أقلام حرة

ذنب مالي في عنق الجزائر .. الانسحاب خير من مواصلة الفشل وتوريط الجيش / إيناس نجلاوي

وفي تلك اللحظة مأمأ خروف جحا، فقال أحد اللصوص:

- إذا لم نجد ما نسرقه، ندخل هذه الدار ونقتل صاحبها ونذبح خروفه، ونأخذ زوجته.

فلما سمع جحا هذا الحديث، ارتاع قلبه، وأخذ يسعل بشدة وعنف، فخاف اللصوص وفرّوا. فقالت له زوجته: - أعتقد انك خفت فأخذت تفتعل هذا السعال وهذه الضجة، أما أنا فلم أخف مطلقا.

رد جحا: - طبعا. أنتِ لا يهمك شيء، ولكن المصيبة كلها عليّا أنا وعلى الخروف!

طبعا، مراد مدلسي – وزير خارجيتنا الميمونة- لا يهمه شيء؛ ولكن المصيبة كلها تقع على الجزائر دولة وشعبا وجيشا. مراد مدلسي لا نعلم كم جنسية أجنبية يحوز ولا في أي مدارس أوروبية يتعلم أولاده أو في أية ولاية أمريكية يقطنون. لكننا نعلم جميعا أنّه تحسر –في جلسة الاستماع الأوروبية- على أنّ الجزائر ليست فرنسية وأنّه يتمنى لو وُلِد فرنسيا.

مدلسي حر في اختياراته وانتماءاته مادامت خيانة الوطن لم تعد جريمة عقابها الإعدام، لكنه عليه أن يدرك أنه ممثل دبلوماسية النظام وليس الشعب. وان كان الشعب ساكتا ساكنا، فهذا لا يعني البتة انه قابل للاستغباء و راضي عن دبلوماسية العار.

ما معنى أن يصرح وزير خارجيتنا –في شهر اندلاع الثورة المباركة- أن زيارة هولاند المرتقبة إلى الجزائر "بإمكانها استحداث الظروف المناسبة لإعادة تكييف ذاكرتنا المشتركة"؟!! الذاكرة الجزائرية غير قابلة لإعادة البرمجة مهما مرّت السنين والعقود، فأقل واجب نحو شهداءنا أن لا ننسى تضحياتهم ومعاناتهم لأجل تخليص الجزائر من الاستدمار الفرنسي. يبرر مدلسي حثه جموع الجزائريين على النسيان بأننا "نتحدث اليوم عن مرحلة جديدة"! نحن بالفعل نمرّ بمرحلة جديدة بلغ فيها الحقد الفرنسي حد الرغبة في تكسير حصن الوطن: الجيش الشعبي الوطني. أما عن التعاون الفرنسي-جزائري الذي يصفه بالـ"مكثف جدا"، فنحن نراه ضغطا شديدا جدا على العاصمة لتوريط الجيش في صراع حدودي طويل الأمد، يستنزف أفراده وطاقاته، ويضيّع حدود الجزائر الجنوبية الغربية.

عقب زيارة هيلاري كلينتون، خرج مدلسي –في مطلع شهر نوفمبر- يعلن أن الجزائر تبارك تدخلا عسكريا في مالي إذا كان الهدف محاربة الإرهاب، وهو بذلك نسف كليا مبدأ الجزائر بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول واعتماد الحوار والتفاوض لإيجاد الحلول. لكن في منتصف نوفمبر –بعد أيام من تخندق الجزائر في معسكر الحرب- عادت الخارجية مجددا للإصرار على الحل السلمي!  

