أقلام حرة

جدل سياسي: خصائص الطبقة السياسية (2) العزلة عن الناس / فخري مشكور

 

خلاصة ما سبق: في مقال: "هل المالكي مقصر حقاً؟" استعرضنا الوضع المعقد والعقبات اللانهائية التي تمنع المالكي من تحقيق ما يصبو اليه من انجازات، مما لا يترك له الا مساحة صغيرة يستطيع ان يحقق فيها انجازا محدوداً، لكنه – وبالرغم من محاولاته المضنية - لم يحقق الانجاز الممكن حتى في تلك المساحة المحدودة بسبب غياب المشروع من برنامجه.

وفي مقال: "خصائص الطبقة السياسية (1) غياب المشروع"أشرنا الى ان غياب المشروع لا يختص بالمالكي وحده، بل ان جميع مكونات الطبقة السياسية في العراق الجديد تمتاز بعدم امتلاكها مشروعا سياسيا لادارة البلد أو لتطويره، أو لحل ازماته.

في هذا المقال سوف نشير الى خصيصة اخرى من خصائص الطبقة السياسية في العراق الجديد على امل استيفاء باقي الخصائص في مقالات تالية انشاء الله

 

العزلة عن الناس

في الانظمة السياسية القديمة كان الملوك والسلاطين يخصصون يوما يسمحون فيه لعامة الناس بالدخول عليهم لعرض مشاكلهم او طلباتهم بشكل مباشر. وكان بعضهم يقوم بجولات في المدن والاسواق يتفقد فيها احوال الرعية كاشفا عن وجهه حينا ومتنكرا حينا آخر حسبما تقتضي ضرورة الاطلاع على الواقع الحقيقي الذي تحجبه التقارير الرسمية.

اما في الدولة الحديثة فقد دأب المسؤولون على الاستعانة بأكفأ المساعدين والمستشارين المتخصصين لكي تنقل الوقائع بموضوعية وتدار الامور بكفاءة عالية تغني المسؤول عن التخبط في عالم التجربة والخطأ. وقد تكفـَّل علم الادارة الحديث بتقسيم الاعمال وتنظيم سياقاتها بحيث لا تـُستهلك اوقاتُ المسؤول في أعمال تكرارية او تفاصيل صغيرة تملأ وقته وتستلهلكه بلا مبرر. وفي كل الاحوال يبقى المواطن قادرا على التواصل مع المسؤولين على اختلاف درجاتهم بطرق متعددة من الاتصال الشخصي والجماهيري، الى الاتصال التلفوني به او بمدير مكتبه، الى مراسلته على البريد الالكتروني الخاص به او بمكتبه، او التواصل معه على صفحته على الفيسبوك.

ولعل اكثر القراء يعلمون ان اكبر مسؤول  في اكبر دولة في العالم (بارك اوباما) يقضي ساعاتٍ كلَّ ليلة في منزله يتصفح بريده الالكتروني ويقرا التعليقات التي يكتبها كل من اراد على صفحته في الفيسبوك ويجيب على ما يحتاج منها الى جواب.

ومن المناسب ان أضرب مثلا عمليا على علاقة سياسيي الغرب بالناس من تجربتي الشخصية، فقبل عشر سنوات زرت بلدا اوربيا وحصلت لي مشكلة رسمية فبعثت رسالة حولها الى رئيس وزراء ذلك البلد في محاولة تـَرَفيـّة لاختبار رد الفعل، وكانت المفاجأة أنني –بعد ايام- تلقيت جوابا من مدير مكتبه ذكر لي انه مكلف من رئيس الوزراء بالاجابة على الرسالة، وقد اجاب عنها بما ينبغي، كما نقل لي تحيات واعتذار رئيسه عن الجواب بنفسه بسبب انشغاله. وبديهي انني لم اكن على علاقة شخصية به، ولا تربطني به الا القرابة عن طريق آدم عليه السلام.

