أقلام حرة

صحراوي في باريس (2) / مصطفى عبد الدائم

ترجلنا بسرعة في محطة بلاس دي طالي، وركضنا نحو المخرج المؤدي الى الجهة المعاكسة لنستقل المتروالمتوجه الى ناسيونال .. في الممر صادفنا عازفا من اوربا الشرقية .. كان يعزف مقطوعة حزينة تعكس بصدق معاناته .. كان يضخ كل أنفاسه في نايه مغمضا عينيه ربما خجلا، وربما ليحبس دموعه. وغير بعيد منه جلس آخر صامتا حاملا بين يديه المرتعشتين ورقة مكتوب عليها (أنا جائع)، خمنت انه أيضا من دول اوربا الشرقية، ربما كان رومانيا ... توقفنا عند دكان لبيع الجرائد كان هنديا وغير بعيد منه صادفنا باكستانيا يبيع الفواكه .. هكذا هي باريس حبلى بكل الاجناس .. بايفري احدى ضواحي باريس يثير انتباهك الوجود الكبير  للجالية الصينية، وبفيتري الضاحية الباريسية تغلب الجالية القادمة من افريقيا السوداء .. الصحراويون يتواجدون بكثرة بمونت لا جولي ... لا يمكنك أن تبقي شعورك محايدا اتجاه هذه الأعداد من البشر بدون مأوى الذين يفترشون في برد باريس القارس الأرصفة في هذه المغارات الكبيرة التي تمتد تحت عاصمة الأنوار ... بلغنا محطة النهاية نظرنا الى عقارب الساعة .. لدينا فقط بضع دقائق لبلوغ مقر بلدية اكريتيي المنظم بها معرض لأروقة شعوب افريقية وعربية من بينها رواق لأصدقاء الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية .. ياللهول هناك أكثر من مخرج .. المخرج الممتد أمامنا يخترق سوقا ممتازا كبيرا على يميننا ويسارنا تنتشر دكاكين تبيع كل شيء الألبسة والأمتعة والأمساك الرفيعة والألعاب والأجهزة الالكترونية ووو .. رباه أين قصر البلدية .. سلكت الشارع الى اليمين وكان علي أن أعبر مباشرة الى الجهة المقابلة .. الطريق الذي سلكت أخذني الى بحيرة رائعة تسبح فوق مياهها الهادئة بضع بطات ناصع بياضها .. لقد أخطأت الطريق الى موعدي، أركض لاهثا ربحا للوقت الذي بدأ ينفذ مني .. هاهو مسن يجلس في لحظة تأمل وتذكر ربما لماض بعيد ..لعله في هذا المكان الرومانسي كان يواعد من أصبحت فيما بعد زوجته أو على العكس هجرته بعد قصة حب عنيفة .. اقتربت منه خجلا وسألته عن اي الطرق تؤدي الى قصر بلدية كريتيي . ابتسم في وجهي وقال بصوت جهوري انها في الاتجاه المعاكس تماما ... ركضت كالأحمق وبعد أن فقدت الكثير من السعرات الحرارية بلغت غايتي ... في قاعة فسيحة بالطابق العلوي اصطفت عديد الأروقة وضج المكان بموسيقى افريقية .. صرخت طبولها بويلات الحروب التي عانت منها .. ورقصت الأجساد معبرة عن التوق للحرية والانعتاق .. فلسطين كانت حاضرة مباشرة في الرواق المقابل لرواق الصحراء الغربية .. في هذا التقابل العفوي تشابه الواقع .. واقع شعبين عربيين يرزحان تحت الاحتلال ولكل منهما قصة مع جدار كانه سكين يقطع أوصال هذين الشعبين .. أوجه التشابه عديدة والفرق واحد ومؤلم فالشعب الصحراوي يحتله مستعمر عربي يطبق فيه كل الأفكار الصهيونية التي جربتها اسرائيل في الشعب الفلسطيني ... قلت لمخاطبتي من الحزب الاشتراكي الفرنسي هنيئا للمغرب بهذا الأنجاز الذي لابد وأن يذكركم أنتم بمعاناتكم مع النازية ... قالت بشكل استفزني كثيرا ( هي المصالح وعليكم أن تتعاملوا مع فرنسا وفق هذا المنطق ) أجبتها ( وأين القيم .. قيم الحرية والعدالة والديمقراطية .. ثم لنفترض ياسيدتي أننا شعب لا يملك شيئا وأرضه ليس بها أية خيرات طبيعية فهل هذا لا يعطيني الحق في الاستقلال والحرية ..عفوك سيدتي لست مستعدا للرضوخ لهذا المنطق فأقول مثلا لفرنسا اعترفي بحقنا في الاستقلال ومقابل ذلك سنسمح لك باسغلال فوسفاطنا ومعادننا .. اسف سيدتي الاستقلال من حقنا كسائر شعوب العالم دون مساومة) . بعد أكثر من ثلاث ساعات احتسينا فيها الشاي الصحراوي المعتق والاصيل والذي اقبل عليه ضيوفنا بلهف أثارت فيهم العديد من الأسئلة حول واقع انتهاكات حقوق الانسان بالصحراء الغربية وحول المعتقلين السياسيين الصحراويين ومن بينهم 24 المعتقلين على خلفية الهجوم العسكري على مخيم اكديم ازيك والمهددين بالمحاكمة العسكرية رغم كونهم مدنيين . في اليوم الموالي قصدنا نانتير استجابة لدعوة ولول مرة من جمعية الدفاع عن حقوق الانسان بالمغرب والتي تنشط بفرنسا .. بقاعة اكتظت عن آخرها وبقي عدد كبير واقفا استهل اللقاء رئيس الجمعية الذي طلب من الحضور الاستماع لشهادتين عما يعانيه المعتقلون السياسيون صحراويون ومغاربة بالسجون المغربية الرهيبة .. الشهادة الاولى قدمتها شخصيا مبرزا خلالها كيف أجبرت على البقاء في زنزانة انفرادية  لمدة خمسة أيام مكبل اليدين وراء ظهري دون فراش ودون ان أستطيع فك أزرار سروالي لقضاء حاجتي . وبسبب ذلك كانوا يسكبون علي الماء والجافيل مدعين أن رائحتي لا تطاق .. وبعد 36 يوما أخرجوني مكبل اليدين معصوب العينين خارج الزنزانة .. كنت احس لأول مرة بحرارة الشمس تسري في جسدي وكنت أيضا أحس أن شيئا آخر مثبت على صدري وظهري دون أن أعرف ماذا ... وقد أخبرني فيما بعد احد المعتقلين الاسلاميين ويدعى (سعيد) وقد تم ترحيله من سجن طنجة أنهم وضعوا على صدري وظهري ورقة مكتوب فيها (هذا ما يستحقه مسخوط الملك) .. قلت للحضور والذين كانت غالبيتهم مغاربة فهموا أن قمع الصحراويين ورفض حقهم في الحرية والاستقلال لن يجلب لهم الرفاهية والرخاء بل على العكس استمرار النظام في احتلال الصحراء الغربية مبرر لاستغلال الشعب المغربي ونهب خيراته .. قلت لهم ان جلادوا النظام الملكي المخزني كان هدفهم انتزاع انسانيتنا .. بعد شهادتي قدم زكريا المومني الملاكم الذي قضى بالسجون المغربية 15 شهرا صورة قاتمة عن سجون مغربية يبيع فيها الجلادون صغار السجناء لمجرمين عتاة لاغتصابهم، وتروج فيها المخدرات وتنتشر الامراض ... في تلك الليلة رأيت عيون دامعة، ورأيت جدران الوهم التي بناها النظام المغربي بين الشعبين المغربي والصحراوي تنهار تحت وطأة عناق حار وتضامن من أجل فضح هذا النظام الغاشم ...

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2295 الاربعاء 05 / 12 / 2012)


في المثقف اليوم