا وتقييمنا وحكمنا ..?

                             29

رعاية العلم

قال الامام: (اعقِلُوا الخبرَ إذا سمعتمُوه عقلَ رعايةٍ لا عقل روايةٍ، فإنَّ رواة العلم كثير، ورُعاته قليل).

حكمة رقم 94

الخبر علم .. حتى وإن كان ساذجا بسيطا .. بل أكثر من ذلك، جُعِل الخبر أحد مصادر المعرفة، فنحن نعرف أن افلاطون استاذ ارسطو بالخبر، وليس بالتجربة ولا بالقياس، ومن هنا كان التحقق من الخبر أحدى أهم آليات الكسب المعرفي الصحيح، بل التجربة العلمية بنتائجها تتحول إلى خبر، يُنقل من واسطة لأخرى، ومن هنا كانت الاستهانة بالخبر تشكِّل استهانة بالعلم والمعرفة والوعي، وكأن هؤلاء الذين يستهينون بالاخبار لا يقدِّرون الآثار الايجابية أو السلبية التي يمكن أن تترتب على الخبر صحيحا أو زائفا، فقد يتسبب خبر زائف بحرب أهلية مدمرة، وقد يستبب خبر صحيح بحقن دماء، وبناء أجيال،

وعمارة أرض ...

ما معنى (عقلُ رعاية) ؟

التبعير رمزي، إنه المعادِل الموضوعي عن الدراية، والدراية أرفع درجة معرفية في تضاعيف القاموس المعرفي العربي، فهناك التفكُّر والتدبُّر والتفقُّه والنظر وغيرها من المفردات العلمية العقلية التي زخر بها كتاب الله عزَّ وجل، أما الدراية فهي المعرفة القصوى، ذروة التحصيل العلمي المعرفي (ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر) ... إنها ذروة الاحاطة والالمام والاستيعاب، ولذلك طالما تكون مستحيلة المنال (وما أدراك ما ليلة القدر) .

وما معنى (عقل رِواية) ؟

إنه التعبير المعادِل للتقليد والانسياق وراء الخبر بلا روية، وبلا تحقيق، وبلا نقد، وبلا تقليب،وبلا تحقيب، وبلا حفر.

هذا التقسيم يطرح علينا نموذجين من العقل في فكر الامام، عقل نقدي وعقل تقليدي، عقل فاحص وعقل مستسلم، والموضوع هو الخبر المسموع ...

الحكمة أو القانون بطبيعة الحال يوجه ضربة موجعة للتقييم الخبري على ضوء صحة السند وسلامة المتن من المُشكل اللغوي والتاريخي والجغرافي وغيرها من المقتربات الاخرى التي لا تمس جوهر المعنى، وصميم المضمون !

لقد كان لصحة صدور الحديث عن النبي والائمة اعتمادا على معياري السند والمتن نتائج كارثية، خاصة بعد أن أثبتت التجارب أن الرواية الشفهية يعتريها الكثير من الخرق المزاجي والنفسي، وإنَّ الرواية الشفهية تلوذ بامانة النقل، وأمانة النقل معرضة بقصد أو غير قصد إلى تقلبات وتأثيرات، تتعاقب بمستويات من العمق والسعة، وتتفاوت بالمضمون والمحتوى، على الناقلين، خاصةً فيما اتسعت المسافة الزمنية بين الرواة وقد يبلغ عددهم أكثر من عشرة رواة من المصدر وحتى المستلِم الأخير ...

عليٌ يحيل المحاكمة إلى العقل وليس إلى النقل، لا يعني هذا بطبيعة الحال الزهد بصدق الرواة ونزاهتهم، ولكن الاصل هو العقل ...

الخبر يجب أن نرعاه، اي نتفحصه، ننقده، نشرِّحه، نحلله، نقارن بينه وبين الواقع ومعطيات العقل والعلم والتجربة ... ثم نرويه، أعقل ثم أرو، وليس أرو ثم اعقل ...

إن نقلة الاخبار كثيرون ... كثيرون ... بل حياتنا في شطر كبير منها عبارة عن اخبار منقولة إلينا، فهل نستسلم لسلطة الخبر بلا رعاية ؟

إن نقلة الاخبار كثيرون، ولكن رعاة الاخبار قليلون، وربما لهذا كانت هناك كثير من مشاكل الحياة، وكثير من منغصاتها، وكثير من متاعبها، فالخبر الكاذب يخلق عالما مزيفا ...

إن (عقل الرعاية) لا يعني المحاكمة العقلية الارسطية صرفا، بل يعني كل عملية تفيد تسليط الضوء على الخبر والتي من شأنها اكتشاف صحته من زيفه، صدقه من كذبه، سواء كان هذا الضوء تجربة أو محاكمة منطقية أو تشريحا يكشف عن تناقضاته ومفارقاته واستحالته ...

                             30

لا يغش العقلُ منْ استنصحه

قال الامام: (ليست الرؤية مع الإبصار، فقد تكْذبُ العيون أهلها، ولا يغش العقل من استنصحه) .

حكمة رقم 30

ما معنى الرؤية ؟

الرؤية هنا بمعنى العلم، العلم المعقول، بدليل نهاية القانون التي جاء فيها: (ولا يغش العقل من استنصحه).

إن القانون العلوي هذا يطرح لنا نوعين من العلم، النوع الأول هو العلم المحسوس، أداته الحس، اي ما نبصره، ونسمعه، ونشمه، ونلمسه، ونتذوقه، وآدواته هذه الحواس المعروفة، والامام عندما يشير إلى الإبصار بالعين إنما يشير إلى أهم عملية حسية وهي الإبصار، وإلى أداتها التي هي العين، والّا فإن مقصود الامام هو المعلوم الحسي بكل أصنافه وألوانه، وكل صنف أو لون مقترن بأداته المخصوصة حصرا ....

هذا العلم المحسوس على قيمته، لانّه راس مال العلم والفكرــ فمَنْ فقدَ حسَّا فَقَدَ علما ــ ولانَّه المادة الممونة لاجراء النشاط الفكري والعلمي، حتى على مستوى العلوم البحتة، كالمنطق والرياضيات على رأي كثير من فلاسفة العلم ... هذا العلم على أهميته وخطورته يجب أنْ لا نركن إليه في الحكم النهائي، والتقييم النهائي، لان الحس ببساطة   قد يشتبه، وقد ينحرف، وهذا هو محتوى متوسط الحكمة أو القانون الذي جاء فيه قوله : (فقد تَكذِب العيون أهلها)، فترى الصغير كبيرا فيما الواقع هو العكس، وقد ترى القريب بعيدا والواقع هو العكس، وقد تحكم على عصا في الماء معوجة والعكس هو الصحيح !

فالحس مموِّن للعقل بالصور والمشاهد والوقائع الخارجية ولكن ليس له صلاحية الحكم النهائي، والاستنتاج والاستنباط والاستقراء إنما هي عمليات عقلية أساسا حتى وإن كانت مقدماتها حسية كما هو معلوم .

يقول الامام في حكمةٍ أُخرى: (ليست الرؤية مع العيون، وإنما الرؤية الحقيقية مع العقول) .

إن هذه الحكمة أو هذا القانون بمثابة توضيح لسابقه، فإن هناك رؤية حقيقية ورؤية سطحية، الرؤية الحقيقية من صلاحيات العقل، فيما الرؤية السطحية هي من نشاط الحاسة، سطحية هنا بمعنى التبدي للظاهر، وليس لذلك علاقة بمقربات العمق الفكري والعلمي كما هو واضح .

العقل فيما استند إلى الصحيح من المعرفة يقود إلى الصحيح من المعرفة أيضا، الصحيح يقود إلى الصحيح، الحس علم مباشَر، ليس فيه قوة استنتاج، ومقارنة، وموازنة ... هذه نشاطات عقلية وإن كانت مبادؤها الاولى حسية صرف .

التعبير دقيق للغاية ...

العلاقة بين الحس والمحسوس علاقة (مع) وليس (بـ)، كذلك العلاقة بين العقل والمعقول علاقة (مع) وليس (بـ)، فهل هناك من سر ؟

نعم !

إن علاقة (مع) تفيد المصاحبة والجولان،والأخذ والعطاء، و التأثير والتأثر، والحس يتعامل مع محسوسه سفرةً معرفية، لانها تتقلب وتتغير وتتوالى، كذلك العلاقة بين العقل ومعقوله، ليست علاقة جامدة، أحادية، بل هناك تفاعل بينهما، أحدهما يؤثر بالاخر ... وقد يكون التعبير من أجل تحصيص الرؤية بأداتها الحقيقية فقط، التي هي العقل.

العقل قد يخطا، لا شك بذلك، إذن كيف يقول الإمام بقانونه هذا (ولا يغش العقل من استنصحه)؟

العقل لا يغش من استنصحه بشرط صحة التعامل مع العقل، وصحة التواصل معه، وفيما يخطأ العقل في نصيحة قد يصحح الخطا فيما بعد ...

                           31

الاختلاف وليس الخلاف

قال الامام: (الخلافُ يهدمُ الرأي).

حكمة رقم 211

ينبغي أن نفهم هذا القانون بعيداُ عن لغة الوعظ والارشاد والتمنيات والأُمنيات التي طالما تسطِّح الافكار والنظريات والمفاهيم والتصورات ...

ليست موعظة ...

وليست أُمنية ...

بل قانون نستهدي به الطريق، ونسرشد به السبيل، طريق الفكر وسبيل العقل، في سياق بناء مجتمع واع رصين، يحتكم إلى العقل أَو إلى مقاييس العقل، ومنحى العقلانية في اتخاذ المواقف، ورسم الخطط، وتشييد برامج السياسة والاقتصاد والإعمار والصحة والتعليم ...

ماذا يريد عليٌ بهذه الكلمات الثلاث؟

الاختلاف في الرأي ثورة، إغناء، تصعيد لحركة الفكر، وفيما ينعدم الاختلاف ينعدم العقل، أقصد العقل في مفهومه الحركي والإبداعي والإنجازي، ويبقى رهين الروتين والكسل والعطب، يجتر، يعيد، يستذكر، فيخيم السكون على الحياة، ويغدو الكون نسخة تتكرر، ترواح مطرحها، لا جديد، لا غريب، لا مفاجأة، لا دهشة ....

الاختلاف سنة الحياة والقرآن يدعونا إلى الاختلاف فيه، لانه يدعونا الى التدبر بآياته، وأي تدبر من قبل كثرة من الناس يؤدي حتما إلى الاختلاف، فتطفح الافكار، وتموج النظريات، وتتزاحم الرؤى ... ومن هنا كانت ثورة التفسير في القرآن الكريم .

الاختلاف وليس الخلاف ...

الخلاف هذا (يهدم الرأي) !

ما المقصود بالخلاف قبل أن نحلل العبارة الرائعة ؟

الخلاف تعبير مجازي هنا عن التعنت بالرأي، والتعصب له بلا مبرر شرعي أو قانوني أو فكري، إنه خلاف، وليس وجهات نظر تصدر عن قناعة فكرية، واطمئنان وجداني، خلاف، شقاق بمعنى آخر، تصنُّع الاختلاف، اختلاقه، والاهداف متعددة لا يمكن حصرها، فقد تكون اقتصادية أو اسرية أو سياسية، إلى ما شاء الله من مقتربات يمكن اجتراحها في مثل هذه الحالة .

هذا التعنت، التصنُّع في الاختلاف (يهدم الرأي) !

ما المقصود هنا؟

الهدم هو التخريب أو التعطيل أو التزييف أو التأويل خطا عن قصد ونيِّة مبيَّة ...

خلافك ــ لا اختلافك ـ مع آخر يقودك إلى اصطناع الحيل من أجل التزييف والتحريف والتعطيل، حتى وإن بدى رأي الآخر هذا في غاية النصاعة والوضوح والحقانيِّة والاصالة والترسُّخ في متن الحقيقة وجسد الواقع .

خلافك ـ لا اختلافك ــ مع خصمك في فكرةٍ، في رأي ما، في تصورٍ ما، في وجهة نظرٍ ما، في رؤيةٍ ما، يقودك إلى اللعب الفكري والمفاهيمي المزيَّف، بل قد يقودك إلى حرف المعلومات وطليها بالنقل غير المأمون، والعرض المشوب بالغموض والمغالطة .

خلافك ـ لا اختلافك ـ قد يقودك إلى أكبر خيانة فكرية، وأفدح خيانة علمية، لان الخلاف عناد، عناد غير مبرر معرفيا على الاطلاق ...

يهدم الراي !

أي يزيِّفه ... يكذِّبه ... يدخل فيه ما ليس فيه ... يحمِّله فوق طاقته ... يجزِّئه ... يختصره بما يخل به ... يفصِّله بما يحرفه عن جوهره ولبِّه وصميمه .

سواء كان الراي صحيحا أو خطا ...

فإن المقصود هنا في قانون الامام هو جو الصراع الفكري من حيث المبدأ وليس سلامة الرأي من انحرافه ...

ولكن الاعمق أن نقول: إن الرأي هنا تعبير مجازي عن (العقل)!

الخلاف يهدم العقول، يجعلها كليلة عن التفاعل مع الحقيقة، يحولها من آلية لكشف الحقيقة إلى آلية لقتل الحقيقة ...

الخلاف إذن عدو العقل ....

                         32

المعدود والمتوقَّع

قال الامام: (كلُّ معدودٍ منقضٍ، وكلُّ متوقَّع آتٍ).

حكمة رقم 73

نقف بين يدي ثورة عقلية في هذا القانون العلوي السامق، الشطر الأول من القانون يحكم بانقضاء كل معدود،أي كلُّ ما هو عِرْضَةً للعدد، يمكن أن يكون واحداً ويمكن أن يكون مليونا أو أكثر أو أقل، الانقضاء في كلام الامام هذا كما يرى بعضُهم يعني الانفناء، انطلاقاً من قوله تعالى: (وكلُّ منْ عليها فان ...)، ولكن يحترزون في اطلاق الكلام على عواهنه هنا، فينبهون إلى أنَّ الانفناء في القانون ليس بسبب العدد، فليس هناك علاقة سببية بين انفناء الشيء والعدد، الانفناء في النص ليس عدما بطبيعة الحال، اي ليس عدماً محضا، بل عدم نسبي إذا صح التعبير، فإن زيداً عندما يوفَّي حقُه في الحياة يتحول إلى تراب، وهو بهذا التحول أُعدِم .

القانون كشفٌ عن حال، إماطة اللثام عن واقع،عن حقيقة، جوهرها إنَّ كلَّ معدود منقضٍ، أي تجري عليه سنة الكون والفساد، واعتقد إن التقرير هذا أمضى في التعبير عن قانون الامام من غيره، فالامام يريد أن يكشف لنا عن قانون التغير، التغير سيد الكون رغم إ نه يجري في أُطر ليست منفلتة ... متسيِّبة ... متراخية ...

