أقلام حرة

تبُرسق .. وتلّ / نجاة البُكري

وما سطره تاريخ كل واحدة منهما وبما بصمتاه من سطور ساهمت في توسيع آفاقي الذهنية التي كان يحاصرها إطار واحد بمكوّناته؛ قريتان جعلتاني أغير من فهمي للحياة بما أضافتاه لي من ألوان تلامس الباردة.... وتُبرز الدّاكنة لتتصادم تارة مع ما فرزته فطرة الكون وتتصالح معها تارة أخرى وترسم بأي حال من الأحوال دليل مسيرتي.

 

عام ألف وتسعمائة وثمانين، قررت التوجه نحو بلدة تُبُرسق حيث انطلقت حياتي المهنية وما ظننته استقلالية بذاتي حتى أخوض معترك الحياة.

تقع بلدة تبرسق شمال غرب تونس، تبعد عن مسقط رأسي تونس العاصمة مائة كيلومتر، هي منطقة جبلية متوجة بالغابات في حين يكسو القمح والخضروات سهولها، وأكثر ما راق لي في ذلك المكان هو موقع المدرسة التي انتدبتُ للعمل فيها، حيث انتصبت على قمة الجبل فيما كانت شجرات الغابة الشاسعة تزين المكان بلونها وتنعشه برائحتها لتشكل أحلى إطار

.

حين أذكر بلدة تبرسق، أستحضر شريطا مليئا بالذكريات ومن بينها "سوق الخميس"، ذلك السوق الأسبوعي الذي يضيف الكثير للبلدة ولأهلها، ولا يمكنني إلا أن ألقبه إلا بسوق الحياة؛ فهو يدعو سكان تبُرسق إلى الخروج عن المألوف، فترى ذلك جليا حتى في طبيعة مشيتهم وهم ينطلقون نحو شيء مختلف للتحرر من الرتابة اليومية.

تغادر ربات البيوت كل صباح خميس منازلهن مبكرا حتى يتمكنّ من التجول في السوق قبل اكتظاظه بـ(الرّجل الغريبة) ويقمن باقتناء ما يلزمهن من أدوات منزلية ومستحضرات زينة وإعطاء الخضروات ولحم الخروف وقتا أوفر، فلكل واحدة منهن مهمة تنتظرها في البيت بعد التبضّع وهي تحضير وجبة "الكُسكُسي" الأسبوعية التي يتوحّد فيها أهل البلدة في ذلك اليوم من كل أسبوع، لذلك تراهنّ يتفنن في اختيار حبات الجزر والكوسا والبطاطا والفلفل الحرّ وكل ما يلزم هذه الطبخة من خضروات طازجة لا غبار عليها؛ وأول ما يحرصن على فعله هو التوجه إلى زاوية الجزّارين المتواجدين مع عدّتهم حيث يتم ذبح الخراف، وتقوم كل ربّة بيت باختيار الجزء "المناسب" من الخروف لتكون الطبخة "على أصولها" وتضفي عليه تلك النكهة المميزة، وكلما كان الخروف صغير السن يكون طعم اللحمة طيب كالـ"فستق*"، فهنّ لا يغفلن أبدا عن السؤال على مكان مرعاه، فعشبة المرعى إن كانت زعترا أو إكليلا أو غيرها من النباتات ذات النكهة الزكيّة تزيد اللّحم من لذته  ومن لذّة الطبق الذي سيُطبخ على شرفه ؛ وحول الخضروات واللحوم ومستحضرات التجميل والأدوات المنزلية، يتراءى لك المكان وكأنه حلبة سباق يكون فيها الفوز لتلك التي تستمتع بجولتها الصباحية وتفوز باحتياجاتها لتحرص على أن تكون طاولتها جاهزة مع تلك الوجبة المُلوكية وما يرافقها من سلطة وفواكه طازجة عند الساعة الثانية عشر والنصف ظهرا موعد عودة أفراد الأسرة سواء كان من المدرسة أو العمل.

 

كنت وزميلاتي المدرسات المقيمات معي، من مدللات البلدة، نحظى برضى أهالي البلدة مما يضمن لنا حصتنا من الأكلة المميزة والشهية كل خميس، فترى مائدتنا مزينة بأطباق الكُسكُسي المرصّع بالخضروات واللحم لا بطبق واحد بل بأطباق...!!!

