أقلام حرة

اورهان باموق: الكتاب عهد / ميادة خليل

يخبرسمير رحيم لماذا حوّل متحفه الخيالي الى واقع.

 

في رواية اورهان باموق الثانية " البيت الصامت" التي نشرت عام 1983 في تركيا، المتيم حسن يبحث خلسةٍ في حقيبة حبيبته اليدوية بينما هي تسبح في الخارج. بين كريم تسمير البشرة، المحفظة، مشابك الشعر والسجائر، تجسس على مشط اخضر. وقبل ان تعود من الخارج، احتفظ به كتذكار لحب من طرف واحد. " قبل ان اعيد قراءة الرواية، كنت قد نسيت هذه اللحظة"، اخبرني باموق عندما التقيت به في مكتبه. الاشياء مهمة للغاية في روايات باموق، في " أسمي احمر" الجريمة الغامضة تحدث بين مجموعة من رسامين الزخارف العثمانية، احدى فصول الرواية ترويها عملة ذهبية. هاجس الاشياء لدى باموق كان يحمل افاقأ جديدة في روايته الرائعة " متحف البراءة " 2009، وفيها الراوي كمال مثل حسن يعيش قصة حب من طرف واحد، ويجمع عشرات الاشياء التي امتلكتها ابنة عمه الجميلة فوزون ويرتبها في متحف.

 

ولد باموق في 1952 لابوين ينتميان الى الطبقات العليا من المجتمع، أكد لي ان رغبته في سرقة حلي النساء كانت من الخيال، وليست من سيرة ذاتية.  " الحصول على شيء سراً والعودة به الى المنزل ليست من خيالي، لكن الفكرة في معاملة امراة داخل ثقافة تمنع التقاء الرجل والمراة معاً خارج اطار الزواج. ليس من الممكن امتلاك علاقة حميمة، لكن من الممكن امتلاك الاشياء." . يتحدث الانكليزية بسرعة، ومع ذلك يلتمس طريقه في ايجاد كلمة بين الحين والآخر، وعندما يجدها، ينطقها بسلاسة.

 

من جانب آخر، حسن في " البيت الصامت" شخصية مختلفة جداً عن كمال في " متحف البراءة " محب الفن ابن الطبقة العليا. حسن نبذته المدرسة وعلقوه على حبل المشنقة مع القوميين الاتراك. سقط في شرك اليسارية بنكهة تورغينيف. قصته تنتهي بعنف. أتساءل من أين جاء هذا الشوق؟ . " في الادب الاسلامي الكلاسيكي، الرغبة الى الحبيب هي كناية عن الرغبة الى الله " يقول باموق. " لكن في روايتي حسن عاشق، بكل تطرف العاشق، عكس رغبته في حياة أفضل. احب هذه الفكرة، هي فكرة فنية، لكنها ايضاً فكرة واقعية جداً. نحن نقع في الحب بعمقٍ اكبر عندما نكون تعساء. " .

 

أي شخص زار أسطنبول سيعرف ان المدينة سكنها العثمانييون في الماضي. حزم تركيا الجديدة ـــ حول ملكيتها السابقة لسوريا، على سبيل المثال ـــ أدى بالمراقبين الى الاعتقاد بان رجب طيب اردوغان رئيس الوزراء التركي يتوق لأحياء الماضي. باموق رغم ذلك قلق من انجرار المسائل السياسية في رواياته : " لم يكن في اعتقادي ابداً ان الرواية كانت سياسية عندما نشرتها"، قال عن رواية " البيت الصامت". "ولم يقل احد في تركيا ان الرواية كانت سياسية ". عندما يزور احدهم ضريح محمد الفاتح في اسطنبول، سيجد ان هناك اجواء قومية لافتة للنظر. " أسطنبول مكان واسع." قال باموق بحذر، " هناك احياء محافظة جداً، وهناك اماكن تسكنها الطبقة العليا، مقلدي الغرب، مستهلكي الحضارة الغربية"

 

حذره أمرٌ مفهوم. بعد تصريحاته عام 2005 التي سلط فيها الضوء على المجازر التي أرتكبت بحق الأرمن في اعقاب تفكك الامبراطورية العثمانية. لاحقته السلطات التركية بموجب المادة 301 من قانون العقوبات، وحسب هذه المادة تعتبر جريمته هي " اهانة القومية التركية". القضية انتهت عام 2009 ومنذ ذلك الحين تم تعديل القانون، لكن لايزال لديه حراس شخصيين عند تواجده في اسطنبول. (يمضي معظم وقته بالتدريس في جامعة كولومبيا، نيويورك)، " الآن، الجميع يقول الشيء نفسه"، يقول عن القضية الارمنية، رسالته الموجزة التي يفتخر بها اتاحت حرية التعبير في بلده، لكن يشوبها الحزن على ما دفعه ثمناً لموقفه.

 

لقد اسعده الجمهور التركي الذي أستقبل روايته " متحف البراءة " بحرارة بالغة. " كان استقبالاً جميلاً ــ لا شيء ولكن، انا اعترف، لقد استخدمت وسائل الاعلام التركي.  " متحف البراءة " ليست عن السياسة، انها قصة حب، لكني اعتقد انها سياسية بمعنى انها ارادت ادراك كيفية قمع رجل لامراة. اكثر من ذلك هو عاشق، اكثر من ذلك هو قمع حبيبته ــ حالة نموذجية شرقية، لاغربية" .

