أقلام حرة

ذكرى رحيل جمال عبد الناصر .. من الحزن إلى الأمل / معن بشور

في 28 أيلول/سبتمبر من كل عام، بل أن يستقبلوه بالأمل أيضاً، خصوصاً بعد ما شهدته مصر من تطورات في السنة الأخيرة.

لا يعني هذا الكلام أن السنوات 42 التي مرّت على رحيل القائد العربي الكبير قد خلت من أسباب أو أحداث تدعو إلى الأمل أو التفاؤل، بل على العكس من ذلك تماماً، فإن الأمة قد شهدت انتصارات رائعة، وصموداً مذهلاً، وتطورات إيجابية في غير مجال، وعلى غير صعيد، وفي غير ساحة وميدان.

لكن الأمل الذي يحيط بذكرى رحيل القائد التاريخي هذا العام يبقى مميزاً لأن مصدره هو مصر، بأهلها وناسها، بشبابها وفقراءها، لا لأنهم نجحوا في إنجاز واحدة من أهم ثورات العصر فقط، بل لأنهم أخرجوا من قلب هذا الإنجاز ما يحمل وفاءً لمن يستحق، وتمسكاً بمن نقل بلادهم إلى قلب أمتهم، ونقل أمتهم إلى قلب العالم.

كثيرون أرادوا أن ينغّصوا فرحتنا بثورة 25 يناير المجيدة بأسئلة من نوع أين ناصر من هذه الثورة، أين العروبة من شعاراتها، أين فلسطين في أهدافها، وكنا نرتبك أحياناً في الإجابة على هذه الأسئلة، كما كنا نرتبك قبل الصحوة الشعبية العربية حين كنا نسأل أين جماهير أمتكم التي تتحدثون عنها؟ أين الشعب العربي الذي تعلقون الآمال عليه؟.

صحيح إننا كنا نصاب بالارتباك في المرتين، لكننا لم نسقط في الارتياب لحظة واحدة في أن جماهيرنا ستتحرك في الوقت المناسب، أو نشك لحظة بأن مكانة عبد الناصر والعروبة وفلسطين تغيب عن وجدان المصريين وعقلهم وقلبهم...

حتى جاءتنا ثورة 25 يناير 2011، لتجيب بقوة  ساطعة على السؤال الثاني، فيما بقي السؤال الأول عن ناصر وعروبته وميثاقه وموقعه لدى المصريين ينتظر الجواب القاطع بالأدلة والبراهين.

كنا نبحث في زوايا المشاهد التلفزيونية المصوّرة عن صورة لناصر، أو علم لفلسطين، أو هتاف للعروبة، فتبخل علينا بها الكاميرات المضبوطة على إيقاع المنظومة الإعلامية العالمية المعروفة الارتباطات والاتجاهات.

لكننا فرحنا بشعار " إرفع رأسك فأنت مصري" لأن فيه كلام يشبه ذاك الشعارالذي رفعه عبد الناصر بعد ثورة يوليو "إرفع رأسك يا أخي، فقد ولّى عهد الاستعباد"، وقلنا أن في مصطلح "الاستعباد" يومها ما يجمع المصطلحين معاً "الاستعمار" و "الاستبداد".

ثم فرحنا بصور عبد الناصر وهي ترفع بين الشباب الذي حاصر سفارة الكيان الصهيوني قبل عام، وطرد بعثته الدبلوماسية وأحرق علمه، فلم يكن سهلاً على الكاميرات "المضبوطة" أن تخفيها، بل ربما كان مطلوباً يومها "التحريض" على الشباب الناصري ودوره لإعفاء غيرهم من الإحراج...

لكن ما سلّحنا بالجواب القاطع على السؤال المشكّك هو ما حملته انتخابات الرئاسة المصرية.

لقد سخر منا البعض حين تحدثنا عن "ظاهرة حمدين صباحي" قبل موعد الانتخابات بأسبوعين، فإذا بصناديق الاقتراع تحمل لأبن التيار الناصري القومي العربي "حوالي الخمسة ملايين صوت، وتجعله بحق رئيس المدن المصرية الكبرى، كالقاهرة، والاسكندرية، وبور سعيد وغيرها (وقد نال أعلى الأصوات فيها)، رغم أن حملته لم تكن قادرة، بسبب نقص الإمكانات، على نقل العديد من أبناء الريف المؤيدين لصباحي إلى قراهم للاقتراع، ورغم أن أصواتاً عديدة نالها مرشحون ينتمون للتيار التقدمي ذاته كان ممكناً لها أن تحمل صباحي إلى الموقع الأول بين المتنافسين في الجولة الأولى، بل إلى الرئاسة الأولى في جولة الإعادة.

