أقلام حرة

الإرهاب في العراق: هل يكفي القول أنه بعثي؟ / وليد العبيدي

وأحيانا كامل المسؤولية عن  الإرهاب بينما يؤكد البعض أن الولايات المتحدة تتحمل المسؤولية الأولى وقد يصل الجدل أحيانا إلى توجيه الاتهامات المتبادلة فمن يحمل البعث المسؤولية الأساسية يتهم بمحاباة الولايات المتحدة أو محاولة صرف النظر عن دورها ومن يحمل الولايات المتحدة المسؤولية يتهم بمحاولة غض النظر عن جرائم البعث. ومن جانبي فأنا لا اشك بنوايا أي من اصحاب الفرضيتين كما وأني لا أجد تناقضا بين الأطروحتين بل أن إحداهما تكمل الأخرى. كيف؟

 

إن شرح وجهة نظري يتطلب مني استعراضا –اريد أن يكون سريعا- للمراحل التي مر تنظيم حزب البعث بين ذروة القوة التي وصل إليها وذروة الانحطاط من الناحية التنظيمية وما يرافقها من القدرة على أن يلعب دور الأداة المسيطرة –إلى جانب أجهزة الأمن- في رصد تحركات الجماهير والنشاطات المعارضة للحزب.

 

استلم حزب البعث السلطة في انقلاب عسكري في صيف 1968 وسط دهشة الكثيرين من تمكن حزب البعث من لملة نفسه بهذه السرعة بعد الضربة التي تلقاها على يد عبد السلام عارف في 1963. لم يكن حزب البعث يحظى بثقة الناس من  مختلف الميول بسبب ممارساته الشنيعة إثر انقلاب تشرين 1963 غير أن  القوى السياسية الناشطة في الساحة العراقية كانت جميعها بدرجة من الضعف وقلة النفوذ داخل القوات المسلحة بحيث لم يكن بإمكانها أن تفعل شيئا في مواجهة الوضع  الذي نشا عن الانقلاب البعثي لذلك فإن الموقف العام الشعبي والحزبي اتسم بالترقب والسلبية المشوبة بالخوف والحذر.

 

وإدراكا منه لعزلته، عمد حزب البعث إلى اتباع تكتيك كسب الوقت وراح يناور في السنين التالية للانقلاب فبينما قام بإطلاق سراح السجناء الشيوعيين  عشية الانقلاب ودأب على الحديث عن تكوين جبهة وطنية من القوى التقدمية لم يلبث في عام 1970 أن شن حملة شعواء ضدهم تحت إشراف  الرجل القوي في الحزب مدير الأمن العام ناظم كزار ثم ليعود مرة أخرى للحديث عن الجبهة الوطنية وانخرط بمفاوضات بشأنها مع الحزب الشيوعي بعد أن تخلص صدام حسين من ناظم  كزار وقد توجت تلك الجهود باتفاق مع الحزب الشيوعي على تكوين مثل هذه الجبهة في 1973.

 

وكان حزب البعث قبل ذلك قد هيأ الأرضية المناسبة لتطييب خواطر الناس من خلال التقرب من المنظومة الاشتراكية وخاض معركة التأميم مع شركات النفط الغربية الأمر الذي أكسبه بعض المصداقية لدى القوى السياسية والجماهير في ظل فترة اشتداد الصراع بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي وتقوي مواقع الاتحاد السوفيتي في العالم العربي على خلفية إقدام إسرائيل على مهاجمة الدول العربية المحيطة بها واحتلال سيناء المصرية والضفة الغربية الفلسطينية التي كانت تحت سيطرة الأردن ومنطقة الجولان السورية في حر ب سنة 1967.

 

لقد نجح حزب البعث في كسب المعركة مع شركات النفط الغربية بفضل التأييد القوي من الاتحاد السوفيتي وصل إلى حد قيام ناقلات النفط السوفيتية بتحميل النفط العراقي وبيعه في السوق العالمية بعد أن كانت شركات النفط الغربية قد أعلنت مقاطعتها للبترول العراقي.

