أقلام حرة

محمد الصدر وصناعة الوعي / كريم السيد

ولكن هذا القدر ليس بدائم، فوجود هذه الانظمة يوجب ظهور المصلحين والمناضلين وثمة تلازم بين الظلم والثورة، وثمة تلازم بين الثورة والتضحية وثمة تلازم بين التضحية والوعي، وصناعة الوعي هذه لها رجالاتها عبر مراحلها التاريخيه ومحمد الصدر واحد منهم،

تعتبر حقبة تسعينيات القرن المنصرم من الحقبات المظلمة من تاريخ العراق الحديث نظرا لاستقرار العراق وهوادته من نيران الحروب بعد ان كَل الشعب ومَل واعطى الانفس والثمرات، كما ان نفوذ صدام حسين بعد قمعة للانتفاضة الشعبانيه وغزوه  للكويت وخروجه بأعلام المنتصر على ايران جعل نظامه يستفحل ويفرض نفوذه وسلطته الوحشية على هذا الشعب المغلوب لأمره،

في تلك الحقبة قامت السلطة بفرض النفوذ على شعب مرهق لا يملك خيارا محتما سوى ان يُماشي غرورها ومطامعها وجنونها واستهتارها، فعم شعور جماعي بالخوف والرهبة والقتل والوحشية ورَكَن الناس لرحمة الله وغاب الوعي المتعدد بعد ان هُجرت النُخب وقُتلت وسُفكت دماءها على امام مرأى الناس وتحت شعار الخيانة والعمالة ;فما كان للناس الا ان تُسلم كل شيء وموكلة امرها الى الله العلي القدير، فولادة ثورة عراقية امر ليس بالهين ولا بالسهل على الاطلاق للأسباب التي ذكرناها سابقا وعلاوة عليها قوة الجهاز الاستخباري آنذاك والتأييد العربي والغربي الذي يحظى به صدام لقمع اي ثورة شعبية داخلية،

ركود الوعي وضموره خَلَق الحاجة لمصلح وقائد ونبي يخرج على ال فرعون الذين عاثوا بالأرض فسادا وكانوا من المتجبرين، فكان لابد من وجود "محمد محمد صادق الصدر" الذي لم يكن ليدفع بمشروعه التوعوي بشكل اندفاعي او فوضوي لمعرفته ودرايته بردة فعل السلطة الدموية ومنهجها اللا انساني، بدأ المنهج التوعوي الإيماني الذي تبناه محمد الصدر بشكل شخصي وتصدى له بأكفانه الناصعة منطلقا من المكان الذي اختاره جده امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (ع) النجف الاشرف وتحديدا مسجد الكوفة المعظم، فكان منبر محمد الصدر منبرا اجتماعيا وفكريا قبل ان يكن منبرا دينيا وحسب; لذلك اتشر هذا الفكر التوعوي بسرعه فائقة جعلت السلطة ترتبك وتكون امام واقع لم تتخذ له تدبيرا مسبقا، ولعلها استبعدت ان تبرز لأرض الميدان قوة دينيه حوزوية لخشيتها من بقية الكوادر والنخب ولمعرفتها ان الحوزات العلمية ومنابر الجمعة طقوس دينيه لعجائز لا تهش ولا تنش وحاشى للمنهج الثوري الاسلامي ان يوصف هكذا،

انطلق محمد الصدر صارخا وقائلا وفاعلا ومربيا وقائدا ومرجعا وابا روحيا وعلويا لا يخشى لوئم لائميه متسلحا بعقيدة فكرية وعلمية وثورية وثلة من الشباب المؤمن المتعطش للحق وبمجتمع انتظر جيفارا وغاندي يخرج من رحم العراق، فانطلق يصرخ الكلمة التي ارعبت جلاوزة السلطة (كلا) بمختلف جهاتها الشيطان وامريكا واسرائيل والظالم والجائر، بارتفاع الاصوات وصراخ الحناجر خلف هذا الصوت الصادق والمدوي،

آنذاك لم يكن ليقول هذه الكلمة اي احد في العراق بسهولة، ولربما لم يكن ليقولها بالخارج ايضا اذا ما علمنا ان الازلام يتتبعون قائلها اين ما حل وكان، لكن محمد الصدر قالها في العراق في قلب الازمة بين الفقراء والمساكين و المغلوب عليهم ومن المعلوم ان اشد الثورات قوتا هي ثورات الجياع والمظلومين،

تعلق الناس وانصت للنداء الجديد او لنقل الغريب من منطلق السؤال الطبيعي، من يجرؤ؟، والتف الناس حول الرجل الابيض وبدأت تتوافد جموع المؤمنين الى النجف لتكون اكثر قربا ومعرفة بهذا القائد الجديد بعد ان فقدت قيادتها منذ وقت ليس يسير متمثلة بالشهيد الاول محمد باقر الصدر (رض)، وبدأت تدخل المجتمع حركة فكرية دينيه توعويه حتى بدأت الناس تسال عن امور دينها ودنياها بعدما كانت لا تعرف غير صلاتها وصيامها، وبدا الجميع يتحدث عن العلم والدراسة والفكر ملمحه لإمكانية ازالة حاكم بغداد الذي دمر البلاد واذل العباد،

لذلك، بدأ قمع هذ المشروع التوعوي وبدأت تضحيات المؤمنين واحدا تلو الاخر بالابتزاز والتعذيب والقتل والتهديد في قبال ان تُذكر الهة فرعون بخير، وبدأت الناس تدرك ان محمد الصدر سيقودها لبر الامان خصوصا وانه لم يكن ليترك احد اتباعه الا وشجعه ودعمه واصر على ان يذكره بمواجهة الطريق، يحدثنا الخطيب الحسيني والباحث الاسلامي السيد محمد الصافي وهو من احد طلاب الشهيد والمقربين اليه ان السيد (قدس) كان يحثهم على مواصلة الطريق وانه اول من سيكون شهيدا في سبيل ذلك وان السلطة تساومه وتغريه وتغازله الا انه يرفض ذلك جملة وتفصيلا، وعندما يشتكون له من قوة التعذيب والاهانات كان يحثهم لان يكونوا شجعان وعلى اقل تقدير ان يستظهروا الشجاعة ان اصابهم قليل من الياس والتراجع،

وهكذا تولدت القناعة لدى النظام ان محمد الصدر لابد ان يزول لان هذا المشروع خطير جدا وبدأ يتفاقم يوما بعد اخر، لذلك جهزت العدة والعدد للقضاء على المشروع الاجتماعي; كان ذلك في شتاء شباط عام 1999 حيث قتل السيد مع نجليه(مصطفى ومؤمل) على يد ازلام النظام ولتنهي مسير مشروع عراقي تبناه رجل امن ان الظلم سينتهي يوما ما وسيعلم الشعب ان الظالم ليس بطويل حبل في ظلمة وبطشه،

حسنا، النهاية تقول ان محمد الصدر انتصر، قال وفعل، انار شعلة المجد وما ترك منطقية الثورة على الظالم، ترك وصمة عار في جبين النظام الغبي المجنون، ترك جيلا مؤمن رأى بأم عينيه كيف الت الامور وكيف كانت العاقبة للمتقين، فنال بذلك وساما الهيا ودنيويا يبقى درسا ومنهجا للأجيال جيلا بعد اخر،

في ذكراك يا محمد الصدر لا يمكن لنا الا ان نستلهم منك العبر ونعلم اطفالنا كيف ان الشعب اقوى من الطغاة وان الوجود لن يخلو من القائد المصلح مادام هناك الظلم والفساد،

 

كريم السيد

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2237 الأحد 07 / 10 / 2012)

في المثقف اليوم