أقلام حرة

جدل سياسي: خصائص الطبقة السياسية (3): التمويل القذر / فخري مشكور

التي تمنع المالكي من تحقيق ما يصبو اليه من انجازات، مما لا يترك له الا مساحة صغيرة يستطيع ان يحقق فيها انجازا محدوداً، لكنه – وبالرغم من محاولاته المضنية - لم يحقق الانجاز الممكن حتى في تلك المساحة المحدودة بسبب غياب المشروع من برنامجه.

وفي مقال :" خصائص الطبقة السياسية (1) غياب المشروع " أشرنا الى ان غياب المشروع لا يختص بالمالكي وحده، بل ان جميع مكونات الطبقة السياسية في العراق الجديد تمتاز بعدم امتلاكها مشروعا سياسيا لادارة البلد أو لتطويره، أو لحل ازماته.

وفي مقال" خصائص الطبقة السياسية (2) العزلة عن الناس" بينّا ان الطبقة السياسية تمتاز ايضا بالغيبة في مكاتبهم والعزلة الكاملة عن الناس، مما يجعل المواطن الذي انتخبهم عاجزا عن الوصول اليهم شخصيا او الاتصال التلفوني معهم او ايصال اي رسالة اليهم، وتبيَّنَ لنا ان سبب تلك العزلة يعود الى قضية اخلاقية تتعلق بنظرتهم الى الناس من جهة والى نظرتهم الى الهدف الحقيقي من المنصب من جهة اخرى.

واليوم نتابع البحث في خصائص الطبقة السياسية العراقية لنشير الى صفة اخرى هي: اعتمادهم على مصادر التمويل القذرة.

 

التمويل القذر:

في عالم الاقتصاد تسمى الاموال القادمة من مصادر غير مشروعة بالاموال القذرة، وهي تشمل اموال تجارة المخدرات او تجارة الرقيق او الرشاوى الضخمة او التجسس او الاموال التي تدفعها دول او شركات أو مؤسسات لتنفيذ مشاريع سرية في دول اخرى.....الخ

ولأن هذه الاموال غير مشروعة (قذرة) فانه لا يمكن ايداعها بالبنوك ولا تحويلها من مصرف لآخر او من دولة لأخرى، لذا تلجأ الاطراف التي تتعامل بالاموال القذرة الى ما يسمى بعمليات غسيل الاموال لكي تتحول الى اموال مشروعة يمكن ايداعها بأي مصرف كما يمكن تحويلها او التصرف بها بأي شكل.

يتعين على المستفيد من الاموال القذرة ان يقوم بنقل الاموال من المصدر الى مكان التبييض لغرض غسلها (أي تبييضها) عن طريق ادخالها في عمليات تجارية صورية تعطيها في النهاية طابعا مشروعا .

غالبا ما يخسر المتعامل بالاموال القذرة كمية كبيرة من المبلغ او حتى خسارة المبلغ بكامله. فالنقل المباشر يتعرض للتفتيش والمساءلة وربما المصادرة، اما البنوك والصرافون فيشترطون اخذ ربع المبلغ او نصفه كاجور تحويله ونقله من مكان لاخر. لكن أغلب السياسيين يستلمون مبالغ نقدية في حقائب وذلك تجبنا للتحويل الرسمي باسمائهم لكي لا يوفروا وثيقة رسمية لخصومهم. والدول التي تسلمهم تلك الاموال توصلها معهم الى المطار، او يحملها السفير او المبعوث الخاص الى السياسي في مكتبه.

               *            *           *

يعلم الجميع ان السياسيين العراقيين يحتاجون الى مبالغ طائلة لتمويل عملهم سواء كانوا في السلطة ام في المعارضة، فمكاتبهم في العاصمة والمحافظات ورواتب العدد الكبير من الموظفين المرتبطين بهم والحراس الشخصيين وحراس وموظفو المقرات والمكاتب والبيوت والفضائيات المرتبطة بهم والصحف التي يصدرونها وباقي النشاطات الاعلامية والدعائية وتكاليف النقل والاتصالات والرحلات الى دول الجوار والى الدول الغربية والاقامة مع اطقم الموظفين المرافقين لهم في فنادق خمسة نجوم ومصاريف الانتخابات والهبات والهدايا والمساعدات التي يقدمونها للشؤون الانسانية ولمنظمات المجتمع المدني، ورواتب الميليشيات و ...الخ كل هذا يحتاج الى مبالغ طائلة تقدر بملايين الدولارات ليس بمقدورهم تأمينها من مداخيلهم المهنية (أو مما تركه لهم الوالدان والاقربون).

وهنا يأتي السؤال المشروع عن مصدر التمويل هذا، وهو السؤال الذي بقي بلا جواب، او حصل على اجوبة هزيلة من قبيل: تبرعات المحسنين أو الحقوق الشرعية بالنسبة للاسلاميين، أو تبرعات المؤيدين بالنسبة للعلمانيين. وهي اجوبة مضحكة، فعالم السياسة ليس فيه تبرعات محسنين والحقوق الشرعية لا يعطيها التجار للسياسي بل للمرجع، وموقف المرجعية من السياسيين معروف ولا داعي للتذكير باغلاق ابوابها بوجههم منذ أمد ليس بالقريب، اما تبرعات المؤيدين فهو ادعاء ليس اقل بؤسا من ادعاءات الاسلاميين.