 

مثلت فترة ما بعد نجاح عملية تأميم شركات النفط الأجنبية في العراق في بداية السبعينات والتصاعد غير المسبوق في واردات العراق المالية بداية تصاعد نفوذ حزب البعث بالعراق إذ لجأت القيادة البعثية إلى استغلال واردات النفط الضخمة  للشروع – تزامنا مع تقوية سيطرتها على أجهزة السلطة – بعملية استثمار ضخمة  في القطاع الخدمي والصناعي واقل من ذلك الزراعي أدت إلى زيادة الطلب على سوق العمل إلى درجة أدت إلى القضاء على البطالة واضطرت البلد إلى استيراد اليد العاملة من العديد من الدول كانت حصة مصر هي الأكبر من بينها. وقد أدى ذلك في المحصلة إلى تزايد سريع في مداخيل الكثير من العائلات العراقية  بحيث أن السوق العراقية  أصبحت تفتقر إلى الكثير من السلع نتيجة الطلب الكبير الذي نشا عن تزايد القدرة الشرائية.

 

وانطلاقا من 1973 سنة قيام تحالف بين حزب البعث والحزب الشيوعي راحت  قوة حزب البعث  بالتنامي ومعها قدرته على السيطرة على أجهزة الدولة والمجتمع  بحيث لم تمض بضعة سنوات على هذا التحالف حتى كان حزب البعث قد احكم سيطرته على كافة مناحي الحياة السياسية والاقتصادية واستقطب جزءا كبيرا من الشارع العراقي لصالحه بطرق مختلفة لم تكن جميعها عن طريق الإكراه  ذلك أن الشعارات القومية مهما بدت زائفة لنا اليوم كانت تستهوي الكثير من الناس من غير الخاضعين لتأثير الحزب الشيوعي أو أحد الأحزاب الدينية بحيث بدا الشارع العراقي بعد بضع سنين منقسما بين غالبية بعثية وأقلية شيوعية   يجري التنافس أو الصراع بينها على نمط الاشتراكية التي يتوجب على العراق إتباعه في وقت لم يكن للتيار الديني وجود محسوس في الشارع العراقي وكانت إرهاصات تطويره لمفاهيم حول الحكم والسياسة والاقتصاد في بداياتها الأولى.

 

وإذ بلغ حزب البعث أوج قوته مع حلول سنة 1978، فإن أول خطوة أقدم عليها لإخلاء الساحة من أي منافس هو أن وجه ضربة شاملة ومدروسة -استفاد بها من تجاربه السابقة- للحزب الشيوعي استطاع من خلالها وفي ظرف سنتين أن يقضي على منظمات الحزب الشيوعي بشكل يكاد يكون كاملا. بعدها قام صدام حسين بفرض سيطرته النهائية على حزب البعث عندما أقصى أحمد حسن البكر عن الرئاسة  وصفى العديد من القيادات البعثية التي اعتبرها منافسه له ليتوج مسيرته بشن حرب على إيران في خريف 1980.

 

واعتبارا من لحظة شن الحرب يمكن القول أن العد التنازلي لقوة حزب البعث قد بدأ. لم يفقد الحزب سيطرته على منظماته خلال فترة الحرب التي دامت ثماني سنوات فقد كان الموت جزاء كل من يشك بضعف ولائه غير أن خواء خزينة الدولة التي كانت ملئى عند شن الحرب وتغير شعارات الحزب من المناداة بالوحدة العربية وتحرير فلسطين إلى الحديث ليل نهار عن العدو الفارسي  قد أوقف تصاعد قوة الحزب.

 و في أواخر سني الحرب لم يكن العراق يصدر من البترول إلا ما كان يكفيه لتغطية تكاليف الحرب التي بلغت مليار دولار شهريا بسبب توقف عمليات التصدير من موانئ البصرة واعتمدت الحكومة في تمشية أمور الحياة اليومية للناس على المساعدات الخليجية الهائلة فقد كانت دول الخليج تخشى انهيار الجيش العراقي بعد هزائمه في المحمرة وديزفول واحتلال القوات الإيرانية لمنطقة الفاو فأغرقت العراق بالسلع ومدت خزينة الدولة بالمال اللازم لمواصلة دفع رواتب الموظفين ومولت مشتريات العراق العسكرية. ولكن من الناحية الثانية لم يكن العراق قادرا على بناء أي مشروع جديد بل ولم يكن قادرا حتى على صيانة البنية التحتية التي بدأت بالتدهور بخط صاعد لتتحول إلى حطام عشية سقوط النظام في 2003.

