أقلام حرة

هلوسات "عربي" ..

ibrahim aboetaylaمع قدوم الخريف بلياليه التي تزيد في ساعاتها طولاً عن ليالي الصيف .. وبعد أن تعود الجسم على ساعات نوم مرتبطة بعدد ساعات ليل الصيف .. فقد أصبح في الليل ساعات تتجاوز ساعات النوم .. و"عربي" صديقي لا يعرف ماذا يفعل في الساعات المتبقية إلا أن يقضيها بالتفكير أحياناً وبالحلم أحياناً أخرى .. فهو يفكر ويحلم ويهلوس مستيقظاً .. فبعد أن ظهر جلياً أن ما سمي بالربيع العربي لم يكن إلا كذبة كبرى تجاوزت التسمية المستوردة، التي روج لها الغرب كثيراً، حتى بدأ العرب باستخدامها وكأنها جزء لا يتجزأ من تاريخهم وثقافتهم وتراثهم، على الرغم من ان هذه التسمية - الربيع – ارتبطت فيما مضى بثورات الشعوب في أوروبا .. نعم، لقد فرح العرب بهذه التسمية وصفقوا لها بتوجهاتهم وميولهم المختلفة .. كيف لا وغالبية بلاد العرب مناطق جافة، بعضها لا يعرف الربيع، والذي وإن جاء، فهو فصل قصير أوله بارد وآخره حار .. لا تمييز في بدايته عن الشتاء ولا فرق في نهايته عن الصيف، ولم يدر في خلد العرب ان هذه التسمية ستبقى مجرد اسم فارغ دون مسمى .. فلم يجلب الربيع العربي ما طمحت إليه الجماهير العربية، بل على العكس، فبدلاً من أن يجلب تغييراً للأفضل، واستقراراً يؤدي بالعرب إلى التقدم، إذا به يلحق القتل والدمار والخراب في البلاد، ويؤدي إلى الفرقة بين الجماهير ..، وأي متابع لما يحدث يمكنه الوصول إلى حقيقة ما يحصل مهما أختلف المحللون في تفسيره .. فعلى الأقل لم تستقر أي من الدول التي تغنت بربيعها كجزء من الربيع العربي، فيما لحق الدمار والخراب في بعض من هذه الدول .. ودفع الكثيرون دمائهم ثمناً لهذه التسمية، وكأن الدم المراق اضحى زهرة حمراء من زهور الربيع، فيما سيأخذ الدمار الذي حدث الكثير الكثير من الوقت والجهد والمال لإصلاحه أو للتخفيف من آثاره على الأجيال القادمة.

أسهم "عربي" في تفكيره وفيما آلت إليه حال دولنا العربية، تمنى لو كان قد بلع عدة أقراص من منوم قوي، او مخدر من النوع الذي يقلب الحزن فرحاً، تقلب في فراشه، سكاكين تخترق جسده كلما عادت إلى ذهنه صور مما يحصل في دوله العربية، دماء العراقيين تسفح لا لشيء إلا ارضاءً لمحترفي دين السياسة أو سياسة الدين، سني يفجر في موقع شيعي وشيعي يفجر في موقع سني، لا بل إن الذي يفجر لا دين له ولا يمت بصلة لأي من السنة أو للشيعة وهو المنطق الأقرب إلى الواقع والتصديق، وما هو إلا منفذ لتعليمات من زرعوا بذهنه التقتيل وسفك الدماء وقد استخدموه لتدمير وتخريب وتقسيم بلد متجذر في الأخوة والتعايش والحضارة، بلد لم يتوقف يوماً عند طائفية رخيصة أو مذهبية نتنة أو فئوية قاتلة،،،، يمضي صديقي "عربي" بفكره ويتجه غرباً، فيرى دماراً وتخريباً وتقتيلاً في بلد قلبه أقدم عاصمة في التاريخ، دماء تسيل كنهر في فيضانه، الكل يتفرج، لا بل هناك من يقدم الدعم وأدوات القتل لكي يبقى شلال الدم مستمراً، ينتفض "عربي" بتفكيره متجهاً صوب الجنوب فيرى يمناً يعاني الأمرين بين يمن أو يمنين، يعود صديقي شمالاً ويرى الياسمين قد ذبل والاستقرار قد ضاع والخضراء في طريقها للجفاف ما لم تحصل المعجزة، يعود "عربي " شرقاً فيرى بلداً يعاني وميليشيات تحكم وترسم، وأقاليم تتنازع، ودولة تتفتت لتصبح ليبيا ثلاث دويلات، ويرتحل صديقي بفكره شرقاً فيرى أرض الكنانة تبكي وتشكو مما أصابها من عدم الاستقرار وانقسام مجتمعي وشيوخ تصدر الفتاوى يقابلهم منظرين كثر يخدمون ميولهم للشهرة ولو بمدح أي رئيس،،،،، ويستمر "عربي" في زحفه نحو الشرق .. . سدود تقف حائلاً أمام تقدمه،،، وطن ضائع،، أضحى منسياً من أخوته في ظل زحام من سيول الدم وأهله منقسمين بين شيخ وطريقة .. وبني صهيون يزغرد مرتاحاً .. .