(كلُّ معدودٍ منقضٍ) أي يتحول من حال إلى حال، من كونٍ إلى آخر، دائم التحول، التحول سيَّال في عالم الوجود، ويسري على كل مصاديقه وأشياءه ومكوناته وعناصره وكائناته ...

الانقضاء تعبير معادل للتغير، للتحول، سنَّة الوجود الثرية بالعطاء والثمرات والافرازات والتمخُّضات، هذا هو المقصود البعيد من الانقضاء في تصوري ...

الشطر الثاني أبلغ وأَروع من الشطر الأول في تقديري ...الدخول إلى جوهر القانون هذا يسمح لنا بان نستخدم الاسلوب التجريبي الافتراضي في فهمه واستيعابه وتذوقه .

هل تتوقع أنَّ يكتشف العلم بان الحزن ـ على سبيل المثال ـ بمثابة سيل من الاجسام، وإنه كمٌ وليس كيفا؟

هل تتوقع أنَّ العلم يكتشف بأنَّ الزمن بمثابة أجسام وانَّه ينحني بفعل الجاذبية كأيِّ مخلوقٍ ماديٍّ في هذا الوجود؟

هل تتوقع أنَّ الطب يوماً ما يعثر على علاج ناجع لمرض السرطان أَعاذ الله الناس من شرِّه في مشارق الارض ومغاربها بحق كل شريف؟

هل تتوقع أنَّ الفيزياء قد تكتشف لنا عوالم جديدة توازي عالمنا الذي نعيش فيه؟

هل تتوقع أنْ تتصدَّع القارة الامريكية ويتشتت سكانها هنا وهناك وتنهار أعظم دولة في العالم اليوم؟

هل تتوقع أنَّ الحديد يوما ينطق من تلقاء نفسه ومن دون تدخل البشر بذلك؟

هل تتوقع أن يكون (1 + 1) اقل من واحد في عالم غير عالمنا هذا؟

هل تتوقع أنْ يتوصل العلم لاثبات أن هناك سرعة أكبر من سرعة الضوء؟

هل تتوقع أنْ لا ينتهي العلم إلى تجزئة المادة إلى عناصر نهائية تشكل اللبنات الاولى للكون؟

هل تتوقع أن ينقلب العلم على نظرية كوبرينكس، ويرجع للقول بإن الشمس تدور حول الارض وليس العكس؟

هل تتوقع كلَّ ذلك وأكثر؟

البعض يجيب أن بعض هذه التوقعات (ممكنة) بطبيعة الحال، أي قد تقع فعلا، ولكن لا يمكن أن نتوقع تحقق اجتماع النقيضين وارتفاعهما حسب شروط التناقض المعروفة، ولا يمكن أن يتحقق القول بتربيع الدائرة، لان ذلك من المستحيلات العقلية ... وبناء على هذا المقترب العقلي فإن ما يعنيه القانون بـ (المتوقَّع) إنَّما هو (الممكن) بالاصطلاح المنطقي المعروف، أي الذي لا يَحولُ العقل دون وقوعه، ماهيته متساوية النسبة إلى كُلٍّ من الوجود والعدم حسب لغتهم المشهورة، فأَنْ يأتي إنسان إلى الدنيا بذي رأسين ممكن، وأنْ نكتشف حواسَّاً جديدة غير الحواس الخمس بالنسبة للإنسان ممكن، وأنْ نتحرك باسرع من الضوء ممكن، وأنْ يتحفنا العلم بمعلومة مؤداها أنَّ الحزن والفرح والغضب والشدة واللين والحنان والعطف والشجاعة عبارة عن حركة أجسام وليست مشاعر تمُتُّ بصلة لما يسمى بالروح أو الوجدان أو العاطفة ممكن، وأنْ تمارس العين دور السمع، والأذن دور البصر ممكن، وقديما قال بذلك فيلسوف المعتزلة الشاب الرائع النَّظام...

الوجود إذن مستقبل، ليس ماضٍ وحاضراً فقط، بل مستقبل، لانَّ كلَّ ممكِّن آت، وعالم الممكن فسيح هائل لا حد له ولا قيد ولا نهاية .... يجري ... يتدفَّق ... يتفجر .... الممكنات لا تُعد ولا تحصى ....

اللفتة الذكية المشرقة في القانون هي إِنَّ الامام يُطلعنا على عالم بعدُ لم يكن، نظريا، ويريد منا أن نتطلع لهذا العالم ... نحلم ... نتوقَّع ... نأمل ... في نطاق (الممكن ) طبعا، فهو آتٍ بإذن الله تبارك وتعالى .

القرآن يقول: (وآتاكم من كل ما سألتموه)، ولكن ليس بالضرورة ما نسألُه كان قد سأله السابقون، أو يساله اللاحقون، ولما كان الخطاب الرباني هذا لكل البشر، ففي المستقبل ما لا يحصى من الممكنات في طريقها إلى التحقق، فما أثرى هذا الوجود الحي .

                         33

العلاقة بين معرفة النفس ومعرفة الله

قال الامام: (منْ عرفَ نفسه عرفَ ربَّه) .

مأثور علوي مشهور

هذا القانون كثيرا ما يُنسب لإمام الحكمة والبيان علي بن أبي طالب وبصيغ متعددة متنوعة،

ولم يُعطَ حقَّه من البيان المعرفي العميق الدقيق، لا أقصد الكلام الأدبي والاشراقي والشعري بقدر ما اقصد الجانب الفكري والعقلي من القانون ....

البداية هي أن نعرف ما هو المقصود بالنفس في النص، هل هي النفس بالمعنى الميتافيزي الغيبي، حيث نقرأ في كثير من النصوص المقاربة لهذا المنحى بان النفس نفحة روحية أثيرية مجرَّدة، كائن مجرَّد من المادة، أي كائن مفارق كما هو العقل والملائكة في لغة بعض الفلاسفة والعرفان؟ أم النفس هي مرادف الروح كما تذهب بعض التحقيقات الفلسفية؟ أم هي مبدأ المشاعر التي تجيش بها مواقفنا وحياتنا وعلاقاتنا من حب وكره، من قبول ونفور، من حزن وفرح؟ أم هي كمال الجسم وهيئته وماهيته؟ والقائمة تطول ... تطول ...

ما هو المقصود إذن؟

الذي أميل إليه أن النفس في بيان الحكيم هي هذه المشاعر التي تجيش في داخلنا بشرط موضوعها، أي ليس الحب مجرَّداً بل ما نحبُّه، وليس ما نكرهه مجرَّداً بل بشرط موضوعه، وليس الغضب مجرَّداً بل بشرطه، وليس اللذة مجرَّدة بل بشرط موضوعها، الشعور المجرَّد خرافة، وقراءة الحب بما هو حب نوع من الخيال، فليس هناك حب بما هو حب، ولا يمكن تجريد الكره من موضوعاته بحيث نطرحه على المشرحة ونحلله ونجزِّئه كي نعالج كل جزء على حدة، وحتى لو قلنا أن الغضب وحدة لا تتجزأ، فإن عزل هذه الوحدة المدعاة عن موضوعها نوع من التعسف إن يكن نوع من الخيال ...

أَنت تحب وأَنا أيضا أحب، ولكن ليس شرطا ما تحبه أنت أحبه أَنا أيضا، أَنت تغضب وغيرك يغضب، ولكن ليس بالضرورة كل ما يُغضِبُك يُغضب الآخر، فهناك إذن شعور مشترك من حيث المبدا، هو الحب، ولكن موضوع الحب مختلف، بل ربما متناقض، ولكن حذار من أن نقول أن هناك حبا بلا موضوع، كلُّ حبٍ متَّجِه، كلُّ حب يساوي ـ وإن مجازا ـ محبوبا ... وهكذا ...

الامام وهو يوصينا بأن نعرف أنفسنا إنَّما يوصينا أن نعرف ما نحب وما نكره، وليس الحب بحد ذاته، وليس الكره بحد ذاته، يوصينا أن نعرف أنفسنا تجريبيا وليس نظريا، يوصينا أن نتمعن بموضوع حبنا وبغضنا وكرهنا وحزننا وفرحنا وغضبنا ورضانا ...

وماذا بعد؟

إن موضوعات حبِّي وكرهي وبغضي وغضبي وحزني وفرحي قد تتغير، قد تتحول، لا تهدأ، لا تفتر، قد تنقلب رأسا على عقب في لحظة، في موقف، على حين غرّة، قد تشتد، قد تضعف، ولنتذكر، إن زياد بن أبيه كان يعشق عليا، كان عليٌ موضوع حب وعشق نفس زياد بن أبيه، ولكن في لحظة خارقة حادة و سريعة تغيَّر موضوع الحب هذا، أصبح معاوية بن أبي سفيان هو موضوع حب زياد بن أبيه، وتحول علي إلى موضوع كره وحقد وأيّ كره وأيِّ حقد !!

فيما يتمعَّن الانسان بواقعه النفسي هذا ... الجيَّاش ... المتقلِّبْ ... الحاد ... المتحوِّل ... حين يتمعَّن هذه الحقيقة المذهلة ألا ْ يستشعر بان ربَّه عظيم مريد ذكي عالم جبار قدوس مهيمن كريم عزيز؟

فيما يتمعَّن الانسان بواقعه النفسي هذا ... ألاْ يستنتج بان خلْقَهُ ليس عن ضرورة بل عن اختيار وتدبير؟

إن الصدفة والضرورة لا تنتج أيٌ منهما هذا التيار من التحولات والتقلُّبات والتغيرات، إن الصدفة روتين، والضرورة حتم، ولكن الاختيار هو الذي ينتج الحركة، هو الذي ينتج الكون والفساد في ما يخلق ويوجد ويبدع .

من عرفَ نفسَه بهذه الحقيقة عرف ربَّه مريدا ... مختارا ... حكيما ... عالما ...

معرفة الله هنا معرفة صفات لا معرفة وجود ...

تباركت اللهم تباركت !

?                             34

منهج المعرفة

قال الامام: (مرُوا الأحداث بالمراء والجِدَال، والكهول بالفكر، والشيوخ بالصمت) .

نهج البلاغة، جزء 20 ص 285

حكمة بنيوية أُخرى يتحفنا بها البيان العلوي الشامخ،تنطوي الحكمة على ثروة معرفية منهجية في الصميم، والمنهج اليوم هو علَّة التخلف والتطور في الفكر والعمران والحركة، وليس من شك إن المنهج الضعيف، الخرافي، السحري، النمطي، الكسول يؤدي إلى حياة خرافة، سحرية، نمطية، كسولة .

تُرى منْ هي جهة الأمر؟

منْ هو الذي يخاطبه عليٌ بأن يامر الأحداث بالمراء والجدال، والكهول بالفكر، والشيوخ بالصمت؟

إن الجهة التي توجه لها الامر واضحة تماما، أحداث، كهول، شيوخ، ولكن من هي الجهة التي تضطلع بالامر، بتوجيه الامر هذا؟

يبدو لي أنّ الجهة التي ينيط بها الامام هذه المهمة هم أهل العقل والفكر، المبدعون ... المفكرون ... المربون ... المسؤولون عن تربية الأمة وترقيتها وقيادتها ...

أهل الفكر ...

ولكن ما هو نصيب أهل السياسة من ذلك؟

نصيبهم أوفر فيما إذا كانوا مفكرين ... فيما إذا كانوا مبدعين ... فيما إذا كانوا من أهل الحجى واللب والتفكير العميق ...

وأين الشباب في النص؟

الشباب من كان سنه بين الخامسة عشرة والثلاثين، فإذا ما عرفنا أن الكهل ما امتد عمره بين الثلاثين والخمسين، نكون قد استنتجنا إن الشباب داخل قبل مرحلة الكهولة .

نعود للبداية، والعود أحمد كما يقولون وليس صحيحا على إطلاقه كما هي البداهة والتجربة ...

وما حقيقة الأمر هنا؟

هل هو إملاء وقهر وقسر أم هو توجيه وبيان وطلب وتربية ومران وتعويد وتسهيل؟

ليس من شك أن الجواب الأقرب للصحة هو الثاني، إنَّ عليا عدو العنف والقوة الغاشمة، ومسلكه في نصه هذا تربويٌ، عقليٌ، فكريْ، فمن المستحيل إن يكون جوهر الأَمر إذن القوة والعنت والأجبار والإملاء ... الأمرهنا تعبير مجازي عن تهيئة ظروف تحقيق المضمون، وإلّاَّ تتناقض الغاية مع الوسيلة، الغاية سامية رائعة، والوسيلة هابطة متدنية، أليس كذلك ؟

المراء قد ينصرف إلى الشك، وقد ينصرف إلى خضِّ الافكار والنظريات وهزِّها من أجل استخراج المخبَّا داخلها، كما لو تقول مريتُ أحشاء الشاة لانك أستخلصت منها مادّتها الجوهرية، المراء شك وتقليب وتحقيب، والمراء قد يعني الجدال نفسه في بعض الاستعمالات، وقد ينصرف الجدال إلى استخلاص الفكر من طرح المقابل لفكره، فانت جدلي لانك تستلم من الآخر فكراً فتستخلص منه فكراً جديدا، إمَّا للاستزادة، أو للنقد والتزييف والتضعيف، وإمَّا للتاييد والتسديد ...

الإمام إذن يريد منّا أن نزجَّ الاحداث في أتون الفكر، في بوتقة التفكير، في لهيب النار الفكرية، لا نتهيب، ندعهم يخوضون هذه الرحاب الساخنة، شك ... تساؤل ... تحقيب ... تقليب ... اعتراض ... نقد ... رفض ... ليس المطلوب حجرهم، ليس المطلوب قمعهم، بل المطلوب زجهم بقوة وشجاعة في حلبات السجال الفكري، ولا يعني هذا بطبيعة الحال دون مراقبة، دون هداية، بل قد يكون الامر في البيان العلوي كما قلت هو معادل موضوعي لتهيئة الاجواء السليمة، والظروف المشجعة، والسياقات المناسبة، وليس المراء مطلوبا لذاته، ولا الجدال هو الآخر مطلوب لذاته، بل كلاهما مطلوبان لغاية أسمى، لهدف أرقى، المراء عبارة عن منهج، وليس مضمونا إلّا بقدر كونه منهجا، كذلك الجدال ...

إن الأمر بالمراء والجدال حسب المقاسات السابقة وشروطها واشتراطاتها هي مقدمة لمرحلة لاحقة،أكثر نضجا، وأعمق دورا في حياة الفكر والعقل ...

ما هي؟

الفكر بحد ذاته، فإن الامام يوجه بالقول: (... ومروا الكهول بالفكر ...).

