أقلام حرة

في استثمار الأسطورة الأميركية

mohamad aldamiعلى الرغم من أن جمهور المتابعين للسينما وسواها من الفنون المرئية في عالمنا العربي راح يسأم تنميط تفوق البطل الأميركي بوصفه بطلا لا يقهر، ولا يتوقف عن التطلع للمركز الأول، إلا أن للمرء أن يلاحظ بأن هذه الظواهر الأميركية جميعاً ليست على درجة واحدة من السوء أو من النظرة الدونية لسوى البطل الأميركي عبر العالم.

والحق، فان ما اود أن ألاحظه هنا هو أن هناك ثمة فوائد تربوية يمكن أن تستنبط مما أطلق عليه تعبير “الأسطورة الأميركية”، بمعنى أسطورة التفوق الأميركي الذي لا يقبل أن يدفع الى مرتبة ثانية أو أدنى. ومن أهم هذه الفوائد التربوية، كما أرى، هي غرس روح التحدي ورباطة الجأش ومواجهة الصعاب التي تقبع على طريق المرء في بحثه عن التفوق، وهي روح الإصرار وعدم الاستسلام “للأمر الواقع” أو “للدونية”. لذا راح المثل الأميركي الشائع يقول: “حاول، حاول حتى تنجح نهاية المطاف”. وعلى الرغم من ركاكة ترجمتي لهذا المثل الشائع هناك، إلا أن المعنى النهائي له متاح وقابل للفهم والإدراك، بقدر تعلق الأمر بفكرة عدم استسلام المرء “للأمر الواقع”، مهما كان محبطاً.

يرتكن جوهر الأسطورة الأميركية التي يثابر الإعلام، سوية مع الثقافة الشائعة، على تكريسها وغرسها في دواخل نفوس الشبيبة يتجسد في وجوب أن يكون ما هو أميركي، هو الأول في ترتيب سلم التفوق. هذا ما يجعل العقل الأميركي ينزعج كثيراً حد العصبية عندما يتحدى أحدهم تفوقه أو ينافسه. وكمثال عما اقول، نلاحظ بأنه حتى تسعينيات القرن الزائل لم تكن لدى الولايات المتحدة فرقاً جيدة لكرة القدم، الأمر الذي كان يفسر لوذ الأميركان بالتبرير بأنهم يستعيضون عن كرة القدم الشائعة في “العالم القديم” بصيغة كرة قدم خاصة بـ”العالم الجديد” أي لعبة كرة القدم الأميركية، وهي لعبة مختلفة عما شاع لدينا تحت نفس العنوان. لم يدم هذا الأمر طويلاً، إذ دخل الأميركان هذا الحقل بكل قوة وعنفوان، وما هي إلا بضعة أعوام، وإذا بهم ينافسون أقوى دول العالم في لعبة كرة القدم للفرق الرجالية والنسائية، وهم يتطلعون اليوم الى كأس العالم رغم أنف البرازيليين والألمان!

هذا مثال واحد فقط من قدرة “الأسطورة الأميركية” على التوليد وحث الدافعية التي تجعل المرء لا يقبل أو يسكن الى المرتبة الثانية أو الدنيا، لأنه يتطلع فقط الى المرتبة الأولى فقط، وإلا فلا. وهكذا كانت الفكرة، وملخصها أن “كريستوفر كولومبس” مكتشف أميركا إنما يوازي “آدم” ابو البشر في العالم القديم، لأنه هو الإنسان “الأميركي الأول” الذي لولا وصوله الى بر أميركا لما اكتملت دائرية الأرض. لذا يكون كولومبس أباً لبشرية جديدة، بشرية تختلف عن بشرية العالم القديم الذي ينتسب لآباء ولأجداد الذين يسرد ذكرهم في الكتب المقدسة والتواريخ فقط.

للمرء أن يطري هذه الصفة “الأميركية”، اي صفة التوثب للمركز الأول، وصفة مطاردة فكرة الإنسان الجبار أو “السوبرمان” حتى الظفر بها أو بما يقاربها. صحيح أن تكرار الأسطورة الأميركية عبر الشاشات والفنون يدعو الى الانزعاج بل والغثيان أحياناً، إلا اننا، تربويين، لاينبغي أن نشجع شبيبتنا ونشأنا على العزوف عنها، نظراً لأنها قادرة على تدوير محركات التفوق والتطلع في دواخلهم من خلال استفزاز بواعث التفكير الإستثنائي، بل والتفكير الإبداعي، من العيار “الملحمي” Think Epic، كما يقول الأميركان!

 

أ.د. محمد الدعمي

 

في المثقف اليوم