أقلام حرة

صحراوي في باريس / المصطفى عبد الدائم

بيني وبين التحدث بشكل طبيعي إلى مستقبلتي التي ربما رأفة بي أخذتني بسرعة في سيارتها نحو مدينة فيتري التي لاتبعد إلا بحوالي 20 دقيقة عن مطار اورلي شرق باريس .

باريس مدينة الأنوار التي تحتضن بكثير من القسوة جنسيات مختلفة أفارقة وآسيويين وعرب ومغاربيين ترفع بعضهم لمراتب عالية ورفيعة، وترمي  ببعضهم  الأخر على الرصيف أو في براثين الجريمة والمخدرات والدعارة ...

باريس التي أراها الآن هي غير تلك التي قرأت عنها أو التي رأيت في الأفلام .. باريس يوم الخميس 15نونبر 2012 مساء مدينة مظلمة وكئيبة يجتاحها برد قارس ويلفها ضباب كثيف ..  من نوافذ متحف اللوفر الكبيرة بدت التماثيل وسط الظلام  مخيفة كالأشباح، وبدا الهرم الزجاجي كجبل من الثلج وسط أرض قاحلة . وكلما اخترقنا العتمة متسلحين بهذا الشعور الطاغي والصارخ في أعماقنا (هو حلم تحقق) .. نعم زيارة باريس كانت دوما حلما دغدغ مشاعري منذ كنت طفلا يهرع فرحا إلى سنيما (كوليزي) لمشاهدة أفلام (فيرناندير وبورفيل وجون كبان وغيرهم) .. في هذه الأفلام تعرفت على باريس ن وتسرب إلى أعماقي عشق باريس، هذا العشق الذي سقت جذوره رواية سهيل إدريس (الحي اللاتيني) ...  لكن باريس هذا المساء غارقة في صمت مخيف ينساب عبر شارع الاليزيه الذي قال عنه شيراك او ميتران (أنه أجمل شارع في العالم) .. هذا الشارع يتربع فيه قوس النصر كطلل دارس أنظر إليه تعتمل في الرأس ذكريات بعيدة .. أسأل نفسي عن سر تجمد مشاعري فجأة ؟ في أحيان كثيرة يكون الركون للا جواب ارحم من الجواب .

برج إيفل وحده كان مضيئا .. عنقه الممتد وسط الضباب الكثيف يبث فيك إحساسا بالعظمة لكنه لا يلبث أن يضمحل تدريجيا كلما سرنا بمحاذاة نهر (السين) الذي يطل عليه فيما يشبه الانحناء بيت قصي سكنه ذات زمن بعيد (فولتير)، ورغم الظلال المظلمة التي تكاد تحجب عنا معالمه يبرز مسرح (موليير) أو المسرح الذي على ركحه شخصت مسرحياته .. ماذا حل بباريس هذا المساء؟ ربما هي دواخلي التي كنستها جراح الوطن المحتل .

 

وربما أيضا لأني تحت وقع المطارق التي تنزل على الرأس أسئلة ثقيلة كيف لهذه الدولة الكبيرة فرنسا والتي تستمر في تنمية استثماراتها بالمغرب وهي تعلم وتعرف استمرار النظام المغربي في انتهاك حقوق الإنسان بالصحراء الغربية ، وإذا لم يكن بإمكاننا كصحراويين وكل العالم اعتبار فرنسا بلد ميلاد حقوق الإنسان مذنبة في حق الشعب الصحراوي فإنها مسؤولة مسؤولية كاملة عن تعطيل بلوغ الحل النهائي واستمرار معاناة الشعب الصحراوي واحتلاله من طرف المغرب .. لعلي تحت هذا الضغط لم يعد الحلم حلما، ولم تعد باريس عاصمة الأحلام مرتعا لتفريغ انبهاري أو لاصدار أهات الإعجاب الدفينة منذ عهود .. لكنها أضحت مدينة خرساء عن الحق وجب فك عقدة لسانها .. مررنا أمام مقر الجمعية الوطنية والقصر الكبير والصغير وذاك الذي يرقد فيه عظماء الثورة الفرنسية ولاحظت كم كان (نابليون) حريصا على تجسيد النموذج الروماني في فخامته .. وكان للمكتبة الوطنية المصممة على شكل أربعة كتب مفتوحة  وهذا الانزواء الممتع لجامعة السور بون  وحدائق للوكسمبورغ في مواجهة (البرصي) مقر وزارة المالية بتصميمها الهندسي الذي يوحي بالعجرفة والتعالي تضاد وتناقض مريع يكشف إلى أي حد طغت المادة وأصبحت المعالم الحضارية تكاد تكون واجهة سياحية باردة وجافة وألقت بأوزارها على عموم سكان باريس بالأخص .. في العالم السفلي لباريس أنفاق يتسرب عبرها (المترو) كثعبان يلتهم الظلام ويختفي من هنا ليظهر من هناك .. في هذا (المترو) العجيب تختلط الأجناس والألوان وتموت الفرحة ويعدم الكلام ويحضر سباق محموم ضد الساعة .. لا أحد ينتبه لأحد .. ولا أحد يكلم أحد أو يبتسم في وجه أحد .. الكل يصارع عدوا خارقا اسمه الوقت .. في هذا العالم السفلي تتمدد أجسام نحيلة تعيش بلا مأوى .. وأخرى تمد أيديها طلبا للقمة ترد الرمق ...

نخرج من هذا الغار البشع ونسعى لمواعيدنا المتفرقة بين مدينة باريس وضواحيها .. تنفخ الشوارع في وجهنا بردها وأحيانا تغمرنا أمطارها .. تسري في الجسد المتعود على الحر برودة تلسع كسم العقارب ..تتخدر أطرافنا ورغم ذلك نجد دوما الحافز الوطني للذهاب نحو مقرات لجمعيات وأحزاب سياسية ومنابر إعلامية نحكي قصصا عن أحداث مروعة عاشها ويعيشها الشعب الصحراوي، بعض مخاطبينا يسمعها لأول مرة يتأثر غالبا ويبكي أحيانا . والبعض الآخر لم يسمعها فقط بل عاش بعض تفاصيلها في مخيم

اكديم ازيك .. اسمها لويز كانت هناك بمخيم اكديم ازيك تروي تفاصيله بلوعة وألم وتصرخ في وجه الفرنسيين أبناء جلدتها (ليس من رأى كمن سمع) ... بين نانطير  وكرتيا ي  وارجنتاي  ومونت لا جولي و لموراي  واوتوي  وايفري  وغيرها مما لم تحفظه الذاكرة أنفقنا وقتا ليس بالهين استعنا خلاله بكل ما نمتلك من قدرة على الإقناع ومنحنا الذات فرصة التعبير عن المعاناة ولكن أيضا رؤيتها للمستقبل الذي لا يمكن تصوره بغير تجسيد حقنا الثابت والمشروع في الحرية والاستقلال .

 

المصطفى عبدالدائم

اسا في 03/12/2012

  

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2294 الثلاثاء 04 / 12 / 2012)

في المثقف اليوم