الفكر هنا هو التفكير بعينه، يعني صناعة الافكار، النظريات، التصورات، المنظومات الفكرية، المذاهب الفكرية في تفسير الوجود، طرح نظريات في الاجتماع والاخلاق وحركة التاريخ ومشاكل الحياة والثقافة والحضارة ...

هذه نقلة كبيرة بالنسبة للمرحلة التي سبقتها، كانت المرحلة السابقة عبارة عن حركة أُولى، المراء والجدال بداية، أي استخلاص أفكار، استخلاص تصورات، الآنَ حانَ وقت الخلْق وليس الاستخلاص، الابداع وليس الترديد، الانجاز وليس الاجترار، النقد العميق وليس النقد السطحي البسيط، تاسيس لا إعادة وتكرار، عصارة المراء والجدال يجب أن تكون في خدمة المرحلة الجديدة، مرحلة الكهولة تتويج لمرحلة الطفولة والشباب ... بكل بساطة يمكن أن نميز بين مرحلة الاجترار والنقد البسيط وبين مرحلة التأسيس والصناعة ...

الكهل ما زاد على الثلاثين حتى الخمسين في أكثر المعاجم العربية، فهو مهيَّأ للابداع، مهيَّأ لامتصاص التجربة السابقة، أي تجربة المراء والجدال ...

فمرحلة الكهولة إذن هي مرحلة الانتاج، والواجب دفع الكهول بهذا الاتجاه، بهذا المنحى، الانتاج المسؤول، الانتاج الذي يتميز بالجدة والثراء ...

ولكن ما شأن الشيوخ حيث يجب عليهم أو ينبغي عليهم أن يصمتوا؟

الصمت مرحلة قصوى، إنَّها مرحلة المراجعة للفكر، حفره من جديد، مرحلة التقييم والنقد والتبصر، مرحلة الدراية معرفياً ونقديا لتجربة الكهولة، فليس الصمت صياما عن الكلام، وإنّما تعمق في بحر المعرفة، إنها نقد لمرحلة الكهولة ...

هذا التقسيم والتفريع والتوزيع ليس حصرياً، ليس رقميا، بل هو منهج في خطوط عامة، وقسمات رئيسية، وهذا ما لا يخفى على اللبيب .

                              35

وقوتُ العقول الحكمة

قال الامام: (قوتُ الاجسام الغذاء، وقوتُ العقول الحكمة، فمتى فُقِد واحدٌ منهما قوَّته بار واضمحلّ) .

نهج البلاغة 20، ص 319

ونحن نقرا ونتفحَّص الحكمة الجديدة بل القانون الجديد لسيد الفكر ينبغي أن نستبعد ما قد يستوحي منه بعض القراء من أن كلام علي هذا يفيد ان هناك تناقضا وتضاربا بين العقل والجسم، باعتبار أن لكل منها غذاءه الخاص به، المتفرد به، وهو استنتاج خاطيء لا يمت بصلة إلى منطوق الحكمة ولا إلى مفهومها، لا من قريب ولا من بعيد، بل ربما هذا القرن العلوي بين الجسم والعقل في إمضاء غذاء كل منهما بالتوازي إنما قد يشير إلى تكامل الجسم والعقل في فكر علي بن أبي طالب عليه السلام .

لا نستبعد أن تصدق المقولة التي مفادها :(العقل السليم في الجسم السليم)، ولا نستبعد أن تصدق المقولة المشتقة من سابقتها بصورة من الصورة، والتي مفادها :(الجسم السليم في العقل السليم)، وتبعا، هناك علاقة جدلية بين الجسم والعقل، احدهما يؤثر ويتأثر بالاخر ...

لو كان قصد الامام منصبَّا على العقل وحده لما احتاج للكلام عن الجسم، والعكس أيضا صحيح، مما قد تنبؤنا هذه الموازاة في البيان عن تكامل حيوي جدلي بين الجسم والعقل،وتبعا، تكامل حيوي بين قوت الجسم وهو الغذاء وقوت العقل وهو الحكمة !

أصبح من بديهيات المعرفة لولا الغذاء لا دم،ولا خلايا، ولا عظام، ولا أنسجة،ولا عضلات، ومن بديهات المعرفة لولا الغذاء لا تنفس،ولا حركة، ولا نبض ... والامام يشير إلى الغذاء ليس مادة بناء بل مادة حركة، والبوار هي جدب بالعطاء والانتاج، والاضمحلال خمول وكسل، وقد ينتهي إلى التضاؤل ثم الموت .

كل هذا من بديهات المعرفة والحس، ولكن السؤال عن معنى الحكمة هنا، وكيف هي قوت العقول ...

هل الحكمة هي المعرفة بشكل عام؟

أم الحكمة هي ذلك التعريف التقليدي الذي يعني وضع الشيء في محله؟

أم الحكمة هي المعرفة المخصوصة بالصحيح المطابق للواقع؟

أم الحكمة هي الارشادات والتوجيهات والمواعظ الاخلاقية والروحية؟

المعرفة الصحيحة هي قوت العقل،والعقل هنا نشاط وليس جهازا عضويا أو طاقة روحية، فهذه المعرفة الصحيحة فيما اكتنزها العقل تتحول إلى مادة تفكير،وبذلك ينشط العقل،وهذه المعارف الصحيحة تقود بدرجة كبيرة من الاحتمال إلى معارف صحيحة، فينتعش العقل ويفرح بانجازه ...

ما الذي ينتظرُ العقلَ فيما لم يتزوَّد بالمعارف الصحيحة؟

يبور،أي يجدب، ويضمحل،أي لا ينتج، فليس بوار العقل مثل بوار الجسد، بوراه خمود فكره، الاجترار، التكرار، عدم الاستشراف، الخوض فيما مضى، فيما موجود، واضمحالالُه عجزُه عن الاتيان بجديد.

العقل يجب أن يشتغل، هذا هو القصد البعيد من حكمة الامام، ولكن كيف يشتغل وهو خال من المعرفة الصحيحة، وكيف يشتغل وهو بقي على خزينه منها ولم يتزوَّد؟

العقل وحده لا ينتج، إنما ينتج بقوته، وقوته المعرفة، فالمعرفة قوت العقل ونتاجه في ذات الوقت، سبب ونتيجة في نفس الوقت، فالحكمة تنسل الحكمة، والعقل هو ميدان هذه الحركة، الحكمة آليته ونتيجته،وبهذا كانت قوته الذي بدونه يذوي وينتهي .

                          36

العلم وراثة كريمة

قال الامام: (العلمُ وراثة كريمة، والآدابُ حُللٌ مُجدَّدَة، والفكرمرآة صافيةٌ).

عوالم العوالم، 1 / ص 137 ح 37

السؤال الذي يتبادر للاذهان للوهلة الاولى ونحن نستمتع بهذه الحكمة / لقانون العلوي الجميل هو عن نوع وماهية ونكهة وحقيقة هذه الوراثة بالنسبة للعلم، فالعلم لا يورَّث بايولجيا كما هو معلوم، خاصة فيما لو قلنا بنظرية اتحاد العلم والعالم والمعلوم، التي هي الموازية في المعنى اتحاد العاقل والعقل والمعقول، فالعلم لا يورَّث كما تورّث الصفات مثل اللون والطول والشكل وما شابه من ذلك، والعلمُ لا يورَّث كسلعة أو عقار أو مال، ولا اعتقد إن الامام يشير إلى وراثة كتب او مصنفات او اسفار، يتركها وريث لوارث، فهذا معنى ساذج هالك، لا يرقى إلى فكر الامام وحكمه السامقة التي تنطق فكرا وعلما ومعرفة .

