أقلام حرة

في رأس أربيل شيء من عقل إسرائيل / وليد العبيدي

لا تقل عن براعة معلمهم الكبير في صراعهم مع الطرف الفلسطيني عندما وصلت المفاوضات بين الطرفين إلى طريق مسدود بسبب الموقف الإسرائيلي الذي تكشف عن عدم رغبة حقيقة في إيجاد حل للصراع مع الفلسطينيين ومع الدول العربية الأخرى التي لديها أرض محتلة على أساس قرارات الأمم المتحدة.

 

والشخصنة تعني تحميل شخص - وربما بضعة أشخاص - مسؤولية التسبب في الأزمة التي تواجه الأطراف المتنازعة. ومن الطبيعي أن نرى الأطراف المتصارعة أو المختلفة بينها تلقي كل واحدة منها اللوم على الطرف الآخر.

 

وقد ذهب الإسرائيليون بعيدا في إلقاء اللوم على شخص ياسر عرفات بسبب تعطل ما سمي بالعملية السلمية  إلى حد اتخاذ قرار- وافقت عليه إدارة جورج بوش الإبن- بتصفية ياسر عرفات جسديا بعد أن عطلت إسرائيل من طرفها تنفيذ الاتفاقيات المرحلية التي وقعتها مع الطرف الفلسطيني والتي لو طبقتها لكنا رأينا الجيش الإسرائيلي قد انسحب من أكثر من 90 بالمائة من الأراضي الفلسطينية التي يحتلها بحلول نهاية سنة 1999 و لكانت القضية الفلسطينية- ونحن في 2012- قد بطلت أن تكون جرحا نازفا وهو ما لم ترغب به الولايات المتحدة.

 

ثم عادت إسرائيل لتنهج نفس النهج مع الرئيس محمود عباس لتتهمه بأنه يعرقل تقدم المفاوضات فقط لأنه أصر على مبادئ التسوية-  سبق وأن اتفق عليها الطرفان-  وأولها وقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية موضوع التفاوض كل ذلك بالطبع من أجل إعفاء نفسها من مسؤولية التسبب في الطريق المسدود الذي وصلت إليه المفاوضات.

 

وليس صعبا البحث عن الطرف الملوم في حالة كهذه إذا يكفي العودة إلى المبادئ التي تقوم عليها الاتفاقات أو أي عملية سياسية ليتبين من الذي يعرقل ولماذا.

 

وفي العراق شهدنا طوال فترة تشكيل حكومة المالكي الثانية نهجا مشابها للنهج الإسرائيلي تتبعه قوى عربية كالقائمة العراقية أصبح اختلاق الأزمات الواحدة تلو الأخرى ثم إلقاء اللوم على شخص المالكي منهجا ثابتا في سلوكها وخطابها اليومي. وما يثير الدهشة هو إصرار القائمة العراقية على مواصلة هذا النهج رغم معرفتها أنه بات يتسبب لها بأزمات داخلية ويفقدها تأييد الجماهير. و لا يمكن تفسير الإيغال بهذا السلوك إلا لأن القائمة العراقية مطمأنة أن نتائج الانتخابات القادمة سوف يتم ترتيبها كما تم ترتيب نتائج الأولى بحيث يتم قطع الطريق أمام إمكانية أن تخرج كتلة ما- وبالأخص منها كتلة دولة القانون- بغالبية برلمانية تؤهلها على الأقل لأن تكون رقما لا يمكن تجاوزه في المعادلة السياسية ذلك لأنه لا يمكن أن نتوقع أن يسمح الأمريكيون بتشكل غالبية برلمانية من كتلة واحدة, ومن هنا تحتل وضعية مفوضية الانتخابات موقعا مهما في إستراتيجية الولايات المتحدة المتعلقة بترتيب البيت السياسي العراقي فهي المدخل لمنع تشكل قوة تقود العراق نحو الاستقرار السياسي ومن ثم الاقتصادي. وليس خافيا أن للولايات المتحدة وكلائها من الداخل العراقي (وعلى رأسهم النجيفي) ومن خارجه (ممثل ألأمين العام للأمم المتحدة بالعراق) الذين يتولون ترتيب المهمة بما يضمن استمرار لعبة التوافقات كبديل عن الدستور.