 

لا ينبغي لأحد ان يضع افتراضات سهلة عن مكانة المراة في المجتمع التركي: " رايت الكثير من الصور لنساء على أغلفة كتب باللغة الانكليزية تتحدث عن نظرية المساواة بين المراة والرجل والاسلام،" قال باموق، " انها تقريباً ودائماً نفس الصورة : امراتان ترتديان الحجاب، تقودان دراجة نارية، او يستخدمن الكمبيوتر، او يفعلن اي شيء عصري. هذه سذاجة، ردود الافعال الغربية غير المثقفة في فهم ما يحدث والتي تفترض ضمناً كما يبدو ان المراة التي ترتدي الحجاب لا يمكنها الخروج من المنزل، في حين ان الحقيقة هي انها لاتخرج من المنزل الا اذا ارتدت الحجاب ".

 

ومن سخرية الاقدار، ان " متحف البراءة" ليس مجرد رواية، بل هو أيضاً متحف. أفتتحه باموق في ابريل من هذه السنة وجعل منه حقيقة كما فعل كمال في الرواية. مجموعة فوزون رُتبت وفقاً لذكرياته. هو مشروع " غريب" هو يعترف، لكن لحسن الحظ اعاده الى جذوره كطالب هندسة وفنان : كان طموحه الاول ان يكون رساماً.

 

باموق صحح لي وصفي عن المتحف عندما شبهته بالفيلم. نسخة متحف عن رواية. " انا لا اكتب الرواية اولاً، وهي ناجحة بالفعل،  بل ادعوا نفسي للتعايش. انا اكتب الرواية كما اجمع الاشياء التي ينتهي بها الحال الى المتحف " . لمساعدته على وصف الشخصيات في الرواية، الكاتب اشترى ملابس شخصياته، الاقراط والنعال، التي تعرض اليوم في المتحف. " بطاقات بريدية، صور، اشياء ليست فقط لفوزون، ولكن للفترة باكملها"، قال باموق وأضاف وخزة أثارة. " كانت رغبة لأدراك تلك الفترة مع الاشياء الخاصة بها". " عندما يقرا الناس رواية بطول 600 صفحة، بعد مرور ستة أشهر كل مايتذكرونه من الرواية خمس صفحات. لايتذكرون النص ــ بدلاً عن ذلك يتذكرون الاحاسيس التي منحها النص لهم. في " متحف البراءة"، حاولنا اعطاء تصور لمشاعرهم تلك. تصميم المتحف أعتمد على فصول الرواية : الرواية من 83 فصل، كذلك المتحف لديه 83 خزانة عرض. وكل صنوق يتوافق مع عاطفة ذلك الفصل" .

 

واحدة من المعروضات الاستثنائية هي مجموعة فوزون 4،231. اعقاب سجائر احتفظ بها كمال. كل واحدة منها تمثل عواطف فوزون في اليوم الذي دخنت فيه السيجارة (الوصف مكتوب يدوياً)، بعضها ملتوية من سحقها بغضب في منفضة السجائر، بعضها دخنتها الى النصف عندما كان عليها المغادرة مبكراً، وجميعها عليها آثار احمر شفاه. اذا لم تكن مُفصلة بما فيه الكفاية، يكتب باموق عبارة تحت كل واحدة منها مضيفاً الى التاريخ الصغير لعلاقته: " انت حذر للغاية"، " عارُ آخر الليل"، " ليس هناك عودة الى الوراء".

 

" لم يستغرق وقتاً طويلاً ــ لكنه أمر ممتع" قال باموق، ثم انفجر ضاحكاً " هناك الكثير من العمل ـــ لكن كل شيء جيد مسلي" . اقتطع ستة أشهر من كتابة روايته القادمة لانجاز المشروع ــ أيضاً تدور احداثها في أسطنبول السبعينيات، لكن هذه المرة من وجهة نظر بائع متجول ـــ منذ أفتتاح المتحف حضره حوالي ثلث السياح وثلثين الاتراك.

 

عمل متحف تذكاري حقيقي صنعته شخصيات خيالية قد يشير الى ان باموق اصبح مهووساً كشخصيات رواياته. " انا لا اهوى جمع الاشياء" قال باموق، " لدي 16،000 كتاب ولا مانع لدي ان سرق احدهم كتاب من كتبي. من يهوى جمع الاشياء هو شخص لديه 16،000 كتاب وفخور بانه لم يقرأ أي واحد منهم. انا لا احب ذلك، انا استخدمهم وأقرأهم."

 

باموق لديه عادة اسقاط شخصية اسمها " اورهان باموق" في اعماله: في " البيت الصامت" هو " من المفترض ان يكتب رواية"، وفي " متحف البراءة" هو في حفلة خطوبة كمال، يدخن مع "ابتسامة ساخرة". لماذا يهتم بهذه الطريقة في طمس الحدود بين الواقع والخيال؟. " انا اظهر في رواياتي ليس بالضرورة بأسلوب هيتشكوك" قال باموق. " ليس لجعل الناس يتساءلون ما هو الخيال وما هو الواقع، لا شيء من هذا القبيل، لكن انا اظهر لكي أنبه القارئ ان ما يقراه خيال" .

 

هل وضع صورته في المتحف؟ " انا اظهر، " قال مازحاً، " هناك تلميحات تشير لي ولعائلتي، نكت خاصة، لكن لن يفوتك الكثير ان لم تجدها ". عاش مع هذه المقتنيات فترة طويلة بحيث لم تعد دعامة للخيال، لكن مثل الكتب على رفه، تدوي بمعنى مبشر. " كل الفنون هي عن رؤية عوالم اخرى من خلال الاحداث في العالم. امتلاكك نسخة من كتاب يماثل امتلاكك التفاؤل في يدك ـــ سوف تتبع القصة، سوف تفهم عواطف الناس، الكتاب عهد."

 

The Telegraph

  

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2273 الأثنين 12 / 11 / 2012)

في المثقف اليوم