أقلام حرة

لنتعلم الدرس من هؤلاء الشباب

ahmad alkhozaiبغض النظر عما حدث في مدينة الاعظمية، إثناء الزيارة المليونية للإمام موسى الكاظم في ذكرى استشهاده، ومن كان وراء حرق مكتب العقود الحكومية للوقف السني الكائن في هذه المدينة السنية الواقعة على الطريق المؤدية لمدينة الكاظمية الشيعية .. وما هي الدوافع الخفية التي تقف وراء مثل هكذا عمل جبان، أذا ما استثنينا الهدف المعلن وهو إثارة الفتنة الطائفية بين مكونات أهالي بغداد، الذين استشعروا الأمن والسلام في السنوات الأخيرة، بعد موجة الاستهداف الطائفي المعلن الذي شهدته هذه المدينة بعد تفجير ضريح الإمامين العسكريين عام 2006 والتي دامت لأكثر من عامين .. لكن بالرغم من مرارة تلك التجربة وقسوتها على أهالي بغداد، بعدما فقدوا الكثير من الأحبة في موجة العنف الطائفي هذه، إلا أنهم لم يعوا الدرس جيدا، ولم يبادروا على خلق آلية رصينة للتعايش السلمي تقف على أسس قوية وذات مدى بعيد قادرة على التعامل مع الحالات الاستثنائية والطارئة التي قد تسبب احتقانا طائفيا، او استفزازا لإحدى المكونات الاثنية يتسبب في إثارة الصراع الطائفي من جديد في العاصمة بغداد .. صرفت الحكومات العراقية المتعاقبة بعد سقوط الصنم ملايين الدولارات على مشروع المصالحة الوطنية، الذي لم تتعدى إجراءاته سوى اللقاءات والندوات البروتوكولية والمجاملات بين النخب، بعيدا عن نبض الشارع العراقي ودون أن يلمس المواطن البسيط شيء يذكر منه على ارض الواقع، وظل هذا المشروع فعلا طوبائيا مثاليا غير واقعي، لأسباب كثيرة منها، عدم إشراك القاعدة الجماهيرية فيه بصورة فعلية مما يخلق حالة من الانسجام وتقبل الآخر بين مكونات المجتمع العراقي، الذي تحول البعد الطائفي عنده إلى هاجس وجزء من حراكه اليومي، بفعل الزخم الإعلامي العربي والبعض من المحلي المحرض على الطائفية، والصراعات السياسية بين الكتل والأحزاب التي غالبا ما ترتدي عباءة الطائفية لنيل مكاسب فئوية وشخصية على حساب جمهورها ... بعد حادثة الاعظمية تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي فديو يظهر فيه شاب من أهالي الاعظمية يعترض مسير الزائرين للإمام موسى الكاظم (ع)، وهو يعلق في رقبته لافتة جميلة كتب عليها (إنا شاب سني، واحبك يا أخي الشيعي)، فكان الرد من الزائرين الشيعة عليه هو القبلات والعناق الحميم في مشهد أبكى الكثير من العراقيين الذين شاهدوه، أن هذا الفعل الرائع الذي أقدم عليه هذا الشاب الاعظمي أعطانا درسا بليغا عن معنى التعايش السلمي، وعن رغبة الأغلبية الصامتة من الشعب العراقي في العيش بحب وسلام في هذا البلد الجريح، الذي أنهكته الأزمات ولانتكاسات ويصبوا إلى حياة حرة كريمة ليس للقتل والصراعات الطائفية مكانا فيها، أن موقفه النبيل هذا هو بارقة أمل جميلة يجب أن لا تمر مرور الكرام، وعلينا كشعب استثمارها بإرادة وطنية ذاتية بعيدا عن السياسة وأصحابها، وهذه المهمة يجب أن تنهض بها النخب الدينية المعتدلة والمثقفين والإعلام الحر، ومنظمات المجتمع المدني التي يغص بها بلدنا لكثرتها   دون أن نلمس منها شيء يذكر غير عناوينها الرنانة .. هناك مظاهر للاندفاع الديني والمذهبي يعيشه الشارع العراقي بفعل بحبوحة الحرية التي تلت سقوط النظام الفاشي عام 2003، وقد تثير بعض المظاهر الدينية لطرف ما حساسية الطرف الأخر، أو تفسر على إنها استفزازا أو استعراضا للقوة، مما يولد نوعا من التخندق الطائفي لديه، وخصوصا في المدن المختلطة كالعاصمة بغداد، هذه حقيقة يجب مواجهتها بعقلانية وحكمة عاليتين، بعيدا عن التنظير والأطروحات المثالية البعيدة عن الواقع الذي نعيشه الآن، ولتجاوز كل هذه المخاوف وتفادي الفتن الطائفية يجب أن يكون هناك تحرك من كل الأطراف عبر سلسلة من الإجراءات العملية مثل، تشكيل منظمات مجتمع مدني مختلطة من كل الطوائف والمذاهب تعنى بمتابعة الزيارات الدينية والعمل على تواجد أعضائها في هذه المناسبات لخدمة الزائرين أو لتقديم الخدمات الصحية لهم، ويتم إشراك أبناء المناطق التي تمر بها قوافل الزائرين في هذه الخدمة، مما يولد نوع من الشعور بالأمان والارتياح لسكان هذه المناطق والزائرين معا، وسحب البساط من تحت أقدام مثيري الفتن الطائفية والمصطادين بالماء العكر، وكذلك العمل على إقامة مهرجانات وطنية وثقافية يقيمها أبناء المناطق الشيعية في المناطق ذات الأغلبية السنية وبالعكس، لخلق حالة من الانسجام والألفة بينهم .. قد يرى البعض إن مثل هذه الحلول فيها من التسطيح للمشكلة العراقية الشيء الكثير، لكن (رحلة المائة ميل تبدأ بخطوة واحدة)، وان المجتمعات المتحضرة لم تصل إلى هذا التقدم والرقي إلا بعد أن تجاوزت العقد الاثنية والقومية، وان لمجتمعنا العراقي الشرقي المسلم خصوصيته و(ثقافته الحتمية) التي لا يمكن تجاوزها بأي شكل من الأشكال، فالدين والطائفة يشكلان جزء مهم من وعيه الذاتي الذي يتخندق به اتجاه الثقافات الأخرى، ويجب التعامل معه وفق هذا المنظور البراغماتي .. إن ما فعله هذا الشاب ابن الاعظمية ومن قبله عثمان ألعبيدي، والشاب الآخر ابن مدينة الصدر الذي تطوع للعمل على إصلاح الأضرار التي لحقت ببعض منازل أهل الاعظمية جراء الأحداث التي رافقت الزيارة، يجب أن تكون خط الشروع لمشروع وطني كبير للتعايش السلمي على هذه الأرض التي شاءت لها السماء أن تكون مهد الحضارة ومحط رحال الأنبياء والأولياء ومثوى لأجسادهم الطاهر.

 

احمد عواد الخزاعي

في المثقف اليوم