يصرخ "عربي" صراخ المفجوع بأمته .. صوته بداخله يكاد يفجره .. يقفز في ذهنه صوت فيروز وهي تغني (الحالة تعبانة يا ليلى خطبة مافيش) – خطبة ما فيش أم وحدة مافيش – يبدل عربي كلمة واحدة من كلمات الأغنية فيراها منسجمة .. أليست الخطبة مشروعاً للوحدة .. يردد مع نفسه، نعم فالخطبة والوحدة سيان .. تستوقفه كلمة (مافيش) .. يشرد ذهنه بمحاولات الوحدة بين الدول العربية مستعرضاً إياها محاولة بعد أخرى ويقول :

ها هي وحدة ضفتي نهر الأردن قد أصبحت شيئاً من التاريخ هذه الوحدة التي كانت مثلاً يحتذى والتي استمرت من عام 1950 إلى عام 1988، وهاهو الاتحاد العربي الذي جمع الأردن والعراق قد انهار وهو طفل يحبو فما كاد يعلن عام 1958 حتى انتهى بعد شهور عدة، وتلك هي الجمهورية العربية المتحدة قد زالت عن الوجود بعد أن جمعت سوريا ومصر لأكثر من ثلاث سنوات من 1958 ولغاية 1961، يعود "عربي " بذكرياته مستذكراً اتحاد الجمهوريات العربية الذي جمع نظرياً كل من سوريا ومصر وليبيا فما كاد رؤساء هذه الدول يتفقون على المبدأ حتى اختلفوا على التفاصيل، على الرغم من استمرار هذا الاتحاد للفترة 1972 – 1977، ينتقل "عربي " بفكره إلى مجلس التعاون العربي الذي جمع العراق والأردن ومصر واليمن والذي لم يستمر طويلاً من شباط / فبراير 1989 إلى تموز/ يوليو 1990 حيث مات الطفل قبل فطامه، يذهب "عربي " في مخيلته نحو الغرب فيشاهد ضباباً يكتنف اتحاد المغرب العربي الذي يضم كل من ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، ويكاد الضباب يخنق هذا الاتحاد الذي يبدو متعثراً في خطواته ورغم ذلك فمازال حياً يلهث للبقاء رغم مضي ما يقارب ربع قرن على انشائه منذ عام 1989وهو الأقرب إلى الحبر على الورق منه إلى الواقع،،،،، يتألّم "عربي " ويشعر بالقهر والاحباط فها هي تجربة أخرى على المحك وربما تنتهي بالتفريق .. انها وحدة اليمنين – إذا جاز التعبير – تلك الوحدة القديمة الحديثة فاليمن راسخة بالوحدة منذ القدم تجزأت وأعيدت وحدتها عام 1990، وحدة صاحَبَها سوء تطبيق وإدارة قد تنهيها في أي وقت وصديقي يتمنى غير ذلك .. .

يتململ "عربي " في جلسته ويقول في نفسه أحمد الله فمازال هناك أملاً بالوحدة، فها هو مجلس التعاون لدول الخليج العربي والذي يضم الكويت والبحرين وقطر والامارات العربية المتحدة وعمان والسعودية باقياً ومستمراً منذ عام 1981 ربما ليثبت للعالم أن تقارب المستوى الاجتماعي يعتبر ركيزة لكل زواج ناجح،، فها هو يمضي قدماً متسماً بالبطء أحياناً، يبتسم "عربي " ويبدو منشرحاً لبقاء مجلس وحدوي أثبت نفسه على أرض الواقع وأصبح على مقربة من الاتحاد أو الوحدة الاندماجية،،، وها هي دولة الامارات العربية المتحدة التي تضم كل من ابوظبي ودبي والشارقة ورأس الخيمة وعجمان وأم القيوين والفجيرة يمثل تجربة وحدوية عربية رائعة هذه الوحدة التي بدأت المشاورات بشأنها في عام 1968 وأعلنت للملأ في كانون الأول / ديسمبر1971 ليضم الإمارات المذكورة باستثناء رأس الخيمة التي لحقت بالدرب وانضمت للوحدة بعد شهرين من إعلانها .