وفيما يخص القائمة العراقية فإن الشخصنة تخفي وراءها هدفين الأول إشاعة الخلاف في وسط الطرف المنافس أو الخصم –وفي هذه الحالة التحالف الوطني- من خلال تصوير الأمر وكأنه يتعلق بسلوك فرد ما أن يتم إبعاده حتى تستقيم الأمور,  والثاني هو إبعاد الأنظار عن فشل هذا الطرف في تقديم برنامج حقيقي بديل للبناء. وبالطبع يلعب هذا الطرف –كما رأينا لدى العراقية والسيد البرزاني- على استغلال نزعات التنافس والتحاسد الفردية والحزبية من اجل جر بعض الأطراف إلى جانبهم كما فعلوا مع الصدريين الذين يحسون بالخطر الدائم أكثر من غيرهم على مصير حركتهم التي لا تمتلك أي تصور علمي مدروس عن أي شئ في الحياة السياسية والاقتصادية حيث يدرك المتحكمون بمزاج السيد مقتدى أن الشرعية القائمة على الإرث الأبوي سرعان ما تلفظ أنفاسها وسط حجم التحديات التي يواجهها البلد والتي يعجزون عن الخروج بأي رؤية حول كيفية مواجهتها  ويستنزفون بدلا من ذلك طاقة التحالف الوطني في مماحكات لا طائل من ورائها سوى خدمة أهداف بعض الشخصيات المهزوزة داخل التيار مثل بهاء الأعرجي الذي وجد دورا جديدا له في المعادلة تقوم على التملق لرئيس البرلمان.

 

ومن الجانب الكردي لا أستطيع أن امنع نفسي من الاعتقاد بأن هناك خبراء إسرائيليين تجد توصياتهم ونصائحهم -خاصة بشأن العلاقة بين الإقليم والمركز- طريقها إلى التنفيذ. ويمكن الحديث دون وجل عن مفاهيم لإسرائيل باع طويل في صياغتها واستخدامها بخصوص علاقتها مع الطرف الفلسطيني والعربي تجد تطبيقاتها لدى الطرف الكردي المهيمن على القرار السياسي في أربيل. والذي يعمل مقارنة بين ما يرد في الأدبيات الكردية المتطرفة ولغة الإعلام والسياسة الإسرائيلية لا بد وأن يعثر بمفارقات تثير الاهتمام. وأني لأعتقد أن دراسة مقارنة صغيرة بين المفاهيم والتعابير الإسرائيلية التي درج السياسيون وكذلك وسائط الإعلام  في إسرائيل على استخدامها وما دخل منها إلى لغة الوسائط  والخطاب الكردي كفيلة بأن تكشف مؤشرات واضحة على هذا التأثر أو بالأحرى التغلغل.  لنضرب مثالا أو اثنين. لنأخذ مثلا تعبير "المناطق المتنازع عليها" فهو تعبير إسرائيلي صرف استخدمه قادة إسرائيل لوصف الأراضي الفلسطينية موضوع الصراع والتفاوض والمقصود به أنه ليس للفلسطينيين أراض خاصة بهم يطالبون بها كحق تاريخي (ناشئ عن طول المقام بهذه الأرض) أقرته الشرعية الدولية في عشرات القرارات بل هم –أي الفلسطينيون- ليسوا أكثر من مدعي ملكية أراض يدعي الإسرائيليون أيضا ملكيتها وهو ما يطلق عليه من باب التضليل "الصراع بين حقين". وبهذه الطريقة فإن الإسرائيليين  يخرجون الأراضي التي يريد الفلسطينيون إقامة دولتهم عليها من نطاق مفعول القانون الدولي ولا يسمحون لأحد بالتدخل بشأنها لأنها مناطق نزاع بين طرفين أي "متنازع عليها". وإذا كان الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ينصب على أراض يريد كل منهم أن تكون جزءا من دولته في حل للصراع يقوم على أساس دولتين واحدة موجودة فعلا منذ 1948 وبقرار من الأمم المتحدة (قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين واحدة يهودية وأخرى عربية ) وهي إسرائيل, وأخرى تبحث عن وجود وهي فلسطين حرمت من تطبيق الجزء الخاص بها من القرار,  فلا أدري كيف يمكن ان تكون هناك أراض متنازع عليها في العراق وهو دولة واحدة فيدرالية اختار العرب والأكراد وبقية الأقوام العيش عليها بالشراكة وما تمتع منطقة كردستان بخيرات الجنوب النفطية إلا تعبير عن استعداد العرب للعيش المشترك فهم يخرجون ما في جوف أرضهم من ثروة ليتقاسموها مع إخوتهم الأكراد بطيبة خاطر فيواجهون بطلب "فيزا" لدخول كردستان التي هي أرض عراقية حسب الدستور وباتفاق جميع الأطراف (لا أدري إن كان السيد مقتدى قد حصل على فيزا كردية بسهولة).