فإثر إقرار الإيكواس إرسال 3300 جندي –كما كان متوقعا- لمدة عام لإعادة النظام في مالي، وصف الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية -عمار بلاني- (في تصريح لموقع "كل شيء عن الجزائر") قرار التدخل بـ"الخطأ الكارثي" الذي "سيفهم منه بأنه تدخل يستهدف السكان المحليين من أصل طرقي." ما هذا التذبذب المخجل في ردود فعل الجزائر؟ هل تفاجأ النظام بإقرار مجموعة غرب إفريقيا نشر قوات عسكرية في مالي؟! ماذا كان ينتظر إذا بعد تدخل فرنسا وأمريكا بثقلهما؟

هذا التعارض في تصريحات وزارة الخارجية الجزائرية يضع علامات استفهام وتعجب حول حقيقة تماسك الموقف الجزائري تجاه أزمة الساحل. نظامنا (معندوش كلمة)؛ لا كلمة له ولا يثبت على حال. فتارة يرى أن التدخل لا داعي له، وتارة أخرى يصبح التدخل ضرورة! عيب على أقوى وأكبر دولة في الشمال الإفريقي أن تمارس المراهقة السياسية وتغيّر خياراتها الإستراتيجية مرتين في الشهر الواحد!

كل ما أخشاه أن المعارضة الظاهرية لقرار الحرب ليست سوى مناورة جديدة يقوم بها النظام لتفادي سخط شعبي عارم. أخشى أن النظام قد شرع في تجهيز الوحدات التي ينوي إرسالها وتهيئة الحدود الجنوبية لإنزال الناتو سرا وفتح المجال الجزائري لمرور الطائرات الفرنسية. وفي المقابل، يصدّر النظام للشعب و يبث عبر قنواته وصحفه أنه ثابت على موقف رفض الحرب، محافظ على وحدة الجيش وسلامة التراب الوطني. وقد نتفاجأ مجددا بزيادة ارتفاع أسعار بعض السلع التموينية و نقصها في الأسواق؛ وهي عادة دأب عليها النظام المخابراتي لإبعاد المواطن عن السياسة...

لم يعد مُهِمًا أن ترفض الجزائر أو تقبل، فالقرار تم اتخاذه في مراكز صنع القرار العالمية، وبدء الحملة العسكرية مسألة وقت لا غير. أما الجزائر فقد انسحب البساط من تحت أقدامها، كما حدث أثناء الأزمة الليبية. والجزائر وحدها تتحمل مسؤولية تقزيم دورها في الساحل الإفريقي؛ المنطقة التي تنتمي لها جغرافيا، وذنب شمال مالي في رقبة النظام الجزائري...

اتجهت الأنظار والأطماع الغربية لسنوات نحو شرق إفريقيا، وبالضبط السودان ومنطقة دارفور التي اشتعلت منذ أن اكتُشِف بها البترول. في تلك السنوات، كان الغرب الإفريقي بعيدا عن دائرة الضوء وكانت الريادة للجزائر والحل والربط في متناولها. فأنشأت بتمنراست في عام 2010 "قيادة أركان الجيوش لدول الميدان"؛ وهو تكتل عسكري لدول الساحل الإفريقي الصحراوي على مستوى هيئات الأركان بغرض التنسيق الأمني المشترك لضمان أمن الساحل والقيام بضربات خاطفة ضد الجماعات الإرهابية التي تهدد استقرار المنطقة. وأشبعنا قايد صالح لقاءات ومشاورات واجتماعات على أعلى المستويات، لكن المبادرة باءت بالفشل الذريع لأنها لم تخرج عن نطاق الغرف المغلقة لقمم دول الميدان. أما في الميدان، فلم نلاحظ أدنى نشاط ملموس لقوات الساحل في مواجهة تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي. ولم تخرج المناورات عن نطاق الاستعراض العسكري الموجه للإعلام والكاميرات.

إذا، الحل العسكري كان مطروحا منذ البداية لأن الحديد لا يفله إلا الحديد، ولذلك تزعمت الجزائر القيادة العسكرية لدول الميدان لكنها لم تحقق بها شيئا وسمحت بسقوط شمال مالي في قبضة مجموعات إرهابية.

فشل الجزائر في التخطيط والإدارة العسكرية لملف شمال مالي يضاهي فشلها السياسي والدبلوماسي. فعقب الانقلاب في مالي وسيطرة المتمردين على الشمال، سعت الحكومة الجزائرية بين أروقة الأمم المتحدة لاستصدار قرار أممي حمل في طياته تفضيلا للحل العسكري!! القرار رقم  2071 الصادر عن مجلس الأمن الدولي يحدد مهلة 45يوما لرفع التقرير النهائي حول الأوضاع في مالي. ومن ثم –مع انتهاء المهلة في 26نوفمبر- يجيز المجلس قرع طبول الحرب في غرب القارة الإفريقية.

مهلة التفاوض تلك والتي شارفت على نهايتها لكن الجزائر تستمر في العناد والإصرار على أنها الحل الأمثل هي مهلة تعجيزية، وحكومة الجزائر تدرك يقينا أن لا طائل منها. ثم التفاوض مع من؟ فقد كثرت أطراف الصراع وسُنت السكاكين، حتى لم يعد ممكنا التفريق بين مسلح طوارق أزواد وطوارق أنصار الدين. والتحاور مع الحركة الوطنية لتحرير أزواد –والذي تراهن عليه الجزائر- قد فات أوانه لان الحركة لم تعد تملك مفاتيح اللعبة منذ الانقلاب وسيطرة حركتي التوحيد والجهاد وأنصار الدين على الشمال. 

والمتمعن في القرار 2071، يستخلص انه لا يهدف إلى إيجاد الحلول، وإنما لإدخال القوى الغربية المنطقة وزيادة التشنج. تأمل المجموعة الدولية بتطهير مالي من الإرهاب في ظرف أشهر عن طريق الاستعانة بِقُو?يْو?ة (تصغير قوة) قوامها 3000 إلى 4000جندي!!! شر البلية ما يضحك! حكومتنا تستغبي الشعب، والقوى الكبرى تستغبي الأمم المتحدة –متحدة على الشر-، وبان كي مون يستغبي بدوره العالم! إن كان تحرير منطقة ما من الإرهاب يستوجب 3000عسكري ويستغرق بضعة أشهر، فلماذا الحرب في أفغانستان ممتدة لأزيد من 10سنوات؟!

إن مساحة شمال مالي تقدر بـ650 ألف كم² وهي نفس مساحة أفغانستان، والحركات المسلحة متغلغلة بين السكان وتستقطب المزيد من الأتباع والأنصار. كما أن الحشد الكبير للحرب والاستعدادات بإقامة القواعد في جنوب مالي وتدريب الجنود والتهيؤ لعمليات قتالية شرسة في الشمال، كل هذا لا يوحي بأن الحملة ستتجاوز فترة 6اشهر، عكس ما جاء في القرار الأممي. الحرب هناك لن تكون نزهة، بل مستنقعا تغرق فيه كل الدول الإفريقية وجيوشها...

لم تعد الحكومة الجزائرية قادرة على مواكبة تسارع الأحداث، لذا نراها تتخبط وتضرب ضرب عشواء؛ تبحث عن صيغة توافقية في الوقت الضائع، وتقبل مخطط الغرب على مضض في حين تروج أنها تتمنع للحفاظ على ما تبقى لها من بقايا كرامة دبلوماسية. وفي خضم هذه الفوضى، ينسى نظامنا نقاش هذا الملف الحساس مع الداخل باعتبارنا معنيين مباشرة بكل ما يتعلق بالجيش الشعبي الوطني؛ جيشنا.

رئيس الجمهورية ليس مخولا دستوريا بالزج بجيشنا في صراع عسكري خارج حدودنا الإقليمية. ما يعني النية في تعديل (تطريز) الدستور، لتحقيق رغبة فرنسا وأمريكا بإضافة بند يسمح بتدخل الجيش في مالي، وتكون مناسبة لإضافة عهدة رئاسية رابعة! خاصة وان الرئيس يبدو خلال الأيام الأخيرة قد استعاد صحته و وعيه وتماثل للشفاء. وقد فعلها السادات قبله حين وضع المادة الثانية التي تنص أن "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع". فهلّل البرلمان والشعب، واستغل السادات تلك الحماسة الغبية لتمرير المادة المتعلقة بمدد الرئاسة...