ينشرح صدر "عربي " وترتسم عل محياه ابتسامة عريضة وبينما هو على هذه الحال، إذ به يلعن بريطانيا ويوم بريطانيا،، أوَليست هي من ألبست الوحدة ثوباً غير ثوبها .. ألم تزرع في ذهن العرب فكرة تجمع العرب في إطار بروتوكولي بدلاً من الوحدة، في يوم كانت النزعة للوحدة تراود كل عربي،، فها هو ايدن وزير خارجية بريطانيا العظمى يعلن في أيار / مايو 1941 أنه من حق البلاد العربية تقوية الروابط الثقافية والاقتصادية والسياسية بينها، نعم، لقد قال البلاد العربية كأسلوب من أساليب عدم الاعتراف ببلد عربي واحد، أو عالم عربي واحد، تبعه بإعلان آخر عام 1943 بأن بريطانيا تنظر بعين العطف إلى كل حركة بين العرب ترمي إلى تحقيق وحدتهم العربية، لتبدأ بعدها بعام المشاورات في هذا الشأن بين عدد من الدول العربية بمبادرة مصرية لإنشاء جامعة عربية، ولقد شارك بهذه المشاورات بالإضافة لمصر كل من الأردن والعراق وسوريا ولبنان والسعودية واليمن، وتبلور من خلال هذه المشاورات اتجاهين رئيسيين بخصوص موضوع الوحدة, الاتجاه الأول يدعو إلى ما يمكن وصفه بالوحدة الإقليمية الفرعية أو الجهوية, والاتجاه الثاني يدعو إلى نوع أعم وأشمل من الوحدة الإقليمية ليظلل عموم الدول العربية المستقلة وفي هذا الإتجاه برز رأيان فرعيان أحدهما يدعو لوحدة فيدرالية أو كونفدرالية بين الدول المعنية والآخر يطالب بصيغة وسط تحقق التعاون والتنسيق في سائر المجالات وتحافظ في الوقت نفسه على استقلالية الدول وسيادتها، ويستذكر صديقي أن اللجنة التحضيرية المؤلفة من تلك الدول باستثناء السعودية التي لم تشارك فيها قد اجتمعت في أيلول / سبتمبر 1944 لترجح الاتجاه الداعي إلى وحدة الدول العربية المستقلة بما لا يمس استقلالها وسيادتها .. ولم يؤخذ باقتراح الوفد السوري بتسمية رابطة الدول العربية المقترحة ب"الاتحاد العربي" أو باقتراح الوفد العراقي بتسميتها ب"التحالف العربي"، إلا أنه في الوقت الذي قدم به الوفد المصري تسمية مقترحة لهذه الرابطة ب "الجامعة العربية" تم تعديلها بالتشاور لتصبح التسمية "جامعة الدول العربية " وأعلن ميثاقها بتاريخ 22 آذار / مارس 1945 معتمداً وكما ورد في ديباجته على أن الدول المشاركة في المشاورات قد وافقت على الميثاق بهدف تدعيم العلاقات العربية في إطار من احترام الاستقلال والسيادة لكل دولة من الدول الأعضاء وبما يحقق مصالح عموم البلاد العربية معترفاً بشكل صريح وواضح بالقطرية وبإلغاء الدولة العربية الواحدة ومغلفاً ذلك بغلاف براق أسمه الجامعة .. ..

