أقلام حرة

الكلاب لا تغتصب بعضها مثل ما يفعل الإنسان / حميد طولست

حسب وكالة "فرانس بريس" للتنديد بكل أشكال العنف الممارس على النساء، هي المرة الأولى أو الثانية التي يتجند فيها مثل هذا الجمع الغفير من الناشطات الحقوقيات الممثلة لاثنين وعشرين جمعية منضوية تحت لواء تجمع "ربيع الكرامة" للاحتجاج وإدانة العنف الجسدي والشفوي والمعنوي، والتحرش بالنساء، الذي تتعرض له في المغرب نحو ستة ملايين امرأة، وفق احصاءات نشرتها الحكومة اخيرا، والتي لا ينسجم قانونها مع الاتفاقات الدولية التي صادق عليها المغرب, وخصوصا تلك المتعلقة بحقوق النساء، التي تطالب المتظاهرات بـ"اعادة النظر في القوانين المتصلة بالعنف الذي يمارس ضد النساء لتشمل قضية التحرش الجنسي" الذي قالت عنه إحداهن، أنه "ظاهرة مقيتة لا يقوم بها إلا الكلاب"..

وقد دفع بي خطأ هذه القولة، وانعدام صوابها، إلى كتابة هذه المقالة لتصحيح الخطأ الذي يؤمن به ، مع الأسف، الكثير من الذين لا يعرفون عن الحيوان، إلا كونه رمزا للمكر والخديعة والمراوغة، وأنه كائن حقير، قدر، أجلف، صلف، خشن الطباع، سريع الهيجان والثوران، لا حدود لهمجيته وخبثه وانعدام غيرته ودياثته، وانه إن جاع افترس، وإذا وجد الطعام، لم يدع أخضرا منه ، إلا أكله ولا مزروعا إلا أتلفه.. في الوقت الذي يغضون الطرف عن بعض صفات الحيوان الحسنة، وسلوكات الكثير من منها، كتلك التي يتصف بها  الكلب على سبيل المثال لا الحصر، من وفائه لصاحبه وحبه لعشرته، ما تجعل مصاحبته أفضل من بعض بني البشر، في كثير من الحيان..كما تبين ذلك الكثير من الدراسات التي قامت بها معاهد البحوث والتجارب العالمية، والتي وقفت على بعضها أنا بنفسي، من مراقبتي لسلوكيات عدد من الحيوانات، مند مراحل متقدمة من عمري، والتي أحببت فيها انواعا منها، حيث كان لي "سجنة حمام" أي قفص، بناه لي والدي، رحمة الله عليه، فوق سطح بيتنا، أتباهى به وبما يضمه من غريب أنواع الحمام، المحلي منه والمجلوب، على أقراني والمولعين مثلي بتربية الحمام والطيور، إلى جانب الأسماك والأرانب والكثير من القطط التي كنت وقلة قليلة من أبناء حينا الشعبي "فاس الجديد" نتفرد بتربيتها كهواية، نتفاخر بأنواعها: الأنجورا الفارسية، أو التركية turkish Angora ، والسيامي، والبالينيزي، والبورمي الحبشية، وحتى عابرات السبيل منها "أي ديال الزنقة" بدارجتنا المغربية، ما كان ينقصني إلا الكلاب وحدها، والتي لم يكن مسموحا بتربيتها في البيوت، بدعوى حرمتها في الدين، والتي ما كان الكبار - في مجتمع يدين بالإسلام دين الرحمة والإنسانية، والرفق بالحيوان  - يكفون عن ايذائها، على أنها رجس ونجاسة، حتى يتناوشها عليها الصغار بالعصي والحجارة.

وقد كانت لي في تربية الكلاب تجربة فريدة، انتهكت خلالها – رغم حداثة سني- كل تفاهات العرف، وغبار التقاليد، وغرابة المعتقدات، والتفكير الخاطئ الذي يتشبت به هذا المجتمع الذي أعيش بين أناسه، الذين أدمنت أذهانهم على الخرافة، والتصقت بها شر التصاق، والذين سرعان ما اتهموني -من دون عناء تفكير في الأمر، على ضوء ما توارثوه جيلاً عن جيل، والذي يخشون، بل ويرتجفون من تصويب مساره وتحسين صورته وإخراج خبائثه من جسم المجتمع - ليس فقط بالخروج عن العادات والتقاليد، بل شككوا حتى في قوام تديني، وصلاح إيماني، لمجرد أنني اعتنيت بجرو ضال وآويته فوق سطوح بيتنا، حيث أنه ذات يوم، وأنا في سوق الحي أقضي بعض ما كلفت به من حاجيات، فإذا بشيء يتمسّح بطرف معطفي وكأنه عباءة مباركة في ضريح أو مزار مقدس، نظرت، فإذا به كلب، عيناه منكسرتان تلوذان فراراً من تكشيرة الإنسان وعضّات غدره الذي ترك ندوبا كثيرة على ذيله وفروته المتسخة التي كانت تفوح منها روائح بترول ولحم مقدّد، تسرب نباحُه الصامت إلى أذني، كنحيب ناي أغنية حزينة تحكي قصص الجوع والألم، أو قصيدة تتوسل مستمعيها الرثاء.. مكنته من قطعة خبز، وأتبعتها بثانية وثالثة، ثم أخرى رابعة، ابتلعها كلها بدون مضغ، فسكن جوعه، وامتلأت حدقات عينيه بالرضا، وسار ورائي يتبعني كظلي، حتى بلغت الدار، حيث بسط أذرعه ببابها محركا ذيله المعطوب يمنة ويسرة تعبيرا عن الفرح والامتنان، لقد كان كلبا ودودا عاش برفقتي شهورا لا أذكر عددها، قبل أن تمتد إليه أيادي الغدر باسم الدين الذي يتهمون به الكلاب بأنها مناعة الملائكة من دخول المنزل التي هي فيه.

انشغلت  بمتاعب الحياة والأولاد عن أمور الكلاب ، وبقي حبها كامنا بدواخلي، إلى أن أتاحت لي الصدفة، منذ سنوات قليلة- وبالضبط بعد تقاعدي عن العمل من سلك التدريس-  فرصة تملك جروة حديثة الولادة، والتي جعلني الحب الدفين لكل ذي كبد رطبة، انقض عليها، وأعض عليها بالنواجد، وأتبنى رعايتها، وخاصة أنها كان جروة لطيفة ومحببة، سرعان ما أخذت مكانها في قلبي وزوجي وأولادي، وأصبحنا لا نبخل عليها بساعات عدة من اليوم، نرعاها خلاله، ونراقب أسلوب حياتها، مراقبة علمية، ونرصد تصرفاتها، رصدا منهجيا، وقد دفع بنا التعلق المميز، والاهتمام المتفرد بها وبأحوالها، لتجمع كل تفاصيل سلوكياتها، أولا بأول، كيف تأكل وتشرب، كيف تلعب معنا ومع الزوار، وكيف تتشاجر، وما هي آلية فض منازعاتها، وكيف تتزاوج، وغيرها من التفاصيل الكثيرة، حتى الضئيلة منها والمبهمة والملتبسة، وغير ذات قيمة متوقعة، وقد تطوعت زوجتي لتدوين كل تلك المعاينات في مذكرة،  أسمتها "أَيْدي" على اسمها، وذلك في محاولة للخروج باستفادة  أو تطبيقات عملية ما، تمكننا من استخلاص قواعد والأنماط حياتها وقوانين وتطوراتها بيننا، وقد من بين النتائج الهامة التي لمسناها وتوصلنا إليها كأولى معاينة هامة، خلال مدة التقصي والتي لم تكن قصيرة هي: أننا لاحظنا أن عالم الكلاب لا يعرف ما يحدث في عالم بني البشر من أفعال التحرش والتعدي على حرمات المرأة، حيث انه لا يمكن أن تجد كلباً ذكراً، مهما كبر أو صغر، يغتصب كلبة أنثى أو يتحرش بها جنسياً خارج موعد خصوبتها في موسم التزاوج، الذي لا يكون حينها، تحرشاً أو اغتصاباً، وإنما طاعة وتلبية عمياء لنداء الطبيعة، ثم بعد انتهاء مدة خصوبة الأنثى، التي لا تدوم أكثر من عدة أيام مرة أو مرتين في السنة، تتحول بقدرة قادر ذكور وإناث الكلاب في المجموعة إلى إخوة تامة منزوعة الجنس، يعيش الذكر وينام ويلعب مع أنثاه لعدة أشهر متتالية دون أي رغبة أو شهوة على الإطلاق بين الذكر والأنثى  ودون حتى أن يحاول المساس بها جنسياً، إلى حين أن يأتيه نداء المعاشرة القادم، وعندها فقط يعود التزاوج إلى عنفوانه، ويستطيع الأقوياء من الذكور معاشرة الإناث المستعدات  للتزاوج، لا يقربون صغيرات السن، كما يتخلف ما شاخ أو هرم أو سقم من كبر أو مرض، أو سغب، من الذكور، لتصدق مقولة داروين: "البقاء في الحياة يكون للأقوياء بوجه عام".

فالجنس عند الكلاب، هو عكسه عند البشر كلهم، إذ لا يكون إلا بميعاد، وبنظام صارم، من المستحيل أن يعرف مثله البشر، ليس لأن الكلاب والكثير من الحيوانات، منظمة ومؤدبة كما قد يبدو ظاهرياً من سلوكها، لكنها في حقيقة أمرها، هي كائنات مبرمجة بيولوجيا، لا يتملكها الهوس الجنسي البشري، والشبق المسيطر على ذكور بني الإنسان، ورغبتهم الكبرى في المرأة -المحجوبة عنهم دوماً من خلال ما توارثوهُ منذ قرون، من الفصل بين الجنسين، وحجب المرأة عن الرجل، بهدف الابتعاد عن وسوسة الشياطين الكامنة في النفوس الأمّارة بالسوء- التي يريدها أن تكون هدفاً له، وسلوى يسعى لها طوال حياته، وأداة لمتعته الجنسية فقط؛ لأنه، هو عكس كل الأجناس الحيوانية الأخرى، لديه ذكاء خارق، ينتج عنه تراكم علمي وحضاري، يجعل سلوكياته في المعاشرة الجنسية، سلوكيات غير نظامية ولا نمطية ولا مقولبة بشكل صارم مثل الحيوانات المبرمجة بيولوجياً، حيث نراه، وفي كثير من الأحيان، يتلصص النظرات إلى محاسن جسد ث رمجة بي المبرمجة بيولوجياًتعدات ه بمع دخول المرأة، وينقض عليها، كلما اتيحت له فرصة الاختلاء بها، حتى أنه إذا جمعت الصدفة أحدهم بامرأة، تحت سقف واحد، فلا ضمان لهما, أو لا ضمان للشيطان الذي يسكنهما, أو بالأحرى يسكن الرجل، لأن المشكل الأساسي في غالبيته، يكمن في الرجل, وهو المعتدي غالباً -أما المرأة، فهي أقوى منه في السيطرة على شيطانها (غريزتها) لو اختلت بالرجل، فلم نسمع يوما بأن هناك امرأة حاولت يوماً غصب رجل على ممارسة الجنس معها, أو حاولت التحرش به إلا ما ندر، كقصة امرأة العزيز التي راودت يوسف عن نفسه، على سبيل المثال.

ولجزر الرجل وإبعاده عن الفساد الأخلاقي والامتناع عن ممارسة الفحشاء, وكف يده عن الاعتداء على حرمات المرأة، وللوصول لمجتمع نقي وخالي من الأمراض الاجتماعية والمشاكل الجنسية من اعتداءات واغتصابات وزنا المحارم، جُعل من المرأة –تجنيا وظلما- عورة وفتنة، ونوعاً من انواع الشياطين، ومنعت من الاختلاء بالرجل، لدرجة وصلت الى منعها عند البعض من سياقة السيارة، وركوب التاكسي، أو صعود المصعد مع رجل غريب عنها, وعليها ان تنتظر إلى أن يأتي شخص ثالث لكي لا تكون هناك خلوة بينهما, أو تنتظر لحين خلو المصعد من هذا الوحش الكاسر المسمى "الرجل" الذي لا يحل في مكان منفردا بامرأة، إلا وحل معهما شيطان الشر، كما جاء في الحديث النبوي: "لا يخلو رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما"، لا ولن أجادل في الحديث، لأن لذلك متخصصون هم أقدر مني في ذلك، ولكني أتساءل عن هذا الدين ونتاج ما تعلمناه وأسلمنا به من قرآننا الذي رددنا آياته في جميع مرافق حياتنا، والذي لا يكف عن الحث على استعمال العقل لإبعاد وسوسة الشيطان عن نفوسنا ؟ فما نفع هذا العقل لو لم نتمكن بواسطته من التفريق بين الصالح والطالح، وما الفائدة منه إذا كانت نفوس أصحابه المعوقة، والامارة بالسوء، وشخصيات رجاله المشوهة اجتماعياً، تدفع بهم لإتباع عكسه والعمل بخلافه، دون ان يمنعها، إحساس بالذنب، أو احتقار للذات، من استغلال المرأة وقمعها، كما كان يحدث طوال آلاف السنين، ولا تزال تعيش في مجتمعات تقليدية، وتشرعن للاستبداد تحت راية رؤى تساهم - بعلم أو من دون علم - في انتهاك حقوق المرأة وكل الحريات التي تقوم عليها الحياة وتُبقيها مسجونة وسط الرجال، منتقبة محتجبة داخل ملابسها، ممنوعة عن اكتساب وممارسة أبسط حقوقها ووظائفها الاجتماعية والإنسانية، بدعوى ما يسمى الثوابت الدينية والاجتماعية المنظمة لقيم المجتمع وأخلاقه..

 ليت الناس تتعلم -رغم ذكائهم، سبب مصائبهم، لأنه سلاح ذو حدين، فهو ضار للإنسان، إذا هو حوصر وقيد أكثر من اللازم، ويصبح الإنسان معه، بدون شك، أكثر طاعة وأدباً ونظاماً ونمطية، ويكون بذلك، أقرب إلى الحيوان المفطور والمبرمج بيولوجياً، والمتخلف علمياً وحضارياً، منه إلى الإنسان الحر المبدع، والذكاء مفيد ونافع في كل أحواله، إذا هو أطلق له العنان أكثر من المنطقي والمعقول، ولم يُقيد بالقيم والقوانين، فيصبح الانسان متحررا من كل القيود الأخلاق والقيم الإنسانية، ويجعله يتنكر للعقل وجوهر وروح الأخلاق الدينية والقيم الحضارية الإنسانية، ما يضطر المصلحين ورجال الدين، للتدخل في الطبيعة الإنسانية، لحماية المجتمع الإسلامي بأحكام وقائية قسرية، تمنع، وتفصل، بين الجنسين "الرجل والمرأة"، فصلا تاما، كما في الحديث النبوي الشريف "لا يخلو رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما"..

يا ليت الناس تتعلم من كل الحيوانات وليس من الكلاب فقط، فالتاريخ به عبر كثيرة ترجع إليها الأمم لتصوب مسارها، وتتحاشى الوقوع فى الكوارث والانكسار، والقرآن الكريم به، كذلك، الكثير من العبر فيما يتعلق بالذين سبقونا كقوم لوط وعاد... 


حميد طولست

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2303 الخميس 13 / 12 / 2012)


في المثقف اليوم