أقلام حرة

الأخطاء الشائعة - الثابت والمتحول في الأدب والثقافة / صالح الرزوق

ولا أقصد بهذه المفردة الخيانة، وإن كان مجرد الاحتكام للإملاءات هو نوع من الخيانة للمبادئ إن لم نقل للمهمة الغالية الملقاة على عاتق كل مسؤول في موقع القرار.

وأنا أشير هنا إلى التمثيل في المواقع.. إلى تقبل ارتداء القناع لتمرير قرارات تعسفية وجاهزة سلفا هي إحدى نتائج الثقافة الرسمية. لقد أنتج رأس المال (الإداري ورأس مال السوق ) دوائر عاجزة عن استيعاب المخاض المتعثر لملحمة الطبقات المتوسطة. واستبدل بداهة العقل والذهن بثقافة الألبسة الجاهزة، والتي هي بأسلوب إبدال مباشر، رمز لسرير بروكست، قاطع الطريق المعروف. وهكذا تم استبدال تأصيل المعنى بتفريغه، ودعم الثقافة بإعدام المثقف، وتحويل النخبة إلى نشاط أعمى ونرجسي.

وكان من أبسط أنواع هذه الأخطاء التسرع في الوصول للنتائج، أو تصنيف النشاط الذهني على أساس غير تاريخي. وربما التوصل لقناعات قبل تحديد مجال وحساسية الموضوع.

وكان هذا يعكس الطبيعة الغامضة للعقل الشرقي، فهو غالبا عقل لاتنويري، أضف لذلك ذل وعار التخلف. وهو كما أرى مسؤول عن الاهتمام بعالم الصور وليس بنطاق الوجدان ( بلغة هيغل). وبمفردات مبسطة: مسؤول عن الانتكاسات وحالة نفي الذات وإعدامها أو تصفيرها حتى في الحياة السياسية والإيديولوجيا..

ألم ينفي الضباط الأحرار أنفسهم في مصر انطلاقا من أهداف براغماتية جوفاء لتبرير التبدل المعرفي في الاتجاه؟.

ألم يحصل انتقال من أدوات الكفاح المسلح في منظمة التحرير الفلسطينية لمصلحة أدوات التفاوض غير المتوازن وغير المجدي؟.

وأخيرا وليس آخرا: ألم تتغير البنية الاستراتيجية لحزب البعث في سوريا من تحالف قوى عسكرية شوفينية ومحافظة إلى بنية خطاب أمني ونقابي عالم ثالثي، لو أخذنا بعين الاعتبار ظروف الحكم في إشتراكيات وطنية صغيرة متخلفة؟...

***

ولو شئنا أن نقيس المشكلة بمقياس مسائل عابرة ليس لها أثر ثقيل على حركة المجتمعات، ولكنها تعتبر مجرد إشارة أو متبقي من قضية أكبر، يمكن أن نحصرها في مجال الظواهر الأدبية، وبالأخص تحليل الخطاب الأدبي. وهذا يشمل حكما أخطاء في التصنيف وأخطاء في التعرف على ماهية حدود الأنواع إن لم نقل الأجناس.

على سبيل التوضيح، وليس من باب ضرب الأمثلة المجانية فقط، أذكر أن رواية الديناصور الأخير ورد اسمها، في بحث رصين، في نطاق الأعمال الإبداعية للروائي العراقي فاضل العزاوي، مع أنها كانت إحدى ترجماته الكثيرة وليس من تأليفه.

وكذلك من المتعارف عليه أن فرانكنشتاين رمز للرعب الدموي، ويدل على الغريزة السادية وروح الانتقام لدى البشر، وكأنه مهندس لكل فن الرعب الناجم عن التفاوت بين الطبقات في المجتمع الإقطاعي. مع أنه في رواية (ماري شيللي ) طبيب اهتم بدراسة الطبيعة غير التاريخية للروح. لم يكن فرانكنشتاين سفاحا، وبالعكس هو ضحية للوحش المرعب والمجهول..

وقل نفس الشيء عن رواية خمسة أصوات لغائب طعمة فرمان.

من المعروف أكاديمياً أنها رواية أصوات. وهذا كما أعتقد من الشبهات الناجمة عن عدم توفر النص باعتبار أنه صدر عام 1967. إن لم يكن ناجما عن قراءة العنوان فقط وليس كل هذه الرواية الشفافة .

إن خمسة أصوات عمل شفاف رسم حدود التجربة الاجتماعية وتفاصيل الواقع السياسي لمدينة بغداد في فترة حالكة وحزينة مهدت لأقسى أزمة في تاريخ المنطقة. وحولت الصراع من بحث عن هوية وطنية للبحث عن معنى الهوية بحد ذاتها.

هل كانت تفكيكا لعلاقة الأرض بالإنسان، أم أنها إعادة تعريف للغاية من الوجود المشكوك بمعانيه. بعبارة أخرى: من أين خرجت شرارة هذه الأزمة، من الفرد أو من المجتمع. من السلطة الضعيفة وغير المرتبطة بالمواطن أم من الأطماع الاستعمارية المشهورة. الى آخر ما هنالك....

وهذا وحده يؤكد أن خمسة أصوات بعكس الإشاعة المتداولة في سوق الصحافة هي عمل بوليفوني بامتياز. وأستعمل هذا المصطلح بكل حمولته التي أسس لها الإغريق من أيام أرسطو ثم قام بتطويرها في سياقها الاجتماع – سياسي الروسي ميخائيل باختين.

إن خمسة أصوات عمل يتكلم ولا يكتب. نص يتحرك عموديا ولا يتسع في مستويات ألسنية من الوصف والتحليل فقط. وترافق ذلك مع معطيات خطاب- صوتية. معطيات تحدد خلفيات ومراجع الشخوص من خلال حراكها التعبيري، أو من خلال ذاتيتها.

لقد كان صوت كل شخصية بمثابة ضوء على الأسرار التي تنطوي عليها، وليس على العقدة أو حبكة الرواية. لقد كانت الأصوات نشاط تنوير لاشعوري. وربما هي أسلوب تنموي لتركيب السيرة الذاتية لكل شخص على حدة وفق مبدأ الضرورة، حيث يمكن للإشارات أن تستكمل الجمل والمفردات، وحيث أن الفراغات أو البياض الصوتي هو الذي يفصل بين التراكيب.

وهكذا رسم لنا فرمان مشهدا عاما لعاصمة عربية تطحنها مشاكلها، وتقودها لحافة الانهيار.

***

غير أن النموذج المثالي لرواية الأصوات هو قصة قبل السهرة لصدقي إسماعيل، والتي تنظّر لأزمة المجتمع العربي، وكأنه أزمة أوديبية لا مفر منها. حيث أن رب العمل يحتل رمزيا دور ابن الأسرة المدلل، واليد العاملة تلعب دور الأب ومصدر الخدمات الضرورية.

وفي هذا الجو الذي يصنع دراما لمثلث ناقص ضلع، تغيب عنه الأم، ولا نعرف بالضبط من هو رمزها، وما هي ماهيتها الحقيقية، يحتدم الصراع في دائرة مغلقة.. وينتهي بجريمة يحاسب عليها قانون الأب البديل، الأب الصاعد الذي يرمز لرب العمل..

إن هذه القصة على بساطتها وحجمها المضغوط، يتيح لنا الفرصة لإعادة تصميم العلاقات وإعادة تركيب الواقع. وذلك من غير تفاصيل روائية وإنما ضمن إطار من وجهات نظر.

ولذلك هي أهم من ميرامار لنجيب محفوظ التي تورطت في نفس اللعبة .. ولكن أعادت تركيب الحبكة مرتين، بالنشاط اللغوي وبتفاصيل الحكاية. وهذا ساعد على مضاعفة شريطه اللغوي وحجم ذاكرة الشخصيات، حيث بدأت تنطوي على تصورات مسهبة وطويلة تتألف من محاكاة للواقع زائد ظل أو خيال.