  يشعر صديقي "عربي " بصداع يكاد يفجر رأسه .. ينهض من فراشه .. يبحث هنا وهناك عن طريقة يخفف بها الصداع .. يعثر على قرص يكتنف استعماله محاذير كثيرة، فقد يسبب التخدير أو الهلوسة المؤقتة .. يبتلع "عربي " القرص دون تردد فليس من طريقة أخرى يخفف بها الصداع .. يسترخي ثانية على فراشه، وما هي إلا لحظات وإذ به يبدأ بتخيلات أقرب إلى الحلم والهلوسة منها إلى الواقع .. بدأت عليه علامات الاضطراب .. ربما فقد التركيز، فهاهو يتخيل العراق وقد تخلص من المذهبية والطائفية وهاهم العراقيون ينعمون بخيرات بلادهم .. يعيشون بأخوة عمقها التاريخ، يرسمون المستقبل المشترك،،، انتهت الفرقة في سوريا وعادت كما كانت يقصدها العرب من كل حدب وصوب، وهي تفتح ابوابها للجميع منارة للأخوة والمحبة والتعايش ورمزاً من رموز الحرية، فقد زالت آثار الدمار والتخريب،،، وهاهي مصر مرفوعة الرأس وهاهم المصريون يرفلون بثوب من العز والأمان وعجلة الثقافة والفكر فيها تمضي قدماً،، لقد عاد الأمن إلى ليبيا وعاصمتها مزدهرة وحركة عمران كبيرة تشهدها كل مدن وقرى ليبيا، وعاد الياسمين لتونس الخضراء والسياح يملؤونها بجنسياتهم وألسنتهم المختلفة حتى تكاد تشعر انها تحتوي العالم،،، يمن واحد لا يمنين شعب واحد لا شعبين الكل سعيد كما كان اليمن سعيداً، لاتمييز في الحقوق والواجبات بين أهله، الأيادي تزيل القات وتعيد القهوة إلى موطنها،،،، وحدها فلسطين بقيت مغلفة بالسواد لم يستطع ذلك القرص الذي ابتلعه صديقي أن يفعل شيئاً بشأنها فهي بحاجة لما هو أقوى من ذلك القرص ليتمكن "عربي " من تحريرها ولو بخياله وأحلامه ..

عاد صديقي "عربي " بشريط ذكرياته .. ماذا لو كنا دولة واحدة .. ماذا لو كان العرب جميعاً في دولة واحدة لاتعرف الإقليمية ولا الجهوية ولا القطرية .. لماذ لم يوافق العرب على تسمية الاتحاد العربي بدلاً من الجامعة العربية أو لماذا لم ترتكز الجامعة في عضوية أعضائها على مبدأ الأقاليم .. تساءل في نفسه .. وهل كان ذلك قابلاً للتطبيق .. يأتيه الصوت من أعماق أعماقه المكبوتة، نعم، كان ذلك سهل المنال فالهلال الخصيب مرتبط ببعضه وهو كل لا يتجزأ، أولا يكمل بعضه بعضاً؟ .. وجزيرة العرب وحدة واحدة لاتعرف حدوداً ولا تقسيمات جغرافية ترتكز على تاريخها العربي الناصع، قشعريرة تخترق جسم "عربي" ونشوة ما بعدها نشوة، انتقل بمخيلته وأخذه الصوت القادم من أعماقه إلى وادي النيل فوجده بإقليميه مصر والسودان دولة قوية متكاملة يوحدها ويوحد شعبها مياه النيل، أولم يقولوا من يشرب من مياه النيل يعود إليها؟ فكيف بمن تعتبر مياه النيل بالنسبة إليه شريان الحياة، نشوة أكبر أحس بها عربي عندما أخبره ذات الصوت بأن المغرب العربي الكبير إقليماً واحداً وتحت مظلة واحدة يعمها السلم والأمان تتخذ من التاريخ المشترك والتعايش المشترك مرتكزاً للإنطلاق نحو التقدم ..

هاهي نشوة "عربي " تزداد وتكبر عندما يرى لقاءً قد تم بين الأقاليم العربية بهلالها الخصيب وجزيرتها العربية ومغربها العربي ووادي النيل معاً .. ليبحثوا الوحدة .. وليندمجوا في دولة واحدة .. بدأ بالتفكير .. عاد الصداع .. ازداد قوة .. لم يعد " لعربي " أي قدرة على الاحتمال .. صاح، صرخ، ايقظ كل من في البيت،،، فقد زالت آثار قرص الهلوسة وعاد إلى الواقع المؤلم .. تمنى لو لم يفق من هلوساته وأحلامه، تمنى لو كان بيده استكمال هلوسته الأخيرة ووحد العرب ولو بالهلوسة.

 

ابراهيم ابوعتيله

عمان - الأردن

11/10/2013

 

في المثقف اليوم