مقابل ذلك ما حصل مع دولة رئيس الوزراء الاستاذ نوري المالكي (الاخ ابو اسراء سابقاً) والذي كانت تربطني به علاقة شخصية تمتد الى ثلاثة عقود تقريبا كان خلالها يستضيفني في بيته في مهجره واستضيفه في بيتي في مهجري، واتذكر انني في احدى زياراتي الى سورية كان في استقبالي في مطار دمشق برفقة مستشاره الفعلي الشيخ عبد الحليم الزهيري .. علاقة الى هذا الحد تحولت بعد "السقوط" الى قطيعة كاملة عجزت معها عن ايصال رسالة اليه في شأن عام يهمه أكثر مما يهمني. وبعد جهود عدة ا شهر اعرب اللواء ابو مجتبى من وزارة الداخلية عن قدرته على تسليمها له باليد (لأنه كان وقتها يحضر اجتماعات مجلس الوزراء برفقة وزير الداخلية آنذاك السيد جواد البولاني). وفعلا سلَّم ابو مجتبى الرسالة باليد الى المالكي (وقد تأكدت من ذلك عن طريق آخر) وبقيت انتظر جوابها أكثر من سنة بلا نتيجة! في حين كان بامكان المالكي ان يعطيها الى احد مساعديه ليجيب نيابة عنه بما يراه مناسباً (كما فعل رئيس الوزراء الاوربي الذي لم يدخل بيتي ولم ادخل بيته)، ولا يكلفه ذلك وقتا ولا جهدا، ولا يُنقص من قيمته شيئا كما يحدث عندما لا يجيب.

يقتضي الانصاف ان نقول انه ليس المالكي وحده من يحتجب عن الناس، فهذه صفة الطبقة السياسية العراقية بكافة مكوناتها، إذ يعرف كل عراقي وكل متابع للشأن العراقي استحالة الاتصال بأي سياسي عراقي ، سواء كان في السلطة أم في المعارضة، في البرلمان أم في الوزارة، صغيرا كان شأنه أم كبيرا، شلوارا يرتدي ام عمامة يعتمر. السياسيون جميعا معزولون عن الناس بسور له باب باطنه فيه الأمن والكهرباء وظاهره من قـِبـَله العذاب.

السياسي في العراق الجديد لا يلتقي الا بنوعين من البشر: المساعدين المقرَّبين، والأجانب المقرِّبين، أمّا عامة العراقيين فهم في واد والسياسي في واد، وبينهما برزخ لا يبغيان.

                              *   *    *

تتجلى عزلة السياسي العراقي عن ابناء شعبه في الصور التالية:

1-       عدم امكان اللقاء الشخصي به

2-       عدم امكان الاتصال التلفوني به

3-       عدم امكان ايصال رسالة اليه (لا بالبريد العادي ولا بالبريد الالكتروني، ولا بيد شخص).

4-       عدم زيارته للناس العاديين (غير كبار الرسميين)

5-   عدم التقائه حتى بالطبقة التي يدعي تمثيلها، أو الشريحة التي انتخبته والتي يفترض ان ينقل آلامها وآمالها، فآخر لقاء له معهم كان عشية الانتخابات الاخيرة، ثم انتهت الصلة وانقطع الخطابُ.

ولأن مدير مكتبه يعتبر ايضا شخصا مهما من الناحية السياسية، فهو الآخر معزول ولا يمكن الاتصال به (بعضهم يسمي هذه الحالة: اشتراك الحكم لاشتراك العلة). وكذلك الامر بالنسبة لاقربائه القريبين (الذين قد يتوهم المواطن المسكين قدرته على الوصول الى السياسي عن طريق احدهم) لأن الاقرباء القريبين حصلوا ايضا على مناصب عالية تعطيهم الحق في العزلة عن الناس.

وكما لاحظنا اعلاه فانه لا تقتصر عزلة السياسي على عامة الناس، ولا على الشريحة التي انتخبته، بل تمتد الى اقرب اصدقائه ورفاق دربه ممن عاش معه عقودا طويلة ودخل بيتهم ودخلوا بيته، لكنه وبمجرد انخراطه في الشأن السياسي في العراق الجديد قطع صلته بهم ومحى اسماءهم من ذاكرته، وأقفل بوجههم التلفونات التي كانوا يتصلون به عن طريقها.

بالنتيجة فان السياسي في العراق يمتاز عن سياسيي البلدان الاعضاء في الامم المتحدة بعزلته التامة عن الناس، ولا يخرج عن هذه الصفة الا الشاذ، والشاذ لا يقاس عليه.