 

خرج العراق من الحرب في صيف 1988 مثقلا بالديون وبالجراح ووجد النظام نفسه عاجزا عن مداواة جراح الحرب أو تقديم وعود للناس بحياة أفضل بسبب عجزه المالي الناتج عن تدني أسعار البترول  (وصلت إلى 12 دولار للبرميل) وتوقف دول الخليج عن الدفع وضعفت حيلته أمام متطلبات تشغيل مئات الآلاف من المسرحين من الجيش بحيث بات النظام يشعر بأن نهايته أصبحت وشيكة أمام ثقل تبعات الحرب و كان يعرف أنه لا يوجد ولا ء مع بطون خاوية وربما بدا صدام يتذكر حينذاك مقولته بأن الوسيلة الناجحة لحكم العراقي هي قبضة من حديد وأخرى ممدودة بالمال وهذا ما لم يعد متوفرا فلم يبق والحال هذه سوى القبضة الحديدية والتي سيأتي يوما وترتخي. وفي حال  بائسة كهذه يتوقف الولاء الحزبي أن يكون قائما  على القناعة الإيديولوجية أو على الأمل بمستقبل أفضل ويحل محلها المنفعة الآنية المادية وهذا ما لم يكن النظام قادرا على أن يقدمه للناس باستثناء عدد محدود من الكادر الحزبي ومراتب معينة من الجيش والمخابرات والأجهزة الأخرى التي توفر الحماية للنظام. لذلك يمكن القول أن الحزب فقد شرعيته القائمة على المشروع واقتصر دور الحزب على أن يكون أداة من ادوات السيطرة التابعة للنظام تتلخص مهمته في متابعة ورصد النشاط المعادي للنظام ومن يتراخى في مهمته تلك يكون مصيره الموت. وفي مهمة كهذه ملقاة على عاتق العضو فإن من يتقدم الصدارة في الحزب للقيام بمهمة التجسس والرقابة وكتابة التقارير وغيرها من "المهمات القذرة" هم أدنى مراتب الحزب والمجتمع.

 

ولقد كان السبيل للنظام البعثي للهروب من أزمته تلك أن أوقع نفسه بأزمة أشد منها عندما أقدم على احتلال الكويت. هنا ظهر حزب البعث في أشد حالاته ضعفا وهو أمر مفهوم ذلك أن قاعدته لا يمكن أن تفهم ناهيك عن ان تبرر مغامرة النظام الجديدة الأشد هولا من الأولى لذا وجدنا تنظيمات الحزب تغض الطرف عن متابعة عشرات آلاف الذين رفضوا الالتحاق بوحداتهم العسكرية التي ذهبت للكويت أو الاستجابة لدعوة خدمة الاحتياط دون أن يعتريهم الخوف من العاقبة كما كان الحال مع من يتخلف عن الخدمة العسكرية أثناء الحرب مع إيران حيث يكون مصيره الإعدام بتهمة الخيانة. ثم جاءت الحرب وهزيمة النظام في الكويت وما انجر عن ذلك من انهيار كامل تنظيمات البعث في الجنوب وبعض مناطق الوسط واندلاع ثورة شعبية كانت على وشك الإطاحة بالنظام لولا التواطؤ الأمريكي وقصته معروفة. بعد نهاية الحرب والانتفاضة وما تلاها من حصار اقتصادي خانق دمر الطبقة المتوسطة ودفعها إلى صفوف الطبقات المعدمة لم يعد حزب البعث سوى إطار متهرئ واعتمد النظام في فرض سيطرته على أجهزة الأمن المختلفة وما وصفته سابقا بالفئة السفلى من المراتب الاجتماعية من قليلي التعليم والمهمشين الذين كانوا يجدون بالقيام بمهمات قذرة لصالح النظام ما يضفي عليهم قيمة اجتماعية يفتقدونها في الأحوال الطبيعية.