 

تُبرسق هي تلك البلدة الجميلة في الصيف والممتعة في الشتاء رغم قساوة جوها الذي كان يُضفي لخضرتها رونقا سواء بعد أن تغسل أمطارها الشجر الموجود أو حين توشّحها الثلوج لتبدو أكثر تواضعا مما كانت عليه؛ أما صُحبة الغيوم في فصل الشتاء ونحن في طريقنا لتلك المدرسة المعلقة، فقد كان يُعطينا ذلك الشعور الغريب المحبّب على قلوبنا بالتفرد، شعور مميّز وجميل في آن واحد، ذلك الإحساس الذي يذهب بنا إلى عالم الحلم الذي أحسن ذات يوم الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي التعبير عنه في إحدى قصائده التي نحفظها منذ نعومة أظفارنا، فترانا ننسجم بحُلّة طفوليّة لننشد سويا وبصوت خافت

":خُلقت طليقا كطيف النسيم            وحرّا كنور الضحى في سماه

تُغرد كالطير أين اندفعت..... وتشدو كما شاء وحي الإله"

فاستراقنا لتلك اللحظات رغم حركة تلاميذنا المرافقة لتوجّهنا، لا يزيد إلا فرحة ببداية يوم جديد .

فالمدرسة هي ذلك المبني المترامي الأطراف والمُحاط بالغابة الشاسعة لا لشيء بل لكونها في الأساس هي ثكنة عسكرية من إنشاء الإستعمار الفرنسي؛ واستخدامها كمدرسة يعطيها تلك الميزة بإطارها الحر والملقى في أحضان الطبيعة الغناء.

صورة تبرسق هي مجموعة الصور التي ذكرتها ولا يمكن أن تغيب عن ذهني لكونها كشفت لي عن جزء مهم من شخصيتي تجاه مسؤولية لا يمكن أن أدركها إلا من خلال هذه التجربة التي زينتها في ذهني بكل تلك التفاصيل التي نسجها خيالي وما فرضها واقع التجربة ذاتها.

وبعد أربعة عشر سنة غيّر "النّصيب" وجهتي نحو شرق المعمورة لأجد نفسي برفقة أسرتي الصغيرة بقرية تلّ*، تلك القرية الفلسطينية التي تقع جنوب غرب نابلس بالضفة الغربية حيث الجبال الصخرية القاسية التي تغطيها بشكل غير منتظم أشجار الزيتون واللوزيات.

وصولي لقرية تلّ كان له وقع مختلف حيث رافقتني في رحلتي إليها أحاسيس متناقضة كتناقض تلك التضاريس والمناخات التي اعترضت طريقي على حين غرّة؛ فبلوغي فلسطين هو أمر غير عادي، ولا شك أنه أضفى علي شعور يشبه ذلك الذي يتملكنا حين نفوز بشيء لم نتوقع الفوز به، إلا أن الطريق المتشعبة التي عبرتها برفقة أفراد أسرتي للوصول إليها جعلني أتذوق مرارة الابتعاد واستحالة العودة إلى حيث أمي وإخوتي وأصدقائي ومكان عملي وتربة اشتم رائحتها مع مطر أيلول الغزيرة " غسّالة النوادر"* ورائحة زهر ياسمين اقترن بحديقة بيتنا وعقد كنت أصنعه لوالدتي لألمح ابتسامتها، إلا أن ذلك لم يمنعني من الإبحار في تفاصيل بوابة تلك القرية الصغيرة رغم الضباب الذي كان يكسو معظم أرجائها ويعانق بحياء شجر امتد على طول طريقها المتعرجة في معظم مسافاتها.

حين ينتقل الإنسان للسكن في بلاد غير بلاده، تراه وبدون أدنى شك يتمعّن في تفاصيل مكان إقامته الجديد ليتعرف عليه من قرب ويبحث عن  تلك التي تتشابه بتلك التي اعتاد التعايش معها  حيث نشأ وترعرع ...ويسعى لإيجادها وملامستها ليتوازن في مسار ربما عليه الكثير من الوقت ليألفه، وأول ما يهتم باقتناصه هي ملامح وانطباعات مُضيفيه والذين سيكونون غالبا مرافقيه الدائمين سوى من قرب أو عن بعد.