تؤدي عزلة السياسي عن الناس الى أمرين:

الاول: جهله بما يعانون، وهذا يؤدي الى عجزه عن تقديم خدمة لهم تقوم على معرفته بواقعهم وما يستجد فيه.

الثاني: نقمتهم عليه وندمهم على انتخابه، ولاحقا سوء الظن به وتصديق كل ما قد يقال بحقه دون ان تتاح له فرصة تصحيح الصورة من جانبه.

 

ما سبب احتجاب السياسي العراقي عن شعبه؟

يمكن افتراض الاسباب التالية لتلك العزلة التي اختارها السياسي العراقي عن ابناء وطنه:

1-   لأن السياسي هو ركن اساسي في العملية السياسية، وهو لذلك معرض لخطر الاغتيال من قبل أعدائها أومن قبل الارهاب، لذلك يضطر – حفاظاً على العملية السياسية من ان تنهار لو تعرضت حياته للخطر - أن يحتجب عن الناس. أي ان حماية نفسه هي في الحقيقة واجبه الوطني الذي يؤديه لصالح الشعب لا لصالح نفسه، لأن حياته أغلى بكثير من حياة المئات من افراد الشعب العاديين الذين يقضون في التفجيرات الارهابية كل يوم.

لكن هذا السبب - لو صح - فانه لا يبرر تلك العزلة، فالسياسي مهما بلغ شأنه لا يمكن ان يكون خطيرا الى درجة تبيح احتجابه الكامل عن الناس الذين يستحيل عليه ان يخدمهم بدون ان يتواصل معهم لكي يمثلهم تمثيلا صادقا، ويطلع على ما يعانون وما يريدون وما لا يريدون، فالعزلة عنهم تعني القضاء على الهدف الذي من اجله انتخبوه، وهو هدف الذي لا يتحقق بمجرد ملء الكرسي الذي يجلس عليه في البرلمان او الحكومة، ولا بالسكن في المنطقة الخضراء ليتمتع دون باقي افراد الشعب بالخدمات والامن، ويتقاضى لقاء ذلك رواتب ومداخيل خيالية لا يحلم بها وزراء الولايات المتحدة الامريكية.

2-   لأن السياسي مشغول بخدمة الشعب ولذلك فوقته كله مستهلك بالعمل الدؤوب لكي يؤدي واجبه في توفير الخدمات للشعب الذي انتخبه، فلا يبقى لديه وقت فراغ يلتقي فيه بافراد الشعب.

لكن هذا السبب لا يفسر الرحلات الطويلة التي يقضي فيها الكثير منهم شهورا عديدة في دول الجوار او في المهجر، ولا يفسر قضاء بعضهم اوقاتاً طويلة بعيدا عن مكان العمل أو حضور بعض آخر احتفالات شعرية او مهرجانات فنية او حفلات تخرج او ما شابه ذلك مما لا يفوق في اهميته الاتصال بالناس للاستماع الى مطالبهم وشكاواهم والاطلاع على اوضاعهم بشكل مباشر.

3-   لأن السياسي انجز كل ما يحتاجه الشعب فلم تعد هناك مطالب وشكاوى يحتاج الناس للقاء به لكي يبحث عن حلول لها .

لكن واقع الخدمات ومستوى معيشة الشعب لا يدل على صحة هذا الافتراض كما هو واضح بالبداهة

4-   ان الاجهزة الرسمية تستطيع أن تعكس واقع الناس ومشاكلهم ومعاناتهم بكل دقة وموضوعية وبكفاءة عالية تغني عن اللقاء المباشر بهم.

وهذا الافتراض غير حاصل في ارقى الدول المتطورة اداريا وتقنيا، فمن البديهي ان لا يكون في بلد متخلف كالعراق.

 

اذا استبعدنا تلك الاسباب فلا يبقى للعزلة التي يفرضها السياسي على نفسه الا الاسباب الاخلاقية التي تتعلق بنظرته الى قيمة الناس من جهة والى نظرته الى الهدف الحقيقي من الوصول الى المنصب من جهة اخرى.

 

ينشر بالتزامن مع موقع الوسط

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2249 الجمعة 19 / 10 / 2012)

في المثقف اليوم