أقلام حرة

النخبة السياسية ومنطق البديل الوطني العراقي

الخراب الشامل للدولة والمجتمع والفرد والروح والجسد. وهي الحالة التي مثلها بصورة نموذجية سلوك الهاشمي في "نقضه" للمشروع الوطني الآخذ بالتراكم في قانون الانتخابات الأخيرة. فهو مشروع وقانون يتسم بقدر كبير من الهشاشة والضعف بسبب ضعف العراق الحالي وتحلل الدولة المركزية والنظام السياسي والقيم الاجتماعية والأخلاقية. من هنا سهولة التمرد العاصف الذي قام به شخص لا قيمة له من حيث الجوهر بالنسبة للدولة والسلطة والمجتمع! وفي هذا تكمن مفارقة الحالة العراقية. بمعنى إثارة الأزمة في الوضع العراقي المتأزم وتأجيل أو محاولة تخريب انتقاله الصعب من حالة التمزق والمحاصصة والطائفية والجهوية والعرقية إلى فكرة وأسلوب العيش بمعايير الحق والقانون والدولة المركزية من قبل شخص "اعتباري" لا وزن فعلي له بمعايير الدولة والسلطة والمجتمع والحزب الذي ينتمي أو انتمى إليه! بعبارة أخرى إننا نقف أمام شخصية معلقة تعلق تاريخ العراق وتجعله يتخبط من جديد في زمن المؤامرات والمغامرات.

الأمر الذي بدفع بالضرورة الأسئلة التالية: لماذا سلك الهاشمي هذا السلوك؟ ولماذا أخذت بعض القوى تشاركه، بينما صوتت قبل فترة إلى صالح القانون نفسه (حزب البارازاني والطالباني)، ولماذا انحدرت التيارات المتشدقة بالوطنية إلى نفس المنزلق، بحيث نراها تصف سلوكه بالتعبير الخالص عن "الإرادة الوطنية" وهي التي وصفته قبل ذلك بأشنع الأوصاف (كما هو الحال عند المطلك)، ولماذا يقف القسم الآخر متأرجحا ومتذبذبا وغير واضح العبارة والسلوك (بصورة جزئية عند تيار آل الحكيم).

إن هذا الواقع يعكس أولا وقبل كل شيء طبيعة ومستوى الخلل البنيوي في النخبة السياسية العراقية. وهي حالة معقدة، ليس هنا محل تشريحها المستفيض، لكنني سأكتفي بظاهرة الهاشمي فقط، بوصفها الحلقة الناتئة في سلسلة الخراب السياسي والوطني، أي تلك التي تمثل حالة "الاندماج" الصعب في الصيرورة العراقية الحالية التي تهدف إلى تذليل نفسية وذهنية الطائفية السياسية. فقد أنتجت هذه الذهنية والنفسية شخصية الهاشمي وجعلته "سياسيا إسلاميا" لا علاقة له من حيث الجوهر بالإسلام وعقائده الكبرى ولا بالسياسة من حيث كونها أسلوبا لإدارة شئون المجتمع والدولة بما يتوافق ويستجيب لفكرة الحق والتطور الديناميكي. من هنا خلل الروح والجسد، والظاهر والباطن، والسياسة والحزب، والجهوية والوطنية، باختصار في كل ما كشف عنه في اللحظات الأخيرة من اليوم الأخير والساعات الأخيرة لنقض القانون. أي إننا نقف أمام نفسية وذهنية نموذجية للمغامرة والمقامرة والمؤامرة. أما تحذلقها بعبارات الدفاع عن حقوق "المهجرين" والأقليات المهضومة فهو زيف ما بعده من زيف، كما انه لا يخلو من جهل فاضح بحقيقة هاتين القضيتين. لكن الأمر واضح حالما يجري وضعه ضمن سياق الغاية الفعلية القائمة وراء هذا السلوك، ألا وهو استغلال اللحظة الأخيرة والإمكانية الأخيرة المميزة لسلوك من يصفه العراقيون بعبارة "يا مغرٍّب خرّب"ّ!

لكن القضية تختلف بالنسبة لشخص امتلك بفعل صدفة الزمن البائس احتلال موقع شكلي لرئاسة فخرية شكلية لكنها تتمتع بقدرة مؤثرة على العرقلة وقت "الضرورة" بسبب دستور مليء بالثغرات. لكنها في الوقت نفسه حالة مميزة لأولئك الذين تكونت شخصياتهم في ظل تعارض مقيت للزمن والتاريخ، أي للعابر والثابت. ومن الممكن هنا استعادة المواقف التي وضعها الهاشمي نفسه في مقابلة أجاب فيها قبل حوالي ثلاث سنوات مع الصحافة الكويتية على سؤال

- الكويت كانت معبراً للقوات التي غزت العراق وأسقطت النظام، ألم يترك هذا رواسب عند فئات من العرب السنّة تجاه الكويت؟

- لست ممن يحبون العيش في التاريخ، وإذا كان هناك شيء من الرواسب فسيزول مع الوقت!