كمقيمة زائرة حلّت كغريبة ديار لتك القرية، وجدت الترحاب بي وبأفراد أسرتي من قبل معظم سكانها سواء كانوا من أقارب الأسرة أو الجيران، أو من اللواتي حرصن على الحضور للتعرف على "كنّتهن الجديدة" والتي مرّ آنذاك على زواجها إحدى عشرة سنة!!

بعد فترة وجيزة من وصولنا وبعد أن تراجعت موجة البرد القارس التي استقبلتنا وحررت الثلوج شوارع القرية، حرص أفراد الأسرة على مرافقتنا في جولات ميدانية للأراضي خاصتهم والتي من خلالها وبحكم موقعها المرتفع، استطعنا استكشاف معظم أنحاء المكان الأخضر الموشح ببقايا الثلوج، واستمرت عملية استطلاعنا للمكان، فلم تُقتصر على "اللّحف" ومحيطه حيث أقمنا، فقد ساقتنا أقدامنا في فترات أخرى إلى الناحية الغربية من القرية لندرك موقع "رجال الأربعين" ذلك المكان الذي أشعرني بشيء من التحرر والانطلاق نحو الفضاء الشاسع والرابط بما رأيت فيه طريقا مفتوحة نحو جوّ نقي فمنحني، بإطلالته على القرى المحيطة، شعور أمان لما وجدت فيه من ألفة تشابه تلك التي وجدتها ذات يوم بعيد في تلك المغارة البعيدة والمنفردة في جبل سيدي بوسعيد*، فما الجامع بينهما رغم اختلاف المواقع وتباعدها يا ترى؟

لست أدري، فما كان يهمني هو شعور الراحة والاستمتاع اللذان آنساني وحرّراني من وحشة خفيّة... ولو لحين!!

وحين أتحدث عن قرية "تلّ"أيضا، لم أكن لأنسى زيارات الأهل بعد دعوتهم لنا، وكما جرت العادة، فهي لم تخلُ من وجبات الـ"مسخّن" أو الـ"منسف" الدسمة التي نلتف حولها ولا نجرؤ على الامتناع عنها، فالرائحة شهية وخاصة حين يتعلق الأمر بخبز الطابون الممتزج بنكهتي البصل والسماق في وجبة المسخن، فرغم عدم قدرتنا على الاستجابة لإلحاح المُضيفين ومسايرة من شاركونا الولائم من أفراد الأسرة، إلا أنه لا يمكننا إلا تلبية رغبتهم قدر المستطاع والأكل من معظم ما تقدّم لنا من أطباق مصاحبة لتلك الوجبة الرئيسية لنغادر مثقلين لكثرة ما أكلنا رغم احتساء القهوة السادة التي يُقال أنها تساعد على الهضم!!

أتستطيع القهوة السادة أن تنسيني، حسب اعتقادكم، مدى استهجاني لتلك العناصر الجديدة التي اقتحمت إطار حياتي الجديد لتكون من ثوابتها دون شك؟! وما كنت في بداية مشواري مع الغربة لأستسيغها، فاعتراض السيارات العسكرية الإسرائيلية المُدججة بالسلاح والخوذات الحربية طريقنا كلما نوينا مغادرة القرية والتوجه للمدينة كان أمرا مستهجنا خاصة وأن المشاهد التلفزيونية المركزة التي حمّلتها في جعبتي وتخوفات أمي من الاحتكاك بهم هما مصدر قلقي، فاستجابة سائق السيارة في كل مرة لإشارة الجندي بالوقوف تجعلني في كل مرة أتخيل مشهد ترحيلي لمدينة أريحا في تلك الدورية المقيتة وبرفقة أولئك الجنود الذين لا يمكن أن يطمئن قلبي لصحبتهم وأنا التي أعلم أن مكان إقامتي المدون على الهوية هو أريحا وليس نابلس!!

تُبُرسق تونس وتِـلّ فلسطين هما قريتان سطّرتا في حياتي من الأسطر ما صقل شخصيتي واكتشفت من خلالها ذاتي التي تنسجم حيث لا بد من الانسجام وتنفر من كل ما يعكر صفو جوها. 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2265 الأحد 04 / 11 / 2012)

في المثقف اليوم