أقلام حرة

موقف العلماء المسلمين المذبذب بين أحداث 11 أيلول وتفجيرات العراق

عليه ذلك ولا يقبل منه. والمفروض أن يطبق المسلمون هذه القوانين كما أراد الله سبحانه لا كما يريده منهم قادتهم السياسيون، أو أربابهم الماديون النفعيون، أو من يدفع لهم أكثر، فالدين ليس تجارة ولا وسيلة لتحقيق المرابح المادية على حساب المنهجية العقائدية.

 لكن الذي حدث ويحدث اليوم في عالم الإسلام أن المشروع الإسلامي يقبع في واد مظلم سحيق، والعاملين على تقنين مباديء الإسلام وحث الناس على الالتزام بها يجلسون منعمين في سهل أخضر رحب فسيح وبعيد، ولا توجد بين الاثنين رابطة أو وسيلة اتصال. ولذلك نجد الفتاوى التي تصدر عن هؤلاء العلماء منضوية على قدر كبير من ثقافة الكره والاختلاف عن الحقائق الدينية اليقينية، مع أن الأمة كل الأمة تنظر لرجال الدين عند الأزمات نظرة الحيران وتنتظر منهم رأيا مستقى من روح الشريعة يحدد لهم مجالات تحركهم المبريء للذمة والمنجي من العقاب الأخروي والضامن للعيش بسلام واطمئنان ومحبة ووئام.

ومع أن حالة الخصام بين الدين وبعض رجاله رافقت المسيرة منذ زمن بعيد إلا أنها بسبب تفشي الأمية وجهل الناس وتفرق أماكن إقامتهم وصعوبة التواصل بينهم كانت نوعما قليلة الأهمية والتأثير، لكنها تبدو اليوم كأعلى ما تكون من مراحل التأثير الخطر بعد أن أصبحت الناس على قدر كبير من الوعي  والمعرفة والثقافة، وبعد أن أصبحت الأخبار والأقوال تنتقل بلمح البصر فيسمعها ويرى صورها من هو في المشرق لحظة وقوعها في المغرب.

وفي مثل هذه الحالة كان من المفروض برجال الدين استغلال الظروف المتاحة لإعادة الوشيجة مع العقيدة الدينية وبث ما فيها من مفاهيم وقيم ومثل تربوية وأخلاقية لتربية المجتمع الإسلامي على مباديء الإسلام وتحصينه  ضد المخاطر المحيطة به. ولكن الذي حدث كان عكس ما هو متوقع وما هو مطلوب إذ بادر رجال الدين لتفنيد كل ما تقدم والعمل بخلافه حرفيا، فأظهروا الدين وكأنه وحدات قابلة للتجزئة والبيع بالمفرد وحسب المشتري وظروفه، وأنه ممكن تطويعه لإرضاء الحكام على حساب غضب الرب، وأنه يقبل يد الأجنبي القوي الشرس الخطر بخنوع وذل لكنه يذل الضعيف من ملته ويغضب عليه ولا يحسب حسابه.والدليل على ذلك ما صدر عنهم من مواقف وتصريحات بعد أحداث 11 أيلول وما صدر ويصدر عنهم من مواقف وتصريحات بخصوص المجازر الوحشية التي تحدث في العراق منذ 2003 ولحد الآن. فهم بعد كل الذي حدث في العراق من مجازر وبعد تفجيرات الأربعاء الدامي والأحد الأكثر دموية وقفوا كالبلهاء المدهوشين أمام تيارات الدم النازف واستنبطوا أحكاما تجيز للإرهابيين أعمالهم القذرة بحق العراقيين بل ووعدوهم بالثواب الأخروي  وبالجنان وحور العين وتناول وجبات الطعام مع النبي وكبار الصحابة كلما كانت أكثر فتكا وتدميرا. وحثوا المسلمين في الجوامع وبيوت الله على ضرورة التبرع السخي للجماعات (الجهادية) التي تقاتل العراقيين ووعدوا هؤلاء أيضا بالجنان ومثوبة الرحمن. هذا دون أن يحسبوا حسابا لإخوانهم العراقيين. وقد استهتر بعضهم حينما أفتى بجواز قتل العراقيين وعدم جواز قتل أتباع الديانات الأخرى. وصار يطلق على أعمال المجرمين الإرهابيين في العراق اسم (غزوات) فيسميها غزوة الأربعاء وغزوة الأحد ويمتدحها على المنبر في خطب أيام الجمعة، ولكنه يعتبر منفذ عمليات 11 أيلول في أمريكا مجرما كافرا خارجا من الدين منحرفا عن الململة ومخالفا لشرع الإسلام.

ونحن العراقيين يدمي قلوبنا ويصيبنا بالغضب والرفض ويوجعنا موقف أغلب علماء الدين في العالم الإسلامي مما يقع في العراق، وسكوتهم المطبق عن الجرائم التي تحدث فيه، في الوقت الذي وجدناهم فيه فرسانا يصولون ويجولون ويعقدون المؤتمرات ويطلقون التصريحات النارية دفاعا عن الذين أحرقهم هتلر في (الهولوكوست) والأبرياء الذين قتلوا في تفجيرات برجي التجارة العالمية في نيويورك، ولأن أمريكا سيدا مطاعا ووليا لنعمة الكثير من رجال الدين المسلمين فقد جاءت مواقفهم وتصريحاتهم لتكفر القائمين بالتفجيرات على أراضيها وذهب غيرهم لأبعد من ذلك فأجاز التعاون الكلي مع أتباع كل الديانات حتى الوثنية منها كالديانة (الشنتونية) في سبيل إرضاء السيد الكبير ولكنهم تجلمدوا وتحجروا أمام القضية العراقية خرسا صما عميا لا يفقهون. ولكي آتي بالشواهد على ما أقول أذكر لكم بعض الحالات من مواقفهم تجاه الآخر لكي تقارنوها مع موقفهم مع العراقيين فالتاريخ لا ينسى ولا يغفل!!

•ثلاثة عشر منظمة إسلامية أمريكية أصدرت بيانا في 21 أيلول 2001 قائلة:إننا ندعم الرئيس والكونغرس في الولايات المتحدة في الحرب ضد الإرهاب .وكوننا متمسكين بقيم ديننا وبلدنا ، فنحن ندين كل أشكال الإرهاب ونؤكد على الحاجة لتقديم مرتكبي أعمال العنف تلك  للعدالة , بما في ذلك أولئك الذين نفذوا هجمات الثلاثاء الحادي عشر من أيلول 2001.

•الهيئة القضائية العليا للمسلمين في الولايات المتحدة  المتمثلة بالمجمع الفقهي في أمريكا الشمالية أصدرت بيانا في عام 2005 جاء فيه : يود المجمع الفقهي في أمريكا الشمالية أن يعرب عن إدانته الكاملة للإرهاب والتطرف الديني...أن استهداف حياة وممتلكات المدنيين من خلال التفجيرات الانتحارية أو أية وسيلة هجومية أخرى هو حرام وممنوع  وأن أولئك الذين يرتكبون هذه الأفعال البربرية مجرمون وليسوا "شهداء".

•مجمع الفقه  في أمريكا الشمالية أصدر فتوى أعلن فيها أنه : وباسم عيد الشكر لهذا الموسم يعلن مجمع الفقه في أمريكا الشمالية عن إدانته الواضحة والصريحة للدمار والعنف ضد الرجال والنساء الأبرياء .... أن كل أعمال الإرهاب محرمة في الإسلام وأنه محرم على المسلم التعاون أو الارتباط مع أي فرد أو جماعة متورطة في أي عمل من أعمال الإرهاب أو العنف . ومن واجب المسلمين أخبار السلطات المختصة عن أي تهديد يراد منه إلحاق الأذى بالناس وجلب المتورطين (في تلك الأعمال) إلى محكمة قانونية مختصة وبما يتلاءم مع روح القانون.

•مجلس المسلمين في بريطانيا عقد اجتماعا في عام 2007  ضم أكثر من مائتين من القادة المسلمين وأصدر بيانا جاء فيه: نحن هنا نؤكد ونعلن بشدة ما يلي : نحن نعتبر كل أعمال الإرهاب التي تهدف إلى قتل وإيذاء الناس مقيتة وتستحق الشجب وليس هناك أي أساس  من أي نوع لتلك الأعمال في ديننا. إن الإسلام كونه دين السلام يرفض الإرهاب ويعمل على إشاعة السلام والانسجام، وإننا نحث وندعو المنظمات والمؤسسات الإسلامية للقيام بواجبها الإسلامي  لرفض وتصحيح القراءات الخاطئة وغير الصحيحة لعقيدتنا.

•مفتي العربية السعودية الشيخ عبد العزيز الشيخ أصدر في الخامس عشر من أيلول2001  فتوى قال فيها:إن خطف الطائرات وإرهاب الناس الأبرياء و إراقة الدماء يشكل نوعا من الظلم الذي لا يتسامح  به الإسلام  الذي يرى في تلك الأعمال  جرائم  كبيرة و أعمال  أثيمة.

•الشيخ يوسف القرضاوي، أصدر هو وعلماء مسلمون بارزون في   27 أيلول 2001 فتوى أعربوا فيها عن  إدانتهم  للإرهاب. بل أن  القرضاوي حث المسلمين على التبرع بالدم لضحايا الهجمات.

•الشيخ محمد سيد طنطاوي  شيخ  الأزهر أصدر بيانا فيه إدانة مشابهة لإدانة القرضاوي

• شيخ محكمة العدل الكبرى في الأردن عز الدين الكاتب التميمي بعث رسالة في عام   2007  يحث  بها  المسلمين في كل أنحاء العالم على رفض التطرف الديني وأن يحكّموا رسالة الإسلام في  التسامح .وقال فيها: إن البعض  ممن يزعمون الانتماء للإسلام قد ارتكبوا باسمه أعمالا  بشعة وإجرامية ... وفي الدين الإسلامي الغاية لا تبرر الوسيلة. 

•الزعيم الليبي معمر ألقذافي أدان الهجمات المروعة  وعبر عن حزنه وتعاطفه العميقين مع الشعب الأمريكي

•الرئيس المصري حسني مبارك أدان هجمات أيلول والإرهاب  بشكل عام.

•الملك عبد الله الثاني  ملك الأردن أعلن في رسالة عمان عام 2004، ما نصه: " على أسس  دينية وأخلاقية نعلن إدانتنا للمفهوم المعاصر للإرهاب الذي يرتبط بممارسات خاطئة مهما كان مصدرها و شكلها. تلك الممارسات التي تمثلت بالاعتداء على حياة الناس وبشكل عدواني يتجاوز كل حدود الله ويروّع الناس الآمنين والمدنيين المسالمين ويُجهز على حياة الجرحى ويقتل الأسرى ، إنهم يتبنون وسائل غير أخلاقية كتدمير البنايات ونهب المدن. ثم استشهد بآية قرآنية تقول: ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) وهي نفس الآية التي يجيز بموجبها بعض علماء المسلمين قتل العراقيين!!

•الدول السبعة والخمسين الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي (OTC ) وهي منظمة تنتمي لها أغلب البلدان الإسلامية، أعلنت في 12 أيلول 2001: إننا ندين هذه الأعمال الهمجية والإجرامية  التي هي محرمة في جميع القيم والأعراف الإنسانية التي جاء بها الإسلام والأديان التوحيدية

•منظمة المؤتمر الإسلامي أصدرت بيانا حول إدانة الإرهاب الدولي مبينةً ما يلي إننا نؤمن بأن الإرهاب يشكل خرقا كبيرا للحقوق الإنسانية خصوصاً الحق في الحرية والأمان، كما يشكل كذلك عائقا أمام العمل الحر للمؤسسات والتنمية الاجتماعية والاقتصادية حيث أنه يهدف إلى زعزعة استقرار الدول. إننا مقتنعون كذلك أن الإرهاب لا يمكن تبريره بأي حال من الأحوال ويجب إدانته بشكل واضح بجميع أشكاله ومظاهره وأنشطته ووسائله وممارساته مهما كان أصلها وأسبابها وأهدافه.  

•كبار رجال الدين في دار العلوم التي تمثل الحركة ألسنية الأكثر تأثيرا في الهند أصدروا فتوى أعلنوا فيها: أن الإسلام يرفض كل أنواع العنف الظالم والخروج على السلام وأراقه الدماء والقتل والنهب ولا يسمح بذلك بأي حال من الأحوال. 

وذهب بعض علماء الدين المسلمين لأبعد من ذلك فطلبوا الغفران من الآخر لما أوقعه غير المسلمين به من ظلم وتعسف يشك في صدق وقوعه. ففي ذكرى المحرقة (Holocaust (عام 2008  أصدر المجلس الإسلامي الأعلى في ايرلندا بيانا جاء فيه :يعد هذا اليوم مناسبة للذكرى والتأمل في المأساة المفجعة التي حلت بالشعب اليهودي خلال الحرب العالمية الثانية وإنه لفعل مخزي في تاريخ النوع الإنساني وهو دليل على فشل المجتمع في حماية إحدى شرائحه التي كانت عرضة للإبادة

وفي شباط 2008 أصدر عدد من العلماء المسلمين البارزين من بينهم  طارق رمضان ومصطفى سيرك مفتي البوسنة رسالة مفتوحة للمجتمع اليهودي جاء فيها : بصفتنا مسلمين ويهود نحن نشترك بمعتقدات دينية أساسية ومن أهمها التمسك بعقيدة التوحيد.

وفي عام 2008 قامت الجمعية الإسلامية في أمريكا الشمالية وبالتعاون مع اتحاد الإصلاح اليهودي  Union for Reform Judaism بإصدار دليل للحوار بين  اليهود والمسلمين كي يستخدم في المساجد والكنيس  (دور العبادة اليهودية ).

وفي تشرين الثاني  2007 نظمت مؤسسة  التفاهم الإثني في نيويورك أول قمة وطنيه للائمة المسلمين والأحبار اليهود عقدت في مجمع المعابد اليهودية وفي المركز الثقافي لإسلامي.

كما ذهب بعض علماء الدين المسلمين لأبعد من ذلك  باستجداء عطف الآخر ودعوته للتفاوض بشأن الاختلافات العقائدية لإيجاد قاعدة للعيش المشترك والتواصل.

ففي شباط 2008 عقدت المبادرة الوطنية للمسيحيين والمسلمين في أمريكا اجتماعها الأول وكانت الجمعية الإسلامية في أمريكا الشمالية إحدى المؤسسات المساهمة في رعاية المبادرة ، وقال السيد سعيد من أعضاء الجمعية: إن هذه المبادرة هي جزء من جهود المسلمين المستمرة للتواصل مع الجمعيات الدينية الأخرى في أمريكا الشمالية والتوصل إلى تفاهم حول الأهداف المشتركة و المصالحة في مجتمعاتنا. 

وكانت أهم المبادرات في هذا الشأن إصدار ملك الأردن لما يعرف بــ " الكلمة السواء بيننا وبينكم" في تشرين الثاني2007  موجهة للمسيحيين في  أنحاء العالم وقع عليها 138 عالما ورجل دين ومفكر من المسلمين. جاء في مقدمتها:  أن هذه المبادرة هي الأولى من نوعها منذ أيام النبي  بخصوص الإعلان عن الأسس المشتركة بين المسيحية والإسلام. وأن الموقعين على هذا البيان يمثلون كل طائفة ومدرسة فكرية في الإسلام  وكل بلد إسلامي رئيسي.

ومع إيماننا المطلق بحق الحياة للجميع وبضرورة التعايش بين البشر مهما اختلفت دياناتهم وعقائدهم وأعراقهم نقول بحسرة وغضب ومرارة شديدة:إن من يجلس مع أتباع الديانات الأخرى لتصفية الأجواء ويجلس للتحاور حتى مع أتباع الديانات غير السماوية لإجراء حوار ديني يساهم في بث ثقافة التعايش بين البشر. ومن يدين الإرهاب المجرم الذي يضرب أمريكا ودولا أخرى في العالم من الأجدى والأجدر به أن يبحث عن حل المشاكل العالقة بين المسلمين أنفسهم قبل أن يذهب للآخر. وأن يبدأ بإصلاح بيته قبل أن يذهب لإصلاح بيت الجيران، وإصلاح بيت الجيران قبل الذهاب لبيت الغريب البعيد.

وإذا كان هنالك من يدعي أن تفجيرات العراق الدموية سياسية أكثر من كونها دينية وبذلك تكون من اختصاص السياسيين وليس الدينيين أقول: نعم. أغلب الأعمال الإرهابية في العراق سياسية ولكنها تنفذ حصرا بيد الإرهابيين الدينيين المتطرفين التكفيريين الذين يبحثون عن الخلود في الجنان، والذين خدعتهم فتاوى التكفير الكثيرة التي أصدرها  نفس علماء الدين الباحثين عن التطبيع مع الآخر وأجازوا لهم فيها القيام بهذه الأعمال الخسيسة الدنيئة.

 وحتى لو فرضنا جدلا أن هذه الأعمال سياسية بحتة فمن واجب رحل الدين الباحث عن التطبيع والذي يتحمل مسئولية شرعية عما يجري في مجتمعه من مخالفات أن يبادر وبسرعة لإدانة هذه الأعمال وتبيان بطلانها وحث المسلمين على اجتناب القيام بمثلها ــ على الأقل ــ لكي تتضح الصورة للمسلمين ويبعد الإسلام عن نفسه تهمة تبنيه للإرهاب الدولي.

لذا نأمل من كل رجل دين في كل البلدان الإسلامية وفي دول العالم الأخرى أن يبادر فورا دونما إبطاء أو تأخير لأداء مسئوليته الشرعية بحفظ دماء المسلمين وردء الصدع بينهم والعمل على تقاربهم وتعايشهم وبث ثقافة قبول الآخر ونبذ ثقافة الإبعاد والصد والتكفير. وهم إذا لم يؤدوا واجباتهم الدينية ومسئوليتهم الشرعية سيتحملون وزر كل الجرائم التي وقعت وتقع مستقبلا، ووزر انكفاء الكثير من المسلمين عن الإسلام وارتدادهم وبحثهم عن السلام في أديان أخرى. وأقول لهم موقنا أن (ولا تزر وازرة وزر أخرى) لا تنطبق على موقفهم الحالي فكل الوزر يقع عليهم وبانتظارهم عذاب الله العادل يوم الدين.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1210 الثلاثاء 27/10/2009)

 

 

في المثقف اليوم