وهي إجابة نموذجية تعكس جهل الرجل وسقم التفكير عنده والعبارة. لكنه أجاب بدون وعي عن وعي يتمثله وهو "عدم محبة العيش في التاريخ". وهي حقيقة، لان الطائفية السياسية التي ينتمي إليها الهاشمي هي "حب العيش في الزمن" فقط، وذلك لان هاجسه الوحيد والأوحد أو "الأول والآخر" فيما لو استعملنا العبارة الإسلامية، هو السلطة.

وليس مصادفة أن يقف آنذاك الهاشمي ضد ما يسمى بالاستحقاق الانتخابي والدعوة العلنية والمستترة لفكرة المحاصصة الطائفية. فهو الأسلوب الوحيد الذي كان بإمكانه أن يمدد حياة الموتى! فقد أجاب آنذاك في معرض تناوله هذه القضية على أن "الاستحقاق الانتخابي" هو سبب "الاحتقان السياسي" و"التخندق الطائفي القائم حالياً". وهي صيغة نموذجية لقلب حقائق الأشياء والوقائع. والقضية هنا ليست فقط في محاولة رمي صناديق الاقتراع ونتائجها إلى سلة المهملات، بل والبحث في نتائجها عن سبب الاحتقان السياسي والتخندق الطائفي. بل انه لم ير في كل ما كان يجري في العراق من أحداث دموية أكثر من "أعمال وحشية ضد بني البشر تستخدم ضد العرب السنّة لتهجيرهم. وهناك حملة تطهير مذهبي واسعة النطاق تجري بفعل فاعل وبطريقة منهجية لدفع السنّة لترك العراق وتشييع هذا البلد جملة وتفصيلاً"!! لقد كانت بيت القصيد أو مربط الفرس يقوم في الوقوف ضد "تشييع العراق جملة وتفصيلا". بعبارة أخرى، إننا نقف أمام ذهنية ونفسية تشير إلى ما يمكن دعوته بالنزعة الشيطانية التي صورها الإمام علي مرة في إحدى خطبه قائلا:"وأحذّركم أهل النفاق فإنهم الضالّون المضلّون، والزّالون المزلّون. يتلونون ألوانا، ويفتنون افتنانا، ويعمدونكم بكل عماد، ويرصدونكم بكل مرصاد.... وصفهم دواء، وقولهم شفاء، وفعلهم الداء العياء. حسدة الرخاء، ومؤكدوا البلاء، ومقنطوا الرجاء. لهم بكل طريق صريع، والى كل قلب شفيع، ولكل شجو دموع... قد اعدوا لكل حق باطلا، ولكل قائم مائلا، ولكل حي قاتلا، ولكل باب مفتاحا، ولكل ليل مصباحا. يتوصلون إلى الطمع باليأس ليقيموا به أسواقهم، وينّفقوا به اعلاقهم. يقولون فيشبّهون، ويصفون فيموهون... فهم لمة الشيطان وحمة النيران...". ولا اعتقد أن الخطبة بحاجة إلى شرح. وفيها يمكن رؤية السر الفعلي القائم وراء سلوك الهاشمي الأخير.

تدفع هذه الحالة الإشكالية الكبرى التي عاني ويعاني منها العراق لحد الآن ألا وهي إشكالية النخبة بشكل عام والسياسية بشكل خاص. بمعنى أن العراق بحاجة إلى نخبة سياسية اجتماعية وليس إلى نخبة حزبية. فالنخبة الحزبية العراقية هي نخبة التمرس بتقاليد المؤامرة والمغامرة. واستقراء مواقفها وسلوكها بما في ذلك في ظروف العراق الحالية يكشف عن أن اغلبها هو تجسد نموذجي للتقلب والتغير والمداهنة والكذب والنفاق والسرقة والاحتيال والابتزاز والمصلحة الشخصية. وهي مظاهر يمكن تتبعها على نوعية وغاية الخطاب السياسي للنخب الحزبية. والاستثناءات قليلة. وهو أمر طبيعي فيما يبدو في مرحلة الانتقال من زمن السلطة إلى تاريخ الدولة. والاستثناء الأكبر والأكثر وضوحا في هذه الخارطة البائسة تعود دون شك لتيار دولة القانون وشخصية المالكي. فهو التيار الوحيد الذي يتصف بثبات كبير وتجانس على الأقل في خمس قضايا جوهرية وكبرى للعراق الحالي: الفكرة الوطنية، ونبذ الطائفية والعرقية، ووحدة الدولة والنظام السياسي، والتمسك بالقانون والدستور (رغم موقفه النقدي منه)، ومركزية الدولة. وهي القضايا التي يمكن من خلالها أيضا رؤية التراكم الفعلي في السياسة العملية القائمة على إدراك وتجسيد ثلاثة أفكار كبرى وهي المصالحة الوطنية، وتعديل الدستور، وإرساء أسس النظام السياسي الثابت والديناميكي عبر الدعوة والعمل من اجل إلغاء المحاصصة والتوافقية بوصفهما آلية الخراب المادي المعنوي للدولة.

إن العراق الحالي بحاجة إلى قوى سياسية تحكمها مصلحة العراق الكبرى ومبنية من حيث شخصيتها الفردية والاجتماعية على أسس الوطنية العامة والعقلانية السياسية والشرعية، وليس على طريقة الهاشمي!

***

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1253 الجمعة 11/12/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم