أقلام حرة

الذكــــرى السياسيــــة / صبحه بغورة

بحلوها ومرها في شكل شريط مصور يمر أمام المخيلة؟ في مثل هذه الحالة سترى المرء في تمام الاستغراق بأحداثها التي تأخذه من واقعه لحين من الوقت قد يطول كما قد يقصر وذلك على حسب حجم الحدث الذكرى وأيضا على حسب وجود رغبة ذاتية في إطالة الاستغراق فيه، أي الاستسلام الطوعي لعملية اجترار ماض يستحق متعة إعادة معايشته من جديد أو تجدر إعادة تأمل تفاصيله لأخذ الدرس والعبرة، وهذا  "الاجترار العقلي " قد نجده يفرض نفسه علينا  فرضا دون استئذان، دون مقدمات، وبغير مثيرات له، أو أن يستحضره العقل الباطن لاإراديا من باب المقاربة بين المبررات والأحداث أو انطلاقا من المشابهة بين  الظروف أو الوقائع مع أحداث حالية تحمل نفس الملابسات وتسير نحو نفس النهايات مع اختلاف أبطالها وبالطبع اختلاف الزمان وربما أيضا المكان وذلك تصديقا للمقولة الشهيرة أن التاريخ يعيد نفسه .

إن مثل هذا الحال يكاد يكون على المستوى الشخصي للفرد ويقع داخل دائرة الأسرار الخاصة به فتراه يسبح فيها وحيدا ولا ينبغي أن يكون له في ذلك شريكا إلا من شاء أن يتخذه توأما له نفسا وروحا ووجدانا، وعلى قدر حساسية ما تحمله الذكرى بقدر ما تصعب عملية توأمة الروح لتقاسم مسراتها وآلامها وخير مثال نسوقه هنا هو طبيعة عمل رجال الأمن والعسكريين ورجال الاستخبارات في أوقات الشدائد الذين لا يجوز لهم إعادة إنتاج ما عايشوه وما عرفوه وما مروا به بصوت مسموع  فمثلهم يبقى الفرح في القلب والحزن أيضا واسترجاع الذكرى عندهم لا يجوز إلا في غرف مظلمة حتى لا تبدو انفعالات وجوههم للعيان غير مبررة فيتهمون بالجنون، والأمر نفسه بالنسبة للسياسيين والفاعلين في الحقل الدبلوماسي الذين يكبح واجب التحفظ وطابع السرية جنوحهم إلى حب الفضفضة للتنفيس، أوالى الميل للمشاورة حول شان يخشى عواقبه .. إنها معاناة لا يتجاوزها سوى من يتمتعون بقدر كبير من رباطة الجأش والجلد، فالقلب قد يحمل ويحمل كثيرا ولكنه في النهاية لا يتحمل خاصة إذا سارت الأمور على نحو لا يحقق المصلحة أو يغاير منطق الأشياء ويخالف الموضوعية ..فما اختزنته ذاكرتهم من خلال مسار مهني طويل حفل بما حفل من الأحداث سيعد في وقت لاحق أرشيفا للحقائق يمكن أن يؤكد أو أن ينفي ما يثار حول قضية تجددت تداعياتها أو جرت إثارتها لكشف جوانب منها ظلت ـ قصدا أو عمدا في طي النسيان في الزوايا المظلمة وبالتالي لم تستكمل بعد معالم الصورة الكاملة للقضية، ولعل هذا ما يكون وراء استنطاق التاريخ على لسان من صنعوا أحداثه أو كانوا في محيط الفاعلين فيها، وهنا سيعتبر ما يروونه في الحوارات التي غالبا ما تأخذ شكل سؤال / جواب أو من خلال ما يعمد الكثيرون إليه من نشر المؤلفات الخاصة بتجربة حياتهم  سردا للذكريات في طابع يوثق للأحداث أي ستكون شهادات حية ستجد تصديقها لدى المؤرخين على حسب قرب أو بعد الأشخاص عن دوائر صنع القرار، فالذكريات هنا قد تحمل تشريف أو تحقير لشخصيات كما قد تعد تزكية أو إدانة لمواقف على نحو قد يفاجئ الرأي العام حيث يمكن أن يكون مخالفا لما قد رسخ في الاعتقاد من أحكام تجاه قضايا معينة، ويعود طابع المفاجأة هنا لاحتمال أن تتضمن مخالفة لما درج عليه الناس وهي ليست بالضرورة سلبية بل قد تكون في اتجاه رفع الغبن السياسي عن من ظلمهم التاريخ أو تعرضوا عمدا لظاهرة التلوث التاريخي لماضيهم من باب تصفية حسابات قديمة كما قد يكون العكس أيضا  وعلى العموم فمجرد أن يستعيد أحدهم ذكرياته بعدما يكون قد تخلص من قيود واجبات التحفظ المهني يمكن أن تثير البلبلة والفتنة بنفس القدر الذي يمكن أن تحقق به شيء من الاطمئنان عندما يرى الناس كيف يتم إقرار الحق ولو بعد حين وفي الحالتين هناك الرابح  وهناك الخاسر، هناك من ينكشف أمره وتتضح حقيقته النبيلة أو اللئيمة، وقد لا يدري الكثيرون حجم الضغوط التي يتعرض لها مسؤول ما لمجرد أن ينقل عنه أحد الصحفيين ولو من باب الإشارة إلى انهماكه في إعداد مذكراته حيث سيتخوف من عاصروه أن يكشف أمرا ظل مخفيا يسيئهم كشفه، بل إن كثيرون لا يرغبون في الإشارة إلى أشخاصهم بالاسم خاصة في الأمور الفاضحة

الذكرى السياسية إذن تتجاوز كثيرا مجرد سرد حكاية في الصالونات المغلقة من باب التندر أو للانتشاء بنتائج عمل، أو من أجل متعة من به علة نفس وعقدة نقص للكشف عن أسرار تظهره في هالة إعلامية جذابة تضعه في بؤرة الاهتمامات الوطنية إن لم تكن محل انشغال دولي أيضا، فالذكرى السياسية بصفة خاصة تتميز عن غيرها من الذكريات الاجتماعية والعاطفية .. بكونها ليست شخصية بحتة فالعمل السياسي يقوم به مواطنون يمثلون شخصيات مسؤولة باشرت مهام وطنية حساسة تعلقت بمصير أمة ومستقبل شعب لا مجال فيه للأخطاء فما بالك بالمؤامرات ومع هؤلاء يصبح من السذاجة حقا أن نتوقع منهم حديثا حول مغامرة عاطفية أو استعراض خبرة في شؤون المنزل وتربية الأطفال، إن ذكريات من هم بهذا الحجم تمثل في الحقيقة اعترافات ستكون  بلا شك مثيرة وجديرة بالمتابعة والتأمل لأنها ستتضمن مكاشفات حول سياسات منها ما نجحت ومنها ما فشلت في تحقيق أهداف النهوض بالبلاد والارتقاء بدورها على الصعيد الدولي .

الذكرى السياسية يمكن أن تتجاوز الطابع الفردي الخاص لتمتد إلى الطابع الجماعي، فكثير من الأمم تحتفظ فيها الذاكرة الجماعية للمواطنين بأحداث خالدة كثورات التحرير المسلحة والانتفاضات الشعبية والتحديات الكبرى التي واجهتها الشعوب من أجل ترقية حياتها، فما من أمة على وجه الأرض لا تحتفل بيومها الوطني مثلا ويعني الاحتفال به استعادة ذكرى غالية تراها وسائل الإعلام الوطنية مناسبة لإبراز مظاهر التضامن الشعبي الواسع من أجل الاستقلال والحرية،ووحدة هذا الهدف في حد ذاته فرصة طيبة لتعزيز اللحمة الوطنية وخير سبيل لذلك بث الصور والأفلام التسجيلية والوثائق وشهادات من صنعوا الحدث الذين ستراهم يروون ذكريات نضالهم سياسيا وعسكريا وربما في المناطق التي شهدت الأحداث مشفوعة بما يرويه أهالي المنطقة الذين عايشوا الأحداث حتى وان لم يشاركوا فيها مباشرة لذلك ستكون ذكرياتهم حولها منزه وذات مصداقية لأن لا مصلحة لهم في الادعاء المتأخر بأنهم يملكون وحدهم الحقيقة .

وسواء كانت الذكرى السياسية شخصية أو جماعية فان مجالها الزمني سيكون أكبر من تلخيصه في عبارتين لأن الأمر يتعلق بشأن سياسي بلغ من درجة تعقيده أن تحول إلى قضية طرفاها خصمان يقفان على خط النقيض أو أن يكون ثمة عدة أطراف تستشعر أهمية تواجدها في القضية لمصلحة لها فيها وهنا جاز لنا التوقع بأن الحل لن يكون في الأمد القريب بل قد يستغرق سنوات .. وحديث بعض المتابعين والمصادر التي توصف بالمطلعة عن المراحل التي قطعتها القضية وطبيعة المناورات المحيطة بها هو من قبيل التعليقات الإعلامية أو القراءات السياسية الممكنة بشأنها ولن ترقى مصداقية تناولاتهم لها نفس درجة من حضروا فصولها وشاركوا فعلا في صنع حلها فهؤلاء لديهم ما يقولون ولا نبالغ حين نقول أن الرأي العام يمكن أن يطالبهم بحقه في المعرفة حول رأيهم لتفسير وتوضيح ما حدث وهذا ما نراه فعلا من خلال عديد البرامج التلفزيونية التي تتخصص في مجال الحوار مع الشخصيات التي كانت في فترة ماضية مسؤولة لذلك يتم إبرازها كشاهدة على العصر وكما يلاحظ حجم ما يخصص من حلقات لسماع ذكريات شخص واحد حول شأن سياسي ما، أو المساحة الكبيرة التي تفردها الصحف اليومية لنشرها على مدى عدة أعداد متخذة من أدق التصريحات وأخطرها عناوين لها لضمان رفع مستوى المقروئية .

لاشك أن جاذبية أي ذكرى سياسية تعتمد على حجم ما تكتسيه من أهمية والكم المعلوماتي المتوقع معرفته منها، فالمتابعين لها والمهتمين بشأنها يمثل أغلبيتهم هؤلاء الذين ارتبطوا بأدوارمعينة في أحد فصولها ويهمهم أن يعرفوا رأي الآخرين في ما كانت مكانتهم ومدى ما ساهموا به في المسألة موضوع الذكرى ففي ذلك تسجيل للتاريخ، وكذلك سيتابعها آخرون من النخب الإعلامية والمثقفين المهتمين بالشأن السياسي الداخلي فهؤلاء يساهمون في ربط العلاقات وتفسير ظواهر الأشياء بقصد الوصول إلى معرفة حقيقة بواطنها، وموضوع الذكرى على لسان أصحابها ليس كمن يرويها عنهم من حيث دقة التفاصيل، فقد يتعلق الأمر بالمشاركة في جهود وساطة أو في عضوية وفد مفاوض لاحتواء بوادر ظهور أزمة سياسية في الأفق، أو إنهاء صراع قائم يخشى أن تتجه تطوراته نحو العمل المسلح، أو وقف العمليات العسكرية الناشبة فعلا، إن الأهمية التي تطبع مثل هذه الجهود سواء كانت وطنية داخلية أو دولية مستمدة من خطورة تلك القضايا التي ستقتضي معالجتها قدر كبير من الحنكة السياسية في إدارة الأزمات وستكون مهارة الحفاظ على السرية أحد عوامل نجاح هذه الجهود، لذا فلا أحد يملك الادعاء بالاطلاع الواسع على كل جوانب تلك القضايا وأبعادها سواهم، ومن هنا كانت أهمية أن يفسح المجال واسعا أمام من سمحت مناصبهم في وقت مضى المشاركة في صنع القرار للحديث بكل حرية استجلاء للحق المنزه والحقيقة الصافية .

في الذكرى عبــرة، والعبرة درس لما وعى واتعظ، وينبغي على صاحبها أن يتجاوز الطابع " المونودرامي " أي الطابع المسرحي حين يكون البطل هو المؤلف والمؤدي، وحين تتناول قضايا يقف العمل فيها عند حدود مشتركة بين خشبة المسرح وقاعة المحكمة  بين التمثيل والمرافعة، بين المجرم والبطل، حيث يقف تأثير الأولى عند حدود المجاز والرمز والتأمل الفكري والأخلاقي، فيما تنعكس الأخرى على الواقع مباشرة  .

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2233 الاربعاء 03 / 10 / 2012)

في المثقف اليوم