الوراثة تحصيل، أنْ ترثَ العلمَ أي أن تحصِّله، تكسبَه، فهي وراثة عنت ومعاناة، التعبير مجازي هنا، قراءة وبحث وتنقيب وتحفير ومتابعة ... هذه هي وراثة العلم، ليست إنتقالا بل تحصيل وكسب وجني وتكوّن وتشكل .

تحصيل العلم مكسب كريم، ليس لانه يدرُّ مالا أو عقارا كما يظن البعض، بل لأنه يُطلع صاحبه على الحقائق، يُطلع صاحبه على المخبوء والمخفي، يكشف الاسرار، يميط اللثام عن المجهول، كرمه يتأتي من هذه المقتربات الحية الناشطة الجميلة، وهي في المحصلة علم أيضا فهو كريم لانه معطاء، سخي ... يعطي من جنسه، وسخي بجنسه، العلم يثري العلم، والعلم ينسلُ العلم ...

وما هي الآداب في الحكمة؟

الشعر والبيان الجميل، هذا ما يتبادر إلى الذهن، البيان الساحر مُجدَّد لان موضوعه جديد دائما، الحياة متغيرة، الكون لا يفتر، التاريخ لا يسكن، فبيانه يتجدد، شعره يتجدد، وهل وجدت يوما استنساخا شعريا بالمعنى الحرفي للاستنساخ ؟ وهل تعثر يوما على بيان متكرر بفجاجة وروتين، حسب قانون القذة بالقذة ؟

ليس الامر كذلك، البيان كل لحظة هو جديد، والشعر في كل تجربة جديد، لان العالم في كل لحظة جديد...

الفكر في بيان علي هو الفكر الصحيح، المطابق للواقع، بقرينة كون وراثة العلم كريمة، وقرينة كون الآداب مجدَّدةً، فإذا ما اقترن بهما الفكر لابد أن يكون بذات المستوى من الشفافية والوضوح والدقة والضبط والاحكام، ولكن لماذا نذهب بعيدا في هذا الاستنتاج بحجة هذا القرن، حيث وصفُ الصفاء يعودُ أساسا للعلم عبْرَ المرآة، فالصفاءهنا بلحاظ العلم وليس المرآة أصلا، والفكر الصحيح مرآة صاحبه، يكشف عمّا يعتقده،وعما يجول في خاطره، والفكر الصحيح مرآة موضوعه، اي يكشف عن موضوعه الذي يتناوله، تشخيصا ومشكلة وحلا وتفسيرا، إلى ما هناك من وظائف يتولاها الفكر امس واليوم وغد .

                         37

الرأي ودوره

قال الامام : (الراي يُريك غاية الأمر مبدأه) .

نهج البلاغة،جزء 20 ص 234

الامرُ هو مصنوعاتنا نحن البشر في الحكمة كما يخيَّل لي، مخترعاتنا، انجازاتنا، ليس الامر الكوني من شمس وقمر ونهر وجبل ومطر وماء وضوء، بل ما ننتجه نحن، القلم الذي اخترعناه للكتابة، المحراث الذي اخترعناه للحرث والزرع، السيارة التي اخترعناها لقطع المسافات البعيدة، الدواء الذي اخترعناه للاستشفاء، الملابس التي اخترعناها لحماية أجسادنا من الحر والبرد، الطائرة، الصاروخ، الحاسوب، وهكذا ... هذا هو الأمر في تصوري .

الغاية هي الهدف، والامثلة السابقة توضح المقصود من الغاية، فانت تسافر بغاية الاستجمام أو التجارة، وهو يمارس الرياضة بهدف تقوية جسمه واتقاء بعض الامراض، وهذه من القضايا المعروفة بداهة ...

ومبدا الامر يعني باعثَه، أو سببَه، علَّته، وعليه، أيْ بناءً على ظاهر الحكمة الشريفة، أن غاية الامر سبب الامر ذاته، الهدف من الامر علة الامر نفسه، فلانك تريد أو تهدف حماية بيتك تشيده من الآجر القوي، ولأنك تريد أو تهدف أن تجلس جلسة مريحة تصنع كرسيا نموذجيا من الناحية الطبية، وهكذا أيضا ...

التفكير جيدا يقودك أن سبب الاشياء التي تصنعها وتخترعها وتنجزها يكمن في الغاية منها، وإنْ هذه الغاية تتحقق فيما بعد، الغاية تستقر في الذهن، تختمر في النية، تتحرك الارادة صوب تحقيق الغاية فعلا، وبذلك تكون الغاية هي السبب، ولكنها تتحقق لاحقا ...

النقطة الجديرة هنا، هي أنك (قد) تتمكن من اكتناه أسرار المصنوع من خلال معرفة الغاية منه، قد تحلل المصنوع وتشرِّحه من خلال فهمك للهدف منه، ففيما تعلم إن زيد من الناس اخترع له سريراً خاصاً طلباً للنوم الصحي المريح، فإنك على ضوء الغاية (قد تستطيع معرفة كنه وهدف ووضعية كل جزء من أجزاء هذا السرير ...

ولكن ...

هل يحق لك أن تقول: اني اهدف أو أريد أن ادرس اسرار الماء، تركيبه، وزنه النوعي، كثافته، سلوكه عندما يخترقه ضوء، طوفانه، نزوله من السماء ... هل يحق لك القول بانك تهدف إلى معرفة أسرار الماء هذه او قوانينه إنطلاقا من قولك : إنَّ الماء خُلِق من أجل أن يرفع العطش الانساني والحيواني ؟ ومن أجل أن يسقي النبات ؟ ومن أجل أن يرطب الجو ويحمي البيئة ؟

إنَّ المنهج الغائي في الوصول إلى قوانين الاشياء أو الامور الكونية يشكل خطرا جسيما على العلم، لانك في مثل هذه الحالة ستضطر إلى تجيير كل ما تصل إليه من أسرار لصالح الغاية سببا وعلة، حتى لو أن بعض هذه الاسرار لا تنسجم، أو ليس لها علاقة من بعيد أو من قريب بالغاية التي حددتها مسبقا، وأنت في هذه الحالة افترضت غاية قد لا تكون صحيحة من أجل الوصول إلى نتائج صحيحة، وذلك رغم أن الماء حقا يرفع العطش،وحقا يسقي الزرع،وحقا يطرد السموم من جسم الانسان، إن المنهج الغائي في العلم تعطيل للعقل، تزييف للنتائج، تمويه وتأويل فوق الطاقة والمعقول.

أن طلبك لجلسة مريحة ( قد ) تفسر وتكشف بعض أسرارالكرسي الذي وصيت النجار بأن يصنعه لك بلحاظ هذه الغاية،وذلك من حيث هيكلُه الخارجي، ومقاييُس اضلعه، ومقدارُ علوِّه عن الارض، وهكذا، ولكن قولك أن الشمس خلقها الله كي نبصر في ضوءها، وإن الماء أوجده الله لنروي ضمأنا لا يصلح بالضرورة لاكتشاف قوانين الضوء، ولا أسرار الشمس، ولا قوانين الماء واسراره، بل قد يؤدي إلى العكس، وبالتالي، فيما أردت أن تكشف اسرار ضوء الشمس، عليك أن تذهب مباشرة إلى هذا الضوء وتحلله حسب ما عندك من آليات ومعدات ومختبرات من دون الالتفات إلى غاية كنتَ قد ضمرتها في نفسك، غاية علَّقتها على وجود هذه الضوء .