 

 

 

ومثال آخر على التأثير "الثقافي" الإسرائيلي هي مسألة مطالبة بعض قادة الكرد البرلمان العراقي باعتبار ما حل بالشعب الكردي إبادة جماعية. هنا أيضا لا يمكن من يعرف شيئا عن الشأن الإسرائيلي إلا أن يتساءل فيما لو كان بعض  أخوتنا الكرد يقتبسون من مدرسة التضليلي الإسرائيلية فهم يريدون من عرب العراق ومن خلال ممثليهم بالبرلمان  أن يقروا بأنهم هم لا غير مسئولون عما حل بالشعب الكردي على يد نظام صدام حسين من مصائب وبنفس الطريقة التي فرضت فيها إسرائيل على حكومات أوربا الاعتراف بما سمي بالهولوكوست أي الإبادة التي تعرض لها اليهود على يد النازية الهتلرية والذي نتج عنه تكميم أفواه الأوربيين الذين يتجرؤون على نقد سلوك إسرائيل إزاء الفلسطينيين واللبنانيين من قتل وتدمير للممتلكات.  ومن الناحية المادية كان على الشعوب الأوربية  وطوال عقود من الزمن أن تتحمل دفع آلاف المليارات من الدولارات من أموالها التي تدفعها كضرائب لحكوماتها كتعويضات لدولة إسرائيل عن جرائم لم ترتكبها تلك الشعوب. لقد اصبح التشكيك بالهولوكوست في أوربا جريمة يعاقب عليها القانون ويحرم المشكك بها حتى من فرص العمل وقد يعتدى عليه جسديا كما حصل مع أستاذ رياضيات فرنسي صاغ معادلة رياضية بين فيها استحالة قتل هذا العدد الكبير من اليهود (6 ملايين) في غرف الغاز في معسكرات الاعتقال النازية أثناء الحرب العالمية الثانية  فتعرض لاعتداء افقده الوعي.

 

ولا أعرف إن كان البرلمان العراقي قد صوت عن جهل أو تواطئ أو كلاهما لصالح قرار يقر بمسؤولية العرب عن "إبادة الكرد" إذ لو فعل ذلك فسوف يأتي يوم لا يكفي فيه نفط الجنوب والوسط لتعويض الأكراد عن "الجرائم التي ارتكبها عرب العراق بحقهم".

و لا أدري ممن سوف يطلب الأخوة الشيعة إقرارا بشن حرب إبادة ضدهم وتعويضا عما حل بهم من ويلات. وبالطبع  لا يحق للشيوعيين الذين عانوا من حملات إبادة  في 1963 وفي 1970 وفي 1978 أن يطلبوا إقرارا أو تعويضا من أحد لأنهم لا يمثلون قومية أو طائفة وهذا من سوء حظهم.

 

وفي موضوعة صراع بعض القيادات الكردية مع بغداد تطبق هذه القيادات التقنية الإسرائيلية التي تحدثت عنها في شخصنة الصراع. هناك ياسر عرفات الذي رغم مقتله لم تغير إسرائيل قيد أنملة من تعاملها مع الشعب الفلسطيني بل زادت من ممارساتها التعسفية ضده وصادرت المزيد من الأراضي الفلسطينية ولم تعد تحسب حسابا لأحد وهنا نوري المالكي الذي ما أن ينتهي أمره حسب منطق قيادة أربيل حتى تنتهي الخلافات بينها وبين وبغداد وكلنا يعلم أن الحقيقة ليست في هذا ولكن في موضع آخر. لن يرتاح بال أربيل قبل أن يحكم العراق رجل ينصاع لها وهذا لا يمكن أن يحدث. لنفرض أن دولة القانون اختارت حسين الشهرستاني ليكون في رأس قائمتها في الانتخابات القادمة فهل ستخضع أربيل لسلطة بغداد فيما يخض الشؤون الاتحادية المنصوص عليها بالدستور العراقي؟ وهل لو كان مكان الشهرستاني علي الأديب سيتغير الحال؟ أبدا لا حتى ولو كان الجعفري "المسالم " فقد كان هذا الرجل أول ضحية من ضحاياهم. و لا يخفى أن قادة أربيل يحلمون بشخص مثل عادل عبد المهدي ولكن كيف السبيل لأن يكسبوه ثقة الشيعة؟

 

وكما أن شخصنة الصراع أو الخلاف من طرف العراقية يخفي أزمة ظاهرة كما عندها فإن صراع سلطة أربيل مع بغداد يبطن - و لا يخفي - أزمة داخلية تسير بخط صاعد ناتجة عن نزعة الهيمنة على شعب كردستان باسم المظلمة الكردية والتي هي في حقيقتها - كما تنعكس في العقل الباطن لسلطة اربيل- الحق الحصري للعائلة صاحبة "الملكية النضالية" في الحكم والذي يصبح حقا لا يجوز الجدل أو التشكيك فيه من قبل الأكراد أنفسهم قبل غيرهم تحت طائلة الاضطهاد وربما القتل (الصحفي الكردي الشهيد سردشت عثمان).

 

في تل أبيب لدينا قادة إسرائيل أصحاب الحق الحصري في تمثيل اليهود في أي مكان في العالم باسم المحرقة والذي يجعلهم بمنأى عن المحاسبة على أفعالهم الشنيعة وفي أربيل عندنا أبناء العائلة التي لها وحدها حق التمثيل باسم المظلمة الكردية وباسم الحق الأبوي.

 أما نوري المالكي فإن حقه بالتمثيل باسم الدستور فهو موضع شك وجدل دائم.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2208   الاربعاء  22/ 08 / 2012)

في المثقف اليوم