أقلام حرة

بعد الذي قد صار في العراق

للصبح الذي أتعبني انتظاره ، فبت ليلي ساهدا أعاشر النجوم والظلام وأهجر الوسائد ولا أجد من مهجع لروحي التي أتعبها النوى إلا ندى جروحي وشيء من طموحي.

وفي فضاء التيه وحيدا تهت بلا مؤانس  فلم أعد اسمع صوتا مفرحا ولم تعد لي قدرة  التذكر غابت ملامح الوجوه بل تشوهت وبهتت بعد أن لبس الجميع أقنعة الوحوش وخلعوا ثيابهم ولبسوا النعوش خوفا من الجلاد.

 و حياة التيه نسيت أن في هذه الدنيا من أمثالي الكثير... مأساتهم أنهم مثلي يجهلون وجود غيرهم حتى أصبحت ملامح وجوههم هي الشكل الأوحد المرسوم في ذاكرتهم المعطلة.لا ليست الذاكرة وحدها معطلة فكل الأشياء من حولنا تبدو بلا حراك كأنها قدت من صخر الأحزان فلم يعد عطر الفرح يدغدغ وجنتيها ولا نسمات اللوعة والحب تداعب أهداب شمسها حتى الظل فقد رماديته وتحول إلى ما يشبه اللاشيء وشعاع الشمس لم يعد يدغدغ المشاعر ويحفز الوجدان وكأن المشاعر والوجدان جماد قد من جماد. ونسيت معها نظم القوافي والتغني بالجمال والفخر بأعمال الرجال. ومرت سنين تلتها سنين وسنين ... نسينا بجورها طعم الحنين.

ومع تقدم العمر والانشغال بهموم الكتابة في فن السياسة وتحليل عقد الدين وتعقيدات الحياة باتت ومضات عشق القافية من جديد تنطلق حينا بعد حين من داخلي الدفين كلما وجدت لها منفذا وكأنها تريد أن تعلن عن نفسها أمام مشاغلي وجهلي وتجاهلي وتبدأ وتعيد حياة مضت من جديد. وأنا انخدعت ولأحضانها سارعت، ولما مددت يدي لأداعب وجناتها وألمس خصلات شعرها الذي بدا أشيبا كشعري الأشيب أحسست بوجه متعب متصلب ... خال من الطراوة ... ليس به حلاوة، وكأني ألمس حجرا جلمودا أجرد.

 فهل أن إحساسي بالشعر وبالحب بعد كل هذه السنين من الفراق قد مات أو تبلد وأصبح بلا حياة أم أن كبر وجسامة المشاغل الأخرى اغتالته أو اعتقلته وألقت به في زنزانة انفرادية مثل تلك الزنزانات التي عشنا فيها أشهرا من عمرنا في مديرية الأمن العامة مرات ومرات.أو أنه رحل مع من رحل من الأحبة والأهل بعيدا صوب المجهول فأنتابه الهرم والذبول.

ولنفرض أن هذا صحيح وذاك صحيح لماذا إذا أصاب بالاندهاش وتأخذني النشوة واشعر بالانتعاش وفرائصي ترتعد وترتجف بشدة، ودموعي تتسابق للخروج من محاجر عيني دونما استحياء كلما قرأت ما خطه يراع صديق عمري يحيى السماوي هذا الصديق الذي كتبت ميثاق صداقتي معه في ممرات وساحات ومساءات الجامعة المستنصرية في بداية سبعينات القرن الماضي ثم فارقته سنينا إلى أن جاءني خبر نعيه واستشهاده على أيدي جلاوزة البعث ثم لأكتشف بعد ردح من الزمان بالصدفة أنه يعيش مغتربا في استراليا ويغدق على حياة العرب والغرب شعرا يعيد الشعور الحقيقي  للنفس الولهانة  والروح العطشى للعشق، ولأحصل منه على وعد زيارة إذا زار العراق أو كما قالها هو (كما لا يقبل حج من لم يطف بين الصفا والمروة. كذلك لن تقبل زيارتي للعراق إذا لم أزرك) وقالها مرة أخرى (هل ترى أن الله يقبل صلاة من يصلي بلا وضوء إذا زرت العراق ولم أزرك فكأني أصلي بلا وضوء)!!

ولماذا تنتابني هواجس الشك بالوجود والبحث عن حقيقة الخلود كلما مر أمام ناظري ما سطره قلم سميي الشاعر الفنان الرسام المبدع صالح الطائي الذي عرضت عليه صداقتي بكرم لا يدانيه كرم جدنا المشترك حاتم الطائي، فتكاسل عن قبولها بكبرياء ولم يذكر الأسباب. ربما لأن قلبه مملوء بالأحباب أو لأني عرضتها عليه في زمن لم يعد فيه للصداقة سوق وتحولت فيه علاقات البشر إلى لعبة سمجة بلهاء يترفع عن مشاغلها العقلاء ويرتع في أفيائها الكسالى والجهلاء، وربما بعد الذي أصابه من غدر في زمن الغدر والخداع.

فأنا حينما أقرأ لهما مما صاغاه من آهات الفؤاد ونشيج الروح ومطر العيون وعطر الوجدان أشعر بتفاعل روحي مع أوزان قصائدهم وأحسها تتراقص على أنغام قوافيهم حتى كأني أعرف المفردة التي ستأتي بعد المفردة التي أمام عيني وشطر البيت ما إن أتم قراءة صدره.

هل هذا لأني شاعر؟ إذا لماذا تشرد القوافي مني وتهرب الأبيات؟ ولماذا أستسخف كل بيت أصوغه ولا أؤمن بصحته؟ أهي الخدعة الكبرى التي حولت حياتنا إلى مجرد عبث لا هدف له حتى لم تعد كما كنا نعرفها؟ أم هو الفراق بيني وبين القوافي كل هذه السنين؟ أم أني فقدت الأعيرة فتعطل الميزان؟ أم لأنني حيران؟ أم أن القوافي تستهجن قلة وفائي لها واستسهالي هجرانها فتعاملني بالمثل وتقابلني بالعصيان؟

وأمام هذه المعادلة غير العادلة هل من الممكن أن يرجع الإنسان إلى بدايته ليعيد بناء حياته القائمة التي يراها مفلسة من كل شيء، لأنها ليست الحياة التي كان يريد أن يحياها على أسس تلك البدايات الأولى عل المصير يتبدل؟ أم أن البداية كالشباب تصبح من مرور الأيام حلما مستحيل التحقيق بل مستحيل الرجوع؟

 وهل بعد هذا يلومني سائلي إن ذرفت دموع الأسى على عمر راح ... أو أتهم بالجنون  إن حملت صليبي كما يسوع... إن شدني الفخار للعليا بلا جناح ..أن أجدني مسمرا بالأرض تقتلني الكبرياء، مع أن كل الذي كان عندي راح .. حتى بقايا العمر أضحت كوخا خربا بل بيت شعر مستباح... لا باب لا شباك لا حيطان... فقط ظل لهيكل إنسان وبيت من البهتان مستباح في المساء والصباح. تحولت أصوات منشديه إلى نباح وباع قديسوه أخلاقهم لفرسان الهمر .. فلم تعد تطلع شمس الله في العراق ولا القمر ولم يعد للورد عطر ينتشر، وشذي الروض غاب، غيومنا التي كانت تروي عطشا بلا مطر أنهارنا تصحرت وهاجرت أسماكها وبيعت الأوطان، وعلى مذابح الجهل والخديعة أحرق الخلان!!

 فقط الإنسان، هذا المخلوق الرائع يرفض أن يساوم ويرفض أن يبيع  ... ويحلم أن الذي قد  صار ... كل الذي قد صار: تشاجر الأخوان تشتت الأديان القتل والتهجير والحرمان مذلة الأوطان والموت الذي طال الحياة كلها من أمسها ليومها لغدها في حزنها وعيدها وغضبة الصحراء ونثرها رمالها على رؤوس الخانعين، وتصحر الوجدان والحياة واللاحياة ... مجرد حلم مزعج سينتهي إذا صحا من نومه الإنسان... لكن بربك قل لنا يا سيدي الشاعر البعيد ...يا يحيى يا صالح بعد الذي قد صار... كل الذي قد صار ...  أتعتقد بأنه قد بقي الإنسان إنسان؟

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1215 الاحد 01/11/2009)

 

 

في المثقف اليوم