 

وفي خضم صراع الإنسان العراقي المحاصر من أجل البقاء حيا حيث تدنى دخل الفرد العراقي إلى أدنى مستوى في العالم سقط مشروع البعث بالكامل ولم يعد يردد صداه سوى ثلة من المستفيدين من العرب الذين استمروا يراهنون على خروج النظام من أزمته ليواصل الدفع لهم وبلغ الحزب والنظام أوج ضعفه رغم ذلك استطاع أن يواصل فرض سيطرته على المجتمع. وقد عبر عن هذه الحالة السكرتير العام للحزب الشيوعي حميد مجيد موسى عندما قال في مقابلة له مع صحيفة الحياة الصادرة في لندن أوائل سني ألألفين ما معناه أن حزب البعث قد وصل إلى أقصى حالات ضعفه ولكن رغم هذا الضعف ظل أقوى من أحزاب المعارضة.

وكان هناك من يعتقد - وأنا أميل إلى هذا الرأي- ان الحصار الاقتصادي الخانق قد خدم حزب البعث إذ جعل العراقي لا يفكر بشئ سوى إيجاد ما يسد رمقه ورمق أولاده وترك قادة الحزب يتمتعون بكل ما توفره الحياة الطبيعية من رفاهية.

 

واني اعتقد أن استخدام كلمة  "حزب" لوصف البعث خلال السنوات القليلة التي سبقت الهجوم الأمريكي على العراق يصبح من بابا المجاز وقد عبر عن ذلك  القيادي البعثي السابق صلاح عمر العلي في سلسلة مقابلات مع قناة الجزيرة  في تلك الفترة عندما قال أنه لم يعد بالإمكان الحديث عن حزب بعث بل عن حزب صدامي. وقد جاء العلي إلى العراق بعد سقوط النظام واستقر في تكريت وراجت زمنها أقوال أنه ينوي –وبدعم من دول الخليج- إعادة تأهيل حزب البعث حيث يعقد مؤتمرا له يعلن فيها تبرؤه من البعث الصدامي ويقدم اعتذاره للشعب العراقي عما تسببه بمآسي للعراقيين و يقر بالتعددية الحزبية وتداول السلطة بواسطة الانتخاب وغيرها من "التنازلات" التي يمكن تؤهل الحزب للعودة لممارسة السياسة في ظل نظام ديمقراطي. غير أن صلاح عمر العلي ما لبث أن غادر العراق بعد تعرضه لتهديدات لحياته وهو ما يمكن أن يفسر على أن دول الخليج وكذلك الولايات المتحدة قد غيرت إستراتيجيتها واختارت طريق الدفع باتجاه حرب أهلية بدلا من  سلم أهلي يعيد العراق بفضله بناء نفسه بسرعة.

 

جاءت الحرب وانهزم النظام ولم نر الحرس الجمهوري يدافع عن بغداد ولم نر جيش القدس الذي تعداده 7 ملايين والذي ظل صدام يستعرضه طوال أيام ولم نر فدائيي صدام ولو كان لهؤلاء أية قضية أو وازع حقيقي لاستطاعت بقاياهم أن تقلق الجيش الأمريكي المحتل وتجعله يعيد حساباته بسرعة.

 

عندما دخل الإسرائيليون بيروت بعد أن أخرجوا منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان في صيف 1982 لم يستطيعوا البقاء فيها أكثر من بضعة أسابيع إذ سرعان ما أدركوا أنهم قد وقعوا في وكر دبابير وان لا قبل لهم بمقاتلة شعب له باع طويل في حر ب الشوارع فقد شاهدوا جنودهم وهم يقتلون في المقاهي وفي الشوارع  فأين ذهبت ملايين البعثيين في العراق وكان الجنود الأمريكيون يملئون الشوارع؟ لم يكن هناك بعث وهرب سيدهم إلى حيث علمنا فيما بعد.