على النظام الجزائري أن يدرك أن المراوغة ما عادت تجدي، لان الجزائر بسلبيتها وعدم جديتها في الحل ضيعت دورها الريادي في منطقة الساحل، ثم جاءت فرنسا فسحبت البساط كليا من تحت أقدامها بتحييد الاتحاد الإفريقي، وتسليم ملف مالي للايكواس حصريا، لولاء دول الغرب الإفريقي المطلق لفرنسا. وإن كان الرئيس النيجري –محمدو إيسوفو- يحن للاستعمار ويرى في شن الحرب على مالي ضرورة لحماية أوروبا من امتداد الإرهاب فذاك شأنه (1)، لكن لا حق له في دعوة الجزائر للإسهام بجيشها في مغامرة قاتلة...

الأكيد أن القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي –إن وجدت أصلا- ليست بتلك القوة ولا ذلك الخطر الذي يسوّق له الغرب ويعظمونه ليجدوا الذريعة للتغلغل في الساحل الإفريقي، لكن المؤكد أن الاضطراب في مالي يشكل تهديدا فعليا للجزائر إذا أخذنا في عين الاعتبار أن الحدود الجزائرية مع مالي تمتد إلى 1261كم.

الجزائر ستكون جسرا لمرور فرنسا إلى غرب إفريقيا والشريط الساحلي كمرحلة أولية. ثم تحريك النزعات في جنوبنا كمرحلة ثانية؛ وقد تم الإعلان عن اكتشاف خلية "حركة الصحراء من أجل العدالة الإسلامية" كانت تخطط لفصل الجنوب عن الجزائر، أفرادها جزائريون لكن التخطيط تم في صحراء مالي، حسب ما أعلنت عنه أجهزة الأمن الجزائرية...

سيكون إرهابا شريرا أن يخوض العالم حربا عشواء على "شبه" دولة بائسة تعاني المجاعة والجفاف منذ2005، ما نتج عنه وفاة ربع مليون طفل بسبب سوء التغذية. والخروج من مأزق مالي –بالنسبة للجزائر- يقتضي الانسحاب الكامل من المشاورات البيزنطية والمفاوضات غير المجدية، والإغلاق الكامل للحدود في وجه حشود الناتو واللاجئين كذلك، ولتتكفل بهم إنسانيا تلك الدول اللإنسانية التي تحض على الحرب والخراب و تنتشي برائحة الدماء والموت...

على النظام الجزائري أن يدرك أن ذنب مالي في رقبته لأنه هو من تسبب في نقل الجماعات المتطرفة هناك للتخلص المؤقت منهم، وهو الذي تقاعس عن استصال الورم الخبيث حين كان الحل في متناول يده. على النظام أن يتوقف عن البحث عن دور يلعبه في سيناريو رعب لأن البطولة المطلقة حازت عليها الولايات المتحدة وفرنسا، أما الكومبارس فهم دول إفريقيا السوداء القابلة للبيع...

على الجزائر أن تتوقف عن الاستمرار في الفشل، وتعلن فشلها والانسحاب. فذاك خير من توريط الجيش الجزائري في حرب قارية طويلة الأمد. وعلى الجزائر أن تغلق أفواه دبلوماسييها وتنتهج الآن نفس الموقف الذي اتخذته مع ليبيا أي اللامشاركة والسلبية وتأمين الحدود...

استهلك النظام سنوات ساهم خلالها في تفاقم الكارثة وتأزيم الأوضاع، والآن تجني بلادنا عواقب "تيهوديت" النظام؛ فالحفرة التي حفرها النظام لمالي منذ 2003 وقعت فيها الجزائر في 2012...

  

..................

ملاحظة:

(1) في لقاء للرئيس النيجري مع "نظيره" –بالأحرى سيده- الفرنسي في باريس يوم الثلاثاء 13نوفمبر2012، أعلن الرئيس النيجري –نقلا عن جريدة الموعد- بأن "عدم التدخل (في شمال مالي) سيكون أسوأ من تدخل (عسكري)". وتابع "على الرأي العام الفرنسي أن يفهم أن التدخل في مالي ضروري لحماية أوروبا ومنع انتشار الاضطرابات التي عمت العالم العربي إلى إفريقيا."

 

بقلم: إيناس نجلاوي- خنشلة

أستاذة بجامعة تبسة- الجزائر

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2278 الأحد 18 / 11 / 2012)


في المثقف اليوم