لقد تورط نجيب محفوظ في رواية الحبكة عدة مرات دون توسيع دائرة الإضاءة. وبعد ميرامار كتب المرايا. حيث كانت التفاصيل تسهب في حضور المصموت عنه ألسنيا. وهذا وضع روايته في حالة من الشبهات والشكوك.. الغامض الذي لا يمكن أن نتفق عليه، والواضح الذي يتكرر تصويره في سلسلة من المرايا المتعاقبة والمسطحة، الأمر الذي تسبب بإعادة بناء صورة مكررة، وأدى في النهاية إلى تفسير عبثي عن الجوهر الغائب والصامت بالقوة.. أو الجوهر المسلوب الإرادة والمستسلم لأقداره ومصيره، على طريقة سعيد مهران بطل اللص والكلاب أو حتى على طريقة صابر بطل الطريق.

وأرى أن ملحمة البورجوازية الصغيرة كما صورها نجيب محفوظ كانت مكيدة دبرها القدر ضد أفراد ترفضهم طبقتهم، لأنهم أصلا لا يفهون فكرة الانتماء، وينحدرون دائما في طريق المغامرات والبطولات النرجسية التي عفا عليها الزمان.

***

وهذا ينسحب على العلاقة المفترضة بين نيتشة وجبران، وبالتحديد بين ( هكذا تكلم زرادشت ) و( النبي ). مع أن النقد الأدبي منذ 1950 وحتى اللحظة الراهنة يربط بين العملين، من الصعب أن تجد علاقة خطاب أو تشابك سياق - معنى بينهما.

والحقيقة أن نيتشة بشّر بعمل درامي قريب جدا من سيرة معكوسة للسيد المسيح، حيث أن خلاص البشرية لا يكون بواسطة المخلص أو الفدائي الذي يحمل شعار الواحد من أجل الجميع، وهو نصف شعار الفرسان الثلاثة، وليس بطريق تحليل متوازن للواقع، ولكن من خلال تعالي الإنسان على شروطه تمهيدا للصعود فوق الرب، والتمرد على القدر الأعمى.

إن نيتشة لم يبشر بموت الإله فقط، ولا بأمراض وخيلاء المدرسة الرومنسية فحسب، وإنما أراد أن يضرب العقل الإغريقي الكلاسيكي في الصميم، وأن يضع حدا لفكرة القدر وفكرة اللوح المحفوظ أو الجوهر الواحد، تمهيدا لتمرير فلسفة مادية، تعتقد أن القدر يصنعه قانون العمل. وبعبارة أخرى: الواقع هو طريقة نرى ونفسر بها أنفسنا فقط.

وليست هذه هي فكرة جبران، الذي كان مستعدا للتعامل مع الطبيعة على أنها انعكاس لطاقة الروح البشرية الخلاقة، وضمن رؤيا توحيدية تثق بالإنسان لأن روح الله تفيض عليه من لانهائيتها ونورها، من رغبتها باكتشاف صورة للروح غير المحددة وغير المعروفة..

إن العلاقة بين نيتشة وجبران تساوي العلاقة الميتة بين الجسد الذي لا يفنى لأنه متكرر والروح التي لا تفنى لأنها غير محددة..

***

لقد تراكم سوء التفسير على امتداد عقود، حتى تغلبت الإشاعة على الحقيقة. ولم يعد من المجدي تكرار ما هو معروف وسائد، إلا بعد التفكيك.. هل أقول إلا بعد التمحيص لأكون مباشرا وواضحا؟؟...

فالضائع بين السطور مثل الضائع في أسباب التنزيل أو ضرورات الترجمة. وهذا يتطلب العودة للمربع واحد للتمييز بين الخط الأسود والأبيض.. وبلغة تحليل الخطاب للتمييز بين الثوابت والمتحولات.

 

تموز 2012

 

تابع موضوعك على الفيس بوك وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2199 الاثنين 6/ 08 / 2012)

في المثقف اليوم