ذُهل الكثيرون من كمية الأصوات التي نالها من كان يوماً رئيساً لنادي الفكر الناصري في جامعة القاهرة، ورئيساً لاتحاد طلبتها الذي واجه السادات قبل زيارة الكنيست الصهيوني، متهماً إياه بأنه تخلّى عن نهج جمال عبد الناصر... وبات واضحاً أن كل عقود التهميش والتهشيم لم تنجح في أن تخرج عبد الناصر وعلاقته بفلسطين والعروبة، وبالفقراء والغلابى، من ضمير المصريين ووجدانهم...

وبعد أن صدمتهم النتيجة الباهرة التي أحرزها أبناء المدرسة الناصرية في الانتخابات الرئاسية، سارع المشككون مجدداً إلى القول أنها "ظاهرة عابرة" وتنتهي مع الأيام، وأنها مجرد فورة وتزول، وأن القوى الناصرية في مصر مشرذمة، وأن حزب حمدين صباحي (الكرامة) أعجز من أن يستقطب هذا المدّ الشعبي الواسع، ففاجأتهم الجماهير المحتشدة، قبل أيام في ميدان عابدين، وقد تجاوز عددها الألاف لتشهد على ولادة "التيار الشعبي" الذي يقع الناصريون في القلب منه، ولكنهم يشتركون فيه مع يساريين وليبراليين وإسلاميين، مع أحزاب وهيئات وشخصيات، لتعيد الناصرية كما أرادها عبد الناصر حركة شعبية واسعة وليست حصنا فئوياً مغلقاً وسلالة عرقية محدودة.

وبات "التيار الشعبي"، والناصريون في قلبه، وحمدين في مقدمة الصفوف منه، أحد أبرز التيارات السياسية الفاعلة في مصر، الذي يعدّ نفسه لخوض المعركة الانتخابية النيابية القادمة بثقة وكفاءة وقدرة مدركة أن تشتت القوى الديمقراطية المدنية قد أدى في أول انتخابات نيابية مصرية إلى نتائج معيّنة، فيما تجميع هذه القوى سيؤدي حتماً إلى نتائج مختلفة.

إذا كانت الانطلاقة الناجحة "للتيار الشعبي" في مصر تعبيراً عن نجاح ثقافة التكامل بين تيارات فكرية وسياسية متعددة، فإن مهمة هذا التيار، وفي القلب منه الناصريون، أن تسعى لتعميم ثقافة الائتلاف وسط الاختلاف، والتواصل رغم التباين، والتكامل بوجه التناحر، في كل جانب من جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية المصرية، لأن لا نهوض لمصر بدون هذه الثقافة، وما تخلفه من سياسات وممارسات، ولأن المصري يحتاج إلى المصري الآخر، كما يحتاج العربي إلى العربي الآخر، وهذا ما كان يحرص عليه جمال عبد الناصر...

في الحياة العربية اليوم مؤشرات عديدة لانطلاقة متجدّدة، قومية عربية عموماً، وناصرية خصوصاً، وهي مؤشرات تتعامل معها بقلق الدوائر المعادية للأمة، فيما يحتضنها بفرح أبناء الأمة المتشوّقين لتجديد الحلم الذي حمله يوماً جمال عبد الناصر.

ألا يحقّ لنا بعد هذه التطورات التي تحمل إرهاصات ولادة متجدّدة لمبادئ جمال عبد الناصر، ولإلتزاماته الوطنية والقومية والاجتماعية، أن نلفّ الحزن الذي كلن يلفنّا في ذكرى رحيل القائد الخالد بخيوط من الأمل المعتمد على شعب مصر كي يملأ الفراغ الكبير الذي خلفه ذات مساء رحيل أبي خالد وهو في عز عطائه وتوهجه. 


[1] الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي، رئيس المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن.

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2228 الجمعة 28/ 09 / 2012)

في المثقف اليوم