أقلام حرة

يستر الله .. المسألة معكوسة! / قاسم حسين صالح

.. فشقتي تقابل مبنى وزارة العدل وتجاور مبنى وزارة البلديات والى يميني مؤسسة الأذاعة والتلفزيون ووزارة الاعلام وخلفي المتحف العراقي والى يساري ديوان الرقابة المالية ومصرف ومركز صدام للفنون.

وبوصفي شاهد عيان فان عمليات النهب والسلب بدأت بأفراد قليلين في الثامن"وليس التاسع"من نيسان 2003، ثم تزايد العدد تدريجيا حتى اصبحت جموعا .والتحليل السيكولوجي تفسّره (فتوى الشارع) وهو مصطلح طرحناه في حينه يقوم على معيار "الحلال والحرام" الذي يكون محكوما بـ (قانون) في الظروف العادية،فيما يكون محكوما بالضمير الأخلاقي للفرد في الظروف التي ينعدم فيها القانون.فالشخص الملتزم دينيا لا يرتكب الحرام "السرقة مثلا" حتى في حالة انعدام القانون ،بمعنى انه لا يمتنع عن فعل السرقة خوفا من عقوبة يرتبّها عليه القانون ،بل لأن ضميره الأخلاقي يمنعه عن فعل الحرام.

ولأن الناس يتوزعون على نقاط في بعد معيار(الحلال والحرام) بين طرفين:قوي متصلّب لم يقترب اصحابه من الحرام، وضعيف هش بدأ اصحابه عمليات النهب،فان المترددين كانوا في وضع محرج مع انفسهم: ينهبون ام لا ينهبون؟!.وبما ان المنهوبات كانت مغرية، اكياس من الدنانير،شاهدتها بعيني يسحبونها من مصرف شارع حيفا،ودفاتر من الدولارات تنقل الفرد من الحضيض الى القمة..فان المترددين وجدوا لها تخريجا فيما اصطلحنا على تسميته (فتوى الشارع) بأن قلّبها الواحد منهم في رأسه على النحو الآتي:ما دام الناس كلهم يقومون بهذا العمل،فهذا يعني انه ليس حراما..فتكاثروا تدريجيا بالعدوى النفسية لفتوى الشارع التي من خصائصها انها تنتشر بشكل سريع في السلوك الجمعي ،وتكون محمّلة بتبريرات صريحة او ضمنية تبدو لمن يصاب بها مقنعة تماما.فحين سألت احدهم:لماذا تأخذ هذه الأشياء؟"وكانت كراسي جاء بها من جهة الأذاعة والتلفزيون" أجابني بأنها (حصته من النفط)..بمعنى ان ما يأخذه ليس الا تعويضا عن حق كان مغتصبا..ولسنين!

والمفارقة ان ما يحصل الآن من فساد مشابه، في فعله السيكولوجي لما حدث من عمليات النهب في شهر السقوط..مع اختلافين:ان ما يسرق الآن من ثروات البلد هي اضعاف ما نهب منه زمن السقوط "سبعة مليارت دولار سرقت من وزارة الكهرباء بحسب رئيس لجنة النزاهة البرلمانية" وان الذين نهبوا كانوا لصوصا وفقراء،فيما بين الفسدة الآن مسؤولون بالدولة..وكلا الحالتين تقومان على فتوى نفسية محملة بتبريرات تبيح اخذ الملكية العامة وتضعف الشعور او تلغيه بان هذا الفعل حرام.. مع أن نسبة الذين نهبوا والذين سرقوا،قلةّ قياسا بالمجتمع..لكن من خاصية فتوى الشارع انها تميل الى التعميم والتضخيم..وخطرها،أن السكوت عنها يجعلها تنتشر كما لو كانت وباءا.

وتحضرنا هنا حكاية لطيفة تنطبق على أحلام العراقيين كيف سيعيشون برفاهية بعد سقوط النظام، وبين الحال الذي صاروا عليه..خلاصتها ان الشاعر النجفي الشعبي عبد الحسين ابو شبع كان يعمل حارس نقطة كهربائية.وحدث ان دخلت جاموسة داخل النقطة،واحتار بامرها..فأن آذاها فان عشيرة "البوعامر"سيأخذون فصلها "امرأة"..فحاول ان يخرجها بهدوء لكنها عبثت بالنقطة وقطّعت اسلاكها.وجاءت اللجنة التحقيقية فحملّت الشاعر أبو شبع كل الخسائر فقال ساخرا:

(ياجماعة هالسنة فد هوسه

هم نقيصة وهم نطح جاموسه!

كنّا نترجه الزيادة والمنح

تالي راتبنه على الأول رجح

يستر الله..المسألة معكوسه!).

وتأكدوا..ان حالنا ما صار عكس احلامنا الا لأن فتوى الشارع كانت قد عطلّت الضمير الأخلاقي عند الذين نهبوا مؤسسات الدولة زمن السقوط، وعند الذين سرقوا ثروات الوطن في الزمن الديمقراطي!..ولو أننا كنّا حاسبنا "الجاموسة" من البداية..لما صارت المسألة..معكوسة!.

 

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2299 الأحد 09 / 12 / 2012)

في المثقف اليوم