 

 و لا يمكن إنكار حقيقة أن الجيش الأمريكي قد تعرض لامتحان عسير في الفترة التي أعقبت إعلان حاكم العراق بول بريمر حل الجيش العراقي فقد أعترف قائد القوات الأمريكية في العراق أن الجيش الأمريكي يتعرض إلى ما معدله 73 هجوم يوميا وكان يفقد عشرات القتلى والجرحى يوميا وقد قال أحد الدبلوماسيين الفيتناميين العاملين في بغداد آنذاك أن الخسائر التي يتعرض لها الجيش الأمريكي تفوق ما كان يتعرض له في فيتنام (كان يخسر ما معدله 50 قتيلا باليوم في فيتنام). لم يكن البعثيون وتنظيماتهم هي التي كانت تشن الهجمات ضد الأمريكيين بل مجموعة من ضباط  وعناصر الجيش العراقي  المنحل كردة فعل على حل الجيش وتركهم هم وعوائلهم دون معين. ولكن ذلك لم يدم طويلا إذ تم إدخال عنصر القاعدة كلاعب كبير في المعادلة فغيرها بسرعة مدهشة.

 

لقد وصف لي أحد الأصدقاء ردة فعل البعثيين بعد سقوط النظام بالقول: "ظل البعثيون طوال بضعة أسابيع لا يخرجون من منازلهم (خوفا من الانتقام) وبعد أن امنوا صاروا يقفون أمام أبواب منازلهم وبعد أن اطمأنوا صاروا يخرجون للشارع والمقهى  بعدها راحوا يتحدثوا عن عودتهم للسلطة في ظل أجواء عنف القاعدة والتوتر الطائفي. وبغض النظر عما في تلك الصورة من مجاز فإنها تعبر عن الواقع الحقيقي لحال حزب البعث عشية سقوط النظام.

 إذا ما الذي حدث والذي جعلنا وجعل الحكومة تتحدث عن إرهاب حزب البعث والقاعدة؟

إن السبب برأيي هو انخراط مجموعات بعثية معظمها تابع للأجهزة الأمنية المنحلة التابعة للنظام السابق في مخطط ما سمي بتنظيم القاعدة وخضوعها الكامل لأجندته القادمة من الخارج بحيث لم يعد هناك ما يبرر التفريق بين القاعدة وهذه المجموعات البعثية من حيث الأهداف ألا وهي التسبب في حرب أهلية وإيقاف تقدم العملية السياسية وعدم السماح للحكومة بتغيير حياة الناس نحو الأفضل. وحيث فشل هدف الحرب الأهلية رغم ما رأيناه من عمليات انتقام طائفية متبادلة  إثر قيام مجموعة إرهابية بتفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء (والذي يعتقد أنه كان من تخطيط خبير الإرهاب الأمريكي جون نيغروبونتي الذي جاء بزيارة لبغداد في ذلك الوقت) فإن هدف الحرب الأهلية قد اندحر وظل هدف إفشال الحكومة المنتخبة قائما ليومنا هذا.

 

ويمكن القول أن الغالبية الساحقة من البعثيين قد استسلم للأمر الواقع وبدا يتكيف مع الوضع الجديد خاصة وقد بدؤوا مع بقية العراقيين يودعون حياة الفقر والعوز نتيجة التحسن الكبير في مداخليهم النقدية.أما الجزء الناشط من البعث، وهو قليل،  فقد اندمج بالمجموعات المسلحة المختلفة.

 

والإرهاب مؤسسة عالمية تديرها عقول وخبرات وتجند لخدمتها شركات أمنية ومنظمات "مجتمع مدني" وجمعيات "خيرية" وشركات واجهة وطائفة واسعة من الوكلاء كل واحد منها يقوم بمهام محددة لا ترتبط جميعها بالعمليات الإرهابية بصورة مباشرة. وتختلف أهداف هذه المؤسسة باختلاف المكان والظرف السائد وطبيعة الأهداف المراد تحقيقها. ويظهر الإرهاب والإرهابيون متى وأين شاءت المؤسسة التي تديره سواء في نيويورك  (مركز التجارة العالمي) أو لندن (تفجير نفق المترو) أو جنوب روسيا أو بين مسلمي الصين أو الهند أو الفلبين وأي مكان في العالم. وعملية تجنيد الإرهابيين وتجهيزهم ليست هي الجزء الأصعب في المهمة فإلى جانب الرؤوس الحجرية هناك المجرمون والمنبوذون ومدمني المخدرات وغيرهم. ولكن المرء يلاحظ أن ساحة الإرهاب الرئيسية هي منطقة الشرق الأوسط وحيث يوجد مسلمون. إن من يراقب ما يجري في الساحة العربية من إرهاصات سوف يلاحظ ومن خلال تحركات التيارات الإسلامية الممولة من السعودية  أن أي بلد حتى لو لم يكن فيه طوائف يمكن أن يتحول بين ليلة وضحاها إلى منطقة صراع يختلق له موضوع وتكفير الآخر هو الأداة الجاهزة والصالحة لكل مكان وزمان عندما يتعلق الأمر بالدين. وتلعب السعودية وقطر دور مركز عمليات الشرق الأوسط لمؤسسة الإرهاب العالمية وتحاول أن تمد فروع لها في كل بلد عربي ليس على مستوى المتشددين الدينيين وحسب بل وعلى مستوى المؤسسة السياسية إذ دائما ما يبحث السعوديون والقطريون عن غطاء سياسي للمجموعات المعدة لممارسة الإرهاب حين تحين الساعة.

