أقلام حرة

حينما يطرق أعالي الكلام بوابات القلب

saleh altaeiقراءة في مجموعة الشاعر ياسر العطية، الموسومة "أعالي الكلام"

لم تؤثر الأحداث المأساوية على عطاء المبدعين العراقيين؛ بالرغم من شدتها ودمويتها وتهديدها، بما يبدو وكأن تزاحم الأحداث يزيدهم تألقا، ويفتح شهيتهم للكلام، لا كما هو كلام الآخرين وإنما أعالي الكلام بالذات، حيث تتحول الكلمة إلى تغريدة عصفور جريح، وآهة، ونزيف من وجع، يصور لحظات الفرح التي يسرقونها عنوة من فم الزمان، وعمق المأساة التي يعيشونها، ورغم تفشي العقم بشكل عام، هناك ولادات جديدة تعد بأمل الخروج من ربقة التبعية لصدى المأساة أو الرضوخ والاستسلام لروح الهزيمة؛ التي تولد عادة من رحم ما يعيشه الإنسان من إخفاق متراكم.

كنا نأمل أن يكون التغيير الذي وقع في 2003 ميلاد فجر سعيد جديد واعد معطاء يمحو آثار التهتك المجتمعي الذي فرضه النظام علينا، لكننا صدمنا من هول ما تبع التغيير من أحداث حتى كدنا أن نفقد الأمل، والغريب أن روح العنقاء فينا انتفضت من جديد، فاستوعبنا الرجات، وبتنا نحلم أنها إن كانت قد قتلت أحلامنا بالفجر، فإنها لم تنجح في محو صورة الغبش الذي يسبق الفجر بكل ما يمثله من انتظار.

بين الهزيمة والتحدي تقبع مساحات العمر الذي أهدرناه نبحث عن ملاذات آمنة لرؤانا وتخيلاتنا وأحلامنا التي لا لون لها، تغمرنا مشاعر الفرسان المخذولين، وربما الفرسان المنتصرين، فكلاهما تغمره المشاعر، هذا بالنشوة وذاك بالوجع، كما تغمر الشمس رحب الحقول مجدبها ومثمرها.

مساحات التيه في صحرائنا علمتنا أن الدنيا بلا حدود، ومتى ما تلاشت الحدود من أمام الإنسان لا يعود يشعر سوى بالحرية المطلقة، ومتى ما كانت الحرية مطلقة، تولد السويعات الخلاقة المبدعة، ومن وحم هذا الإبداع يمكن للإنسان مرهف الحس أن يحول الهزيمة وعدا بغد نوراني، ويحول التحدي إلى سلاح يدله على أعالي الكلام.

أعالي الكلام نزق طفولة سابتة في قلب رجل كهل خبر الدنيا وخبرته، ثارت من هول ما رأت، فبات ينظر إلى الأشياء بعين فيلسوف حكيم، وليس كما ينظر لها الغر الصغير.

التجربة تصقل المواهب وتجليها وتحولها إلى مهنة ينتقي الشاعر من خلالها ما عذب وطاب، ويبعد لهو الحديث، ولكنها لا تصنع المعجزات إذا لم يكن الإنسان مستعدا للمجازفة بآخر كلمة. فالكلمة كالحجارة ممكن أن تعرقل مسير عربة تحمل طعاما للفقراء، أو امرأة تكاد تضع وليدها ويكاد يقتلها الطلق، أو تتحول إلى نصل يقطع الرقاب، وممكن أن تتحول إلى صنم يعبد، أو بيتا يأوي مجموعة مساكين، أو إناء يشرب فيه إنسان مشرف على الموت عطشا، فتعود له الحياة.

الكلمة لذاتها ـ لدى ياسر العطية ـ "كالحطب لذاته، كلاهما عاطل، لا يهش، ولا ينش،

فإن أشتُغِلَ عليهما: تشابها". فياسر العطية يفهم الكلمة على أنها جذوة متقدة، منها ما يضيء دربا فيهدي تائها، ولذا انتقى من الكلمات أعلاها ومن الجمل أنقاها ومن المشاعر أوفاها، فصاغها قصائد وأهداها: "إلى شهداء العراق.. بيض الأيادي والقلوب في أرض السواد"، أهداها إلى الشهيد مصطفى العذاري بعنوان "بعيدا عن السماء"

756-SALIHالسلام عليكم

لم تكونوا هناك ـ قال للملائكة

والصديقين والأولياء

بعيدا عن سر من رأى

بعيدا عن العراق

حين تهاوى النسر الجريح

تخونه عاصفة

تضله

على الطريق إلى فالوجة

هناك ....ثمة كهوف ومغارات

أحراش سوداء داكنة وثعابين

هناك ....

حفنة من السحالي

تحيط بالنسر الجريح

وأهداها باقة شذية العطر، تتغنى بلحن الخلود؛ إلى روح العراقي المحارب علي سعدي النداوي، يردد فيها قول:

هناك في تخوم الأزل

عند بوابات الله الأوسع

أيها المحارب

الذي رأيته وقال فيه الشهود

إنه أول الجمع

صائلا

عن حمانا يذود

أيها الوطن الذي يبذر الأبطال

ليحصد البطولات.!

وأهدادها إلى كتل أخرى من الموجودات، حيث خرج من الشخصانية لينتقل بعيدا؛ إلى المجموع إلى الأمة التي هدها الوجع ليهتف:

سبعون عاما

وبيت المقدس مستلب

ولا

"طغى الخطب حتى

غاصت الركب"

يا ـ ـ ـ ـ أمة

حملت (أعرابها) خطئا

ولم تضع حملها

كي يعرف النسب!

سبعون عاما

عجاف

لا حراك لكم

حتى

تأقلم في صحرائكم الجرب

لفتية (الكهف) و(القطمير)

شاخت فلسطين والأعمام

سادرة

جيلا فجيلا

تنحى دونها الركب

تقاسموا المهر دولارا ومملكة

وسلموها بني صهيون تنتحب

بعدها تبدأ سياحة الشعر في صميم الوجدان، فيهدى كلماته العالية إلى بغداد، إلى العراق، إلى أخيه، إليك حتما، إلى كامل شياع، والى لا شيء

خمسة وأربعون آهة قلب مكلوم، أوجعت بقايا عمر شاعر، ضمها ديوان (أعالي الكلام) للشاعر الواسطي المبدع ياسر العطية، الصادر عن دار المرتضى العراقية بغلاف أنيق من تصميم الفنان المبدع بسام الخناق وبواقع (78) صفحة حجم نصف (A4) كإضافة إلى دنيا الشعر في العراق.

 

صالح الطائي

 

في المثقف اليوم