ان حصول السياسيين على دعم مالي من ممول كبير هو الجواب الصحيح عن السؤال عن مصدر تمويل السياسي العراقي، ومصدر التمويل هو جهة لها مصلحة سياسية او اقتصادية كبرى في دعم هذا السياسي، وهذه الجهة هي احد اثنين: دولة لها اجندة سياسية في العراق تدفع للسياسي لكي ينفذ اجندتها، او شركات تدعم السياسي مقابل ان يرد لها الجميل في توفير فرص استثمار او عقود تفوز بها دون غيرها. ما عدا ذلك فلا توجد جهة تقدم للسياسي مالاً لسواد عينيه أو لسواد عمامته او قربة الى الله تعالى.

السياسي اذن تموله جهة تجعله بصورة من الصور موظفا عندها لتأمين مصالحها بعد ان يتمكن من الحصول على موقع يفترض فيه ان يكون موظفا عند الشعب لتامين مصالحه. وهنا يقع السياسي في التناقض، لانه يصبح موظفا مزدوجا عند الشعب الذي انتخبه فأوصله الى الموقع، وعند الجهة التي موّلته حتى وصل الى الموقع، فلمن يخلص؟ ومصلحة من يقدّم؟

ان هذه الوظيفة المزدوجة تخلق له في البداية ازمة نفسية حادة اذا كان مستجداً، لأنه يعيش الصراع بين مصالح الشعب ومصالح الممولين، لكنه من الناحية الاخرى يعيش صراعا آخر يتعلق بوجوده كسياسي، فاما ان يواصل العمل كسياسي ويقبض من الممولين فيقدم مصالحهم على مصلحة الشعب، واما ان يستمر في العمل كسياسي مفلس وهذا يعني ان يترك السياسة فيخسر موقعه ويعود شخصا اعتياديا له ما للناس وعليه ما عليهم، ويكدح لكي يحصل على رزقه، ويعيش كما يعيشون، يأكل الطعام ويمشي في الاسواق ويترك المنطقة الخضراء ويتعرض لانقطاع الكهرباء يقف في الطابور، ويخضع للتفتيش، ويتعرض للاهانات في الدوائر الرسمية. ولأن العودة الى الحياة الطبيعية لا معنى لها، فانه يلجأ الى عملية مصالحة مع الذات يقنع فيها نفسه بأن بقاءه في الميدان افضل للشعب من انسحابه، لأن انسحابه يفسح المجال للسياسيين الفاسدين ان يحلوا محله، لذا - ومن باب دفع الضرر الاكبر بالضرر الاقل- يقرر البقاء واستلام الاموال القذرة لكي لا يقع الشعب ضحية السياسيين السيئين. وهكذا يستريح الى هذا التبرير وينطلق في مسيرته يتحدث في خطاباته عن النزاهة والشرف والشفافية والتضحية في سبيل المصلحة العامة والامانة ونظافة اليد والارق الذي يصيبه عندما يفكر بمعاناة الناس، وقد يتحدث عن الزهد ويستشهد بآيات واحاديث متصوراً وجود من يصدقه.... اما قلبه فيحتوي ما لا علاقة له بكل هذا الخطاب.

هذه المشلكة يعاني منها 99و99% من السياسيين العراقيين، وهي التي تجعلهم يخافون من مصارحة الشعب بمصادر تمويلهم فالجواب الصحيح يفضحهم لأنه يكشف لمن يعملون، والجواب المزيف يحرجهم لأنه لا يجد من يصدّقون.

             *           *           *

هناك مصدر ثانٍ للتمويل هو الفساد بصوره المختلفة، فغالبية السياسيين متورطون بصفقات فساد في مشاريع وهمية او مشاريع حقيقية يتفق فيها السياسي مع الشركات على رفع كلفة المشاريع عدة اضعاف ليحصل على غنيمة باردة بملايين الدولارات في جلسة واحدة لا ينفق فيها الا حبر التوقيع على العقد، او قيمة مكالمة لأحد المسؤولين يوصيه فيها – من منطلق الحرص على المصلحة العامة !- باحالة المشروع او المناقصة الى الشخص الذي دفع العمولة.

اما المصدر الثالث للبعض الآخر فهو الاستيلاء على الاموال العامة للدولة من املاك ومواد تجارية او تموينية او استهلاكية بصور مختلفة جعلت الناس يسمون السياسي الذي اشتهر بهذه الطريقة من النهب بـ"حرامي بغداد".

                     *           *            *

 تلك هي مصادر تمويل السياسيين العراقيين وهي سبب كاف للخوف من مكاشفة الناس بتفسير مقنع لثرائهم المفاجئ. ان تسترهم على مصادر تمويلهم وخوفهم من مواجهة اي سؤال عنها يعود الى الصفة المشتركة التي يتصفون بها وهي اعتمادهم على الاموال القذرة التي تدفعها الدول والشركات او التي يجنونها من الفساد او السرقة المباشرة للاموال العامة.

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2256 الجمعة 26 / 10 / 2012)

في المثقف اليوم