 

وكما لاحظنا في العراق فإن مشكلة الإرهاب أنه يحظى بغطاء سياسي من داخل المؤسسة السياسية نفسها إذ يعطي العراق نموذجا غير مسبوق في تورط سياسيين منتخبين ومشاركين في الحكم في الإرهاب بشكل مباشر كطارق الهاشمي  وآخرين  لا يخجلون أن يعبروا عن ارتياحهم أن يروا أن الإرهاب ينجح أحيانا في تسجيل نقاط لصالحه ضد الحكومة كما يظهر من ردات فعل بعض قيادات القائمة العراقية على العلميات الإرهابية. و يجد الإرهاب موقعا له في الصراع كلما حدثت أزمة سياسية في بلد أصبح فيه اختلاق الأزمات مهنة مربحة ( وهو ما سيرتد على أصحابها فيما بعد ) لبعض القوى السياسية كالقائمة العراقية وأشخاص كالسيد مسعود والبطانة المحيطة به من المنتفعين من الامتيازات.

 

غير أن الإرهاب أثبت أنه غير قادر على إسقاط حكومة منتخبة لا بل حتى إضعاف مكانتها في عيون الناس بعد أن كشف الناس عن الأهداف السياسية الكامنة وراءه.

 

وكقوة مسلحة لم يعد الإرهاب في العراق قادرا على المواجهة مع قوات الجيش والشرطة التي اشتد عودها والتي تجد في مكافحة الإرهاب قضيتها هي لذلك صرنا نرى الإرهاب يعتمد عنصر المباغتة والتراخي وضعف الخبرة  لدى بعض العناصر الأمنية بعد أن كنا نراه يسيطر على مناطق بكاملها ويحتفظ بها لمدة طويلة نسبيا.

 

لقد سقط رهان الإرهاب في العراق على اختلاق صراع شيعي سني على مستوى الشارع العراقي –وهو الأهم- وسقط رهانه على إسقاط حكومة منتخبة تحت وطأة "الفشل الأمني" ولكنه سوف يظل ماثلا بدرجة أو أخرى طالما ظل هناك صراع  هدفه الاستحواذ على السلطة بأي ثمن.

 

وبات الجميع يعرف أن الانتصار على الإرهاب يتطلب الانتصار في حقل الاستخبارات وجمع المعلومات وهذه المهمة تعني التصدي لمخابرات دول الجوار والتي يملك الغربيون فيها حصة مسيطرة ومعروف صلة رئيس المخابرات السعودية الجديد بندر بن سلطان بالمخابرات الأمريكية. وتظهر الأوضاع في سوريا بشكل واضح أن الذي يسير الإرهاب هو رأس أو بضعة رؤوس كبيرة قادرة على تجنيد أنظمة بكاملها لخدمة أهدافها فما بالك بتجنيد بضعة آلاف من الإرهابيين.

 

وبكلمة أخيرة فإني أرى أن بعث العراق أو بقاياه ليست أكثر من "برغي" في ماكينة الإرهاب الإقليمية والدولية الضخمة المترابطة بإحكام.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2214 الاربعاء 29/ 08 / 2012)


في المثقف اليوم