الامام في حكمته هذه يتحدث عن الغاية الصناعية، والعمل الصناعي،وليس عن الامر الكوني،وكيفية التعامل معه بحثا وتشريحا وفهما واكتشافا .

                          38

فائض القيمة !

قال الإمام : ( ما رأيتُ نعمةً موفورةً إلاّ وبجانبها حقٌ مضيَّع ).

حكمة 328

إنها نظرية فائض القيمة ولكن بمستوى أعمق،بمستوى أكثر إثارة، وأكثر جمالا،وأكثر داعية لصراع طبقي عادل، صراع من أجل الحقوق المشروعة !

الوهلة الاولى، ليست الرؤية هنا بصرية، حسية، بطبيعة الحال، ذلك غير ممكن، بل لا معنى له، هل يمكن أن نرى هذه المعادلة باعيننا ؟ مستحيل، كلام خرافي تماما، وبالتالي، الرؤية هنا عقلية، أي نحن بين يدي معادلة فكرية ذات نكهة إجتماعية اقتصادية يطرحها علي بن أبي طالب .

إنها نظرية، صاغها عليٌ على شاكلة القضية الحقيقية، تصلح امس واليوم وغدا، تصلح في كل مكان، نظرية تتخطى حدود الزمان والمكان، اتكلم على الأرض،وليس لي شغل بعوالم افتراضية أخرى .

تصدق النظرية ليس على نطاق فردي وحسب،بل هي نظرية تصدق على الافراد والمجتمعات والدول والاسر والعشائر ...

كيف ؟

يأتي وقت الجواب ....

النعمة هنا تنصرف إلى المال، المنقول وغير المنقول،هذا هو المتبادَر من الحكمة، وإلاّ النعمة تنصرف لاوسع من هذا المصداق، تنصرف إلى الجمال، والقوة، والصحة وما شابه ذلك .

إذن ما من شحص غني إلاّ وبجانبه فقيرٌ قد أنتهكت حقوقه المالية، ما من بلدٍ غني إلاّ وبجانبه بلد فقيرٌ يعاني الملاق المدقع، بصرف النظر عن بعض المفارقات هنا، وما من أُسرةٍ غنيةٍ إلاّ وبجانبها عائلةٌ تعاني من غائلة الجوع، وبلاء العري ...

هذا هوالمستوى الأول من الفهم لهذا المقطع من الحكمة الجليلة، والمستوى الأعمق هو أن نقول، هناك غنى / فقر، رفاه /حرمان، شبْع / جوع، دثار / عري ...

ولكن ما معنى بجانبها ؟

لا تعني هنا ولا تشير لا من قريب ولا من بعيد إلى الموازاة بالعمنى الهندسي،أي مفردة بجانب مفردة أخرى، بل مفردة مقابل مفردة،لان العلاقة بين الفقر والغنى هي علاقة مَلكة وعدمها، الفقر والغنى لا يجتمعان، وما بينهما صراع، عناد، نزاع ... فنحن بين ترسيم خريطة اجتماع بشري تتوزعه قوى متضادة، متنافية ...

ولكن ما معنى الوفرة ؟

هنا بيت القصيد، هنا النقطة الحرجة، هنا المنطقة الحساسة، بل الحارقة، الوفرة يفسرها بعضهم بالكثرة، وهذا تفسير إمِّا ساذج أو مغرض ....

تُرى أي مقياس يمكن أن يحدد لنا مفهوم الكثرة على شكل مصداق عددي ؟ ربما يكون الجواب التقليدي،أن الكثرة هنا تتحدد حسب معطيات عامة يمكن تحسسها، وهذا كلام إنشائي خطابي، مقياس قلق، مضطرب، غير محسوم بدقة .

إذن ما هي دلالة الوفرة هنا ؟

الوفرة بكل صراحة تعني الزائد عن الحاجة، هذه هي الوفرة، ما يزيد عن الحاجة مالاً وسكناً وثيابا وتقنيات وأي مفردة يمكن أن تكون من مصاديق الملكية بالمعنى الاقتصادي .

يقول الإمام : ( ما رأيت نعمة موفورة ) أي ما رأيت من زائد عن فائض الحاجة، وليس ما رأيت من كثرة بالمال، والعقار، والدثار،والسيارات وما شابه ذلك ...

لنستمر !

هذا الزائد عن الحاجة ( الوفرة ) هو المعادل المساوي للحق ( المضيَّع )، فما زاد عن حاجة الفرد،الدولة، المؤسسة،العائلة، إنما هو حق، له صاحبه، ولكن حُرِم منه، سُلِبَ منه، أُختلس منه، سواء بالقوة، أو نتيجة نظام توزيع ظالم،أو بالتحايل، النتيجة واحدة والاسلوب متعدد ...

كل مازاد عن الحاجة، من مال، من عقار، من ضياع،وهو بالمحصلة النهائية بمثابة ( مال) إنما هو حق مسلوب، مضيّع .

والحقيقة من الواجب أن نقلِّب في تضاعيف ( مضيَّع )، حيث السؤال المطروح هنا عن الجهة التي تقف وراء هذا التضييع، هل هو النظام الاجتماعي ؟ أم هو ذات صاحب الحق بصورة من الصور وشكل من الأشكال، أم هو صاحب المعمل والمزرعة والارض ؟

لا جواب واضح على ذلك، وحسنا عندما لم يشخص عليٌ عليه السلام المسؤول عن هذه الجريمة النكراء، فمن الصعب تحديد وتشخيص الجهات المسؤولة عن هذا السحت بصورة حاصرة مانعة .

ولكن ألا نستشعر من بعيد، أن عليا يطالبنا بخوض حرب طبقية شرسة من أجل الحقوق المضيَّعة ؟

نعم ...

بكل تأكيد ...

فائض القيمة نظرية طرحها عليٌ بمعادلة سريعة، إمضاء، تقرير، تأسيس، وعلينا البرهان .

                         39

الرسول والعقل والكتاب

قال الامام: (رسولُك ترجمان عقلك، وكتابُك أبلغُ ما ينطق عنك)

حكمة رقم (301 ) .

ماذا لو قلنا إن حكمة الامام هنا بصدد الوصية، أي إن الامام يوصي بان تجهد باختيار رسولك للآخرين، وأن تجهد بان يكون كتابك للآخرين مُتْقن الفكر، محبوك العبارة، خال من الزوائد التي من شانها الارباك والحيرة؟

ربما !

يستفيد بعض الناس من كلمة (ترجمان) في الحكمة النقل الحرفي، النقل المنصوص كلمةً كلمة ... جملةً جملة ... هذا هو ما توحي به كلمة (ترجمان)، ربما يستفيد بعضهم هذا الفهم التقليدي الباهت، عملا بالمعنى الحرفي للمادة، والتزاما أعمى بالقاموس ومقترباته، فانت كرسول عليك أن تلتزم بالعبارة الصرفة، لا تزيد ولا تنقص، وبذلك تكون أمينا، بل ترجمانا حقا !

هل هذا الفهم يستقيم مع فكر علي بن أبي طالب؟

لقد أرسل عليٌ عليه السلام ابن عباس رسولا عنه إلى الخوارج لحجاجهم، ولم يوصه حرفيا، بل أوصاه منهجيا، قال له حاججهم بحججهم واترك حجاجهم بالقرآن لان القرآن حمّال أوجه!

إن رسولك ترجمان عقلك إنما يعني إن الترجمان هذا يفهم طريقتك بالتفكير، ويعي منهجك في الحجاج، وكان قد استوعب مذهبك في الحوار والنقاش والرد والاقناع، ومن المستحيل إن الامام يعني بالترجمان هنا الناقل الحرفي

وكأنه اسطوانة حديدية، إنه ترجمان وليس ناقلا، وحتى إنْ كان ناقلا، فتلك الطبقة الاولى من الترجمة وأنت تؤدي مهمة الرسول، هب إنك أُرْسِلْت بكلماتٍ منصوصة، وجمل مثبَّتات بالرسم والمضمون، تُرى أي موقف سوف تسلكه وتتخذه فيما لو تشعَّب الحوار، وتعرَّض المرسَل به إلى نقض وحل واستفسار وسؤال؟

الترجمان رسول، ليس رسول كلمات، ولا رسول جمل، ولا رسول عبارات، إنما رسول عقل، أي يحمل عقلك، وهو يحمل عقلك فيما كان قد تمثل عقلك على مستوى متقدم من التمثيل .

لم يلقن عليٌ بن عباس كلمات معينات وهو يرسله إلى الخوارج ليحاججهم، ولم يزوِّده بصيغ بيانية لغوية محددة، بل زوَّده بنهج، باسلوب، وربما كان ذلك من باب التوكيد والتثبيت لان ابن عباس كان تلميذ علي، وتربى على يديه .

فرسولك إلى الآخر عقلك لا كلمتك، وإذا قلنا إنه كلمتك فلأن الخلفية الحقيقية لكلمتك هي عقلك ...

كتابك أبلغ من رسولك وهو يؤدي عنك، لانه عقلك مباشرا، لانه فكرك على الورق، ومن هنا ينطق عنك، يحكي عنك، يخبر عنك، يترجم عنك، بابلغ ما ينطق أو يخبر أو يترجم أو يحكي أي مقترب آخر، سواء كان هذا الآخر رسولا أو تلميذا أو كاتبا أو حتى لو كان ابنا لك !

سبق وأن قرانا للامام قانونا مذهلا، يقول فيه : عقل الكاتب في قلمه، وبالتالي، يتكرر القانون هنا، مما يعني إنه قضية كبيرة في فكر الامام الكبير .

كتابك يُنطِقُكَ حالا لا كلمات، يُنطِقك فكرا لا لغة، الكلمات واللغات مرآة لما في داخلك، مجرد اعتبار، رغم دور اللغة في التوضيح وربما حتى الخلق والابداع، بل ذلك حق لا مرية فيه .

                       40

تراكمية الخير.

قال الإمام : ( افعلوا الخير ولا تحقِّروا منه شيئا،فإنَّ صغيره كبيرٌ، وقليله كثيرٌ،ولا يقولّن أحدكم إن أحدا أولى بفعل الخير مِنِّي،فيكون والله كذلك، إنَّ للخير والشرِّ أهلاً،فمهما تركتموه منهما كفاكموه أهلُه ) !

حكمة419

شيء غريب !

حقا شيء غريب، لا تلامس اخي هذه الحكمة بقول أو فهم حتى تتهيا لشلال من ثراء الفكر،يخلق التاريخ، يخلق عالما بعد عالم، لا تقترب حتى يتهيا عقلك لعمقِ معنى، وبُعد مقصد، وشرفِ غاية، حتى تتهيأ نفسك لشرف هدف، ونبل مستقبل ....

كيف يكون صغير خير كبيرا ؟

وكيف يكون قليل خير كثيرا ؟

أليس هذا عين التناقض ظاهرا ؟

الخير تراكمي، كما هي سيرورة البذرة حيث تتحول في النهاية الى شجرة عملاقة، باسقة، ربما تطعم مئات الناس، ثمرا يانعا، لذيذا، ما هو مصير قطعة خبز قليلة تلقمها فم طفل جائع ملقى على قارعة الطريق ؟

الطعام يتحول إلى دم، والدم يتحول إلى خلايا، والخلايا تتحول إلى انسجة وعضلات ولحم وشحم وعظم، إنّه الخير، ينمو، ينسل بعضُه بعضا، تراكمي كما يقولون !

ما هو مصير قسط بسيط من مال جادت به يدك ربما صدفة وليس عن تصميم سابق لبناء ميتم لأطفال العراق الذين هامت بهم دنيا الضياع حتى ضجت ؟ هذه الدراهم القليلة سوف تتحول الى طابوق واسمنت وماء، ربما إلى أقلام ودفاتر وكتب، أي راحت تنتج من غير أن تشعر، ومن غير أن يطرأ على بالك مثل هذه النتيجة الخفية، إ نها تصنع مفكرا او كاتبا أو مخترعا أو سياسيا مرموقا أو فنانا مشهورا ...

أليس كذلك ؟

إن الامام هنا يطرح قانون تراكم الخير، تراكم العمل الحسن،تراكم العطاء، فأنه يبدا قليلا، صغيرا، لكنّه يتناسل، يتوالد، ينمو، يكبر، يكثر، خطوة بعد خطوة، إنجازا بعد إنجاز، وإذا به بعد فترة من الزمن، وفيما توفر جهد صادق على تنميته وتسييره وتدويره، وإذا به عالم، مُنجَز هائل ...

كلنا يتذكر أو قرا عن مشروع بنك الفقراء لذلك العالم البنغالي الذي قرر أن يهجر السبورة والطباشير والكتب وأن يبدا بمشروع بنك الفقراء في حيٍّ من أحياء بنكلادش حيث الفقر والجوع والمرض والجهل، ليرة إلى جنب ليرة، حققت اكبر إنجاز مصرفي في القرن العشرين ! إنجاز أنقد ملايين الفقراء، فهل أعدمت التجربة ولم يمكن تكرارها ؟

يبدو من كلام الامام أن الخير واشر لا يعدمان، فمهما تخلى أحدنا عن الخير، فهناك منْ هو بانتظاره، كذلك الشر، وبالتالي، سعيد منْ كان الخير بانتظاره .

تراكمية الخير في حكمة الإمام يبدو مستلة من فكرة الشجرة الطيبة والشجرة الخبيثة في كتاب الله، فالاولى تتجذر في الارض،تؤتي أكلها في كل حين، والثانية بلا جذور، ما لها من قرار .

ما هو الخير ؟

ليس هناك تحديد بعينه، فكل ما يسهم في حل مشاكل الناس خير، وكل ما يساهم في تقدم المجتمع خير، الصدقة بشروطها خير،ومكافحة الايدز خير، وإيواء اليتامى خير، والمسح على راس طفل فقد أباه توا خير، وارشاد التائه الى مقصده خير، وزيارة المريض خير، ومداراة الرجل الكبير خير، والخير عالَمٌ، دنيا، وجود بلا حدود .

يمكننا ان نعمل الخير ونحن على قاعة الطريق، تحية طيبة بشوشة خير، كذلك ابتسامة بريئة صادقة مع من تلتقي صباح عمل في دائرة أو شارع بمثابة خير ...

الابتسامة تخلق جوا من التفاؤل، أليس كذلك ؟ ولكن التفاؤل بحد ذاته ألا يصنع جوا من الالفة والتفاهم ؟ بكل تكيد، إذن كانت خيرا تراكميا ...

 

تابع موضوعك على الفيس بوك وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2195 الاحد 29/ 07 / 2012)

في المثقف اليوم