تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

أقلام حرة

إنهم يتجاهلون العِبرة .. إنهم لا يتعظون

ahmad mohamadjawadalhakimإنهم العديد من البشر، لكننا نقصد هنا فئة محددة، هي فئة المسؤولين عن مصائر الناس، قيادات في المجتمع، من كبار القوم، الذين لا يتعلمون مـــن دروس الماضي، لذلك تتكرر أخطاء السابقين عندهم، في الحاضر وربما في المستقبل، فتصيبهم الضربة تلو الضربة، والعثرة بعد العثرة، فيكلفهم هذا الأمر، كما يكلف المجتمع، كثير من الخسائر المؤلمة في الأرواح والأموال وغيرها التي تؤخر تقدم المجتمع كثيراً. يؤكد ذلك هيجل في كتابه فلسفة التاريخ بقوله: " ولكن ما نتعلمه من الخبرة والتاريخ هو أن الشعوب والحكومات لا تتعلم شيئاً قط من التاريخ، ولا تتصرف أبداً وفقاً للمباديء المستنبطة منه". لذلك نجد دعوات لا حصر لها تطالب بدراسة ما حلّ بالأمم السابقة من قوة وضعف، وما فعلوا، وما أصابهم من خير وشر.فضلاً عن كشف مواقع أخطاءهم، والتعرف على الأساليب غير الأخلاقية التي اتبعها قسم منهم في سبيل الوصول إلى غاياتهم ومآربهم.

فالقرآن الكريم مليء بذكر قصص الأولين وفي المطالبة بأخذ العبرة منهم، إذ يقول الله تعالى، على سبيل المثال: (فاعتبروا يا أولي الأبصار) الحشر/2، أضف إلى ذلك فإن كتب التاريخ وغيرها تعج بالأحداث والأمثال وسير القيادات والتجارب والخبرات إلخ.لكن السؤال الهام هو لماذا لا يتعظ الكثير، بخاصة من يكونوا في مواقع مؤثرة في المجتمع، مع وجود عدد كبير من العبر؟ كما يقول الإمام علي(ع): " ما أكثر العبر وأقل الإعتبار ". يمكننا حصر أسباب تجاهل العبرة أو قلة الاعتبار في ثلاثة عوامل.

العامل الأول، إهمال قراءة التاريخ أو قراءته دون تعمق، دون تحليل. لأن هناك من يعتقد أن دراسة التاريخ ليس لها قيمة تربوية، وليس لها علاقة أو تأثير على الحاضر والمستقبل، فضلاً عن ذلك يعتقد أن أحداث التاريخ لا يشبه بعضها بعض. غير أن مقارنة دقيقة بين الوقائع والأحداث الماضية والحاضرة تثبت أن هناك تشابهاً بين الأحداث، لكن ليس تماثلاً أو تطابقاً، لأن التشابه يختلف عن التطابق. فالتشابه بين شيئين هو اتفاقهما من وجوهما الأساسية، كما هو حال تشابه الأشكال الهندسية في الرياضيات، بينما التطابق فإنه يعني التماثل والتساوي بكل شيء . لكن هذا التشابه بين الأحداث لا يعني أن التاريخ يعيد نفسه بالضبط، إنما الذي يحدث ويتكرر دائماً في التاريخ هو استمرار جوانب أساسية من ظروف الحياة متمثلة بالصراع بين كل من الحق والباطل، الصواب والخطأ، الفضيلة والرذيلة، الخير والشر، المحبة والكراهية، إلخ. كما أن استعمال الأساليب الملتوية، أساليب الحيلة والخداع والمكر والكذب والغدر ونقض العهد والخيانة والنفاق والمصانعة والمداهنة والاطراء والتملق، وتبرير الفشل وغيرها، في تحقيق الأهداف والغايات، لا زالت قائمة أيضاً تجدد إنتاجها على الدوام، ويتكرر ظهورها بصورة أو أخرى على مدى التاريخ. وبذلك تكون تصرفات البشر أزاءها متشابهة تقريباً، أي ما يسمى وحدة التصرف البشري، بمعنى تشابه الأحداث، ويبدو كأن التاريخ يعيد نفسه.وقد بين الله سبحانه، هذا التشابه، بين كلام السابقين واللاحقين في القرآن الكريم بقوله: (كذلك قال الذين مـِن قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم) البقرة/118.كما أن الإمام علي(ع) يبين ذلك أيضاً بقوله في كتاب له إلى الحارث الحمداني: " واعتبر بما مضى من الدنيا، ما بقي منها، فإن بعضها يشبه بعضاً ".ويسير بالاتجاه ذاته المفكر ليفي ستروس في مقالة له في كتاب "العقل" بقوله: " إن أهواء البشر تتشابه عند النظر إليها عبر آلاف السنين .فالزمان لا يضيف شيئاً ولا يسحب شيئاً من الحب أو الحقد الذي عاناه البشر، من التزاماتهم، من كفاحاتهم وآمالهم، اليوم وفي ماضي الزمان، لا تزال هي نفسها".

وكمثال حي على وحدة التصرف البشري، ونحن شهوداً على ما جرى، في عهود سابقة متعددة مختلفة، هو مظاهر تعليق صور القيادات الممتلئة في الشوارع، وهذا الكم الهائل من الشعارات والأهازيج والأناشيد (التي لا نعرف هل هي دينية أم تتصل في الطرب) والأغاني والاستعراضات والاحتفالات، هذا من جانب. ومن جانب آخر نجد الصراعات والتنافس غير المنضبط، غير الحضاري، بين الأحزاب والفئات والكتل وغيرها لا زال يتكرر بصوره السابقة.فلا أحد أخذ عبرة من أحداث الماضي ولا هناك من بحث عن نتيجة تلك المظاهر السابقة المؤلمة.

العامل الثاني، الغرور وعناد البعض وكبريائهم واعتدادهم وثقتهم العالية بأنفسهم وبآرائهم، وأنهم يسيرون دائماً على الاستقامة، واعتقادهم أنهم أذكى من الآخرين وأن رأيهم هو الصواب وغيرهم عين الخطأ، فهم بهذه الحالة يرفضون ليس فقط أخذ العبرة من السابقين، إنما يرفضون أي نصيحة أو أي وجهة نظر أخرى، لذلك نجدهم ينفردون بقراراتهم، التي غالباً ما تكون خاطئة، كما تسبب كثير من المآسي والكوارث.

وقد وصف هذه الحالة خير وصف العالم أبو نصر الفارابي بقوله: " وأن يعلم أن للرؤساء همماً ينفردون بها عمن سواهم من الناس، وهي أنهم يعتقدون في جميع من دونهم الاستخدام والاستعباد، وفي أنفسهم الإصابة في جميع ما يأتونه".

العامل الثالث، اعتقاد الإنسان أن الطريق الذي يسلكه، جديداً، لم يمر به أحد من قبل، لذلك فهو يتجاهل نتائج الطرق السابقة . أي أن العبر والأمثلة السابقة لا تنطبق عليه، لأن أساليبه جديدة مختلفة .وقد وصف هذه الحالة وصفاً دقيقاً، عالم الفيزياء، آينشتاين، بقوله: "إن الناس لا يتعلمون من دروس الماضي إلا القليل، لأن كل حماقة جديدة تتخذ شكلاً جديداً بالنسبة لهم ".

العامل الرابع، إنه ليس من السهولة استخلاص العبرة والعظة من الأحداث الماضية، فقط من كان له عقل واع راجح وبصيرة نافذة وحكمة، يستطيع القيام بذلك ويخرج بفوائد جليلة تعينه على قهر المصاعب التي تعترض سبيله، وترشده إلى النهج السوي الذي يحقق أهدافه وغاياته، متجنباً الأخطاء والعثرات. ولهذا يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع): " رحم الله امرأً ً تفكر فاعتبر، واعتبر فأبصر"، وكذلك يقول: " ومن تبينت له الحكمة عرف العبرة".

وبعد سرد بعض أسباب ظاهرة تجاهل العبرة والخبرات السابقة، لابد من البحث عن علاج وحل لهذه الظاهرة . أحد الحلول هو قرآني، بينه الله تعالى في القرآن الكريم وشدد عليه، ألا هو القيام بعملية نفسية هي " التذكير" المستمر، فيقول جل جلاله: (وذكـّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) الذاريات/55، أو (فذكـّر إنما أنت مـذكّر) الغاشية/21. لأن البشر، بخاصة المسؤولين والمتنفذين، على ما يبدو، ينسون ويغفلون باستمرار، ينسون الماضي، كما ينسون معاناة الضعفاء والمحرومين والفقراء والمظلومين، لهذا فهم بحاجة إلى من يذكـّرهم وينبههم دائماً بذلك، كذلك لