أقلام حرة

هذا المسخ لمفهوم "الأكثرية"!

صدر الدين القبانجي هو قيادي ديني شيعي عراقي، من "المجلس الإسلامي العراقي الأعلى"، الذي يتزعمه عبد العزيز الحكيم. يؤمُّ المصلين في صلاة الجمعة في النجف، ثمَّ، أو في الوقت نفسه، يؤمُّ "الشعب" سياسياً، فلا فرق بين الدين والسياسة، مثلما لا فرق بين نظام الحكم الديمقراطي وحكم الأكثرية الشيعية؛ إنَّه صفةٌ لاتِّجاه، وليس اسماً وشخصاً فحسب.

نفسه أبت عليه أن يتلفَّظ باسمها، فالديمقراطية رجس من عمل الشيطان الغربي، ففضَّل التحدُّث عنها؛ ولكن بتسمية جديدة هي "النظام الدستوري في العراق الجديد".

القبانجي استنجد بـ "منطق أرسطو"، فقال، وكأنَّه من أئمة الفكر الديمقراطي العالمي، إنَّ الديمقراطية (أي النظام الدستوري) هي حكم الأكثرية، وإنَّ الشيعة (من عرب العراق) هم الأكثرية، فالحُكم، على ما استنتجَ، يجب أن يكون لهم!

لا تجادله قائلاً إنَّ الديمقراطية، في معناها الليبرالي، الذي يلمع لمعان الذهب وهو ليس بالذهب، هي "حكم الشعب"، فالقبانجي، والذي هو أقرب إلى "الصفة" منه إلى الاسم، لا يميِّز "الأكثرية الشعبية" من "الأكثرية الشيعية".

لو كانت الأكثرية في العراق من الزنوج، لقال قبانجي ثانٍ، إنَّ الديمقراطية هي حكم الأكثرية الزنجية؛ ولو كانت من الفلاحين، لقال قبانجي ثالث، إنَّ الديمقراطية هي حكم الفلاحين؛ ولو كانت من النساء..؛ ولو كانت من الشباب..!

إنَّه يعلم، على ما أظن، أنَّ "الأكثرية"، أي أكثرية السكان، أو الأكثرية الديمغرافية، على غير لون ونوع؛ ومع ذلك، لم يرَ من ألوانها وأنواعها، على كثرتها، إلاَّ ما أرته إيَّاه "عينه الثالثة"، وهو "الأكثرية الشيعية"، التي ينبغي لها، ويحق، أن تحكم العراق؛ كيف لا وهي التي تجتمع فيها "الفضيلتين"، فضيلة "الأكثرية الرقمية"، وفضيلة الانتصار لـ "آل البيت"؟!

القبانجي إنَّما هو الدين في خدمة السياسة؛ وقد تناهى إلى سمعه أنَّ رئيس السلطة الزمنية، أي رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، قد ضاقت مصالحه، أو المصالح التي يُمثِّل، ذرعاً بنظام حكم يقوم على "الحُصص" و"النِسَب"، مع ما يُولِّده من فساد، فدعا إلى نظام حكم تَحْتَكِر فيه السلطة تلك "الأكثرية القبَّانجية".

ويكفي أن نعلم أنَّ كل أكثرية من نمط "الأكثرية القبَّانجية" ليست سوى اللبوس الذي تلبسه الأقلية في حكمها، حتى نفهم دعوة المالكي، مع ما حظيت به من "شرعية قبَّانجية"، على أنَّها دعوة إلى نقل أرصدة السلطة التي يملكها غيره إلى حسابه الشخصي.

نظام الحكم الديمقراطي، الذي تُعمينا مصالحنا المنافية له عن فهم ووعي حقيقته وجوهره، هو، بلا ريب، "حكم الأكثرية"؛ ولكن ليس أي أكثرية، فالأكثرية التي ينبغي لها، ويحق، أن تحكم، في النظام الديمقراطي، إنَّما هي التي خُلِقَت على مثاله.. على مثال مبادئه وقيمه، فإذا كان كل نظام حكم ديمقراطي هو حكم الأكثرية، فليس كل حكم أكثرية، نظام حكم ديمقراطي.. فإذا كانت كل الكلاب حيوانات، فإنَّ من الحماقة بمكان أن نستنتج أنَّ كل الحيوانات كلاب!

"الأكثرية"، في النظام الديمقراطي، والتي لم نُنْتِجها حتى الآن؛ لأنَّ آلة إنتاجها وهي الديمقراطية لم نملكها بعد، إنَّما هي "الأكثرية الشعبية"، أي أكثرية "الشعب"، الذي ليس حاصل عملية جَمْعٍ حسابي بين الطوائف الدينية والقبائل والعشائر..، وإنْ تضمَّن هذه الجماعات دون القومية، وغيرها.

إنَّها، أي الأكثرية التي يعرفها النظام الديمقراطي، ويعترف بها، عابرة، متخطية، للجماعات دون القومية، فهي تضمُّ الشيعي؛ ولكنها ليست بشيعية، تضمُّ السنِّي؛ ولكنَّها ليست بسنيَّة، تضمُّ المسيحي؛ ولكنَّها ليست بمسيحية، تضمُّ أبناء القبائل؛ ولكنَّها ليست بقبلية، فالماء يتألَّف من أوكسجين وهيدروجين؛ ولكنه ليس الأوكسجين، وليس الهيدروجين.

إنَّه التدليس الديمقراطي بعينه أن يُصوِّروا لنا النظام الديمقراطي على أنَّه حكم الشيعة؛ لأنَّهم الأكثرية العددية، أو حكم السنَّة؛ لأنَّهم الأكثرية العددية، فـ "الأكثرية" التي يقوم عليها نظام الحكم الديمقراطي أقرب إلى الكيمياء منها إلى الحساب؛ ونظام الحكم الديمقراطي عندنا لن يؤكِّد، أو يتأكَّد، وجوده إلاَّ إذا خلق الأكثرية التي تشبهه خَلْقاً وخُلقاً؛ وإنَّه لعملٌ لو تعلمون عظيم

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1065  الاثنين 01/06/2009)

 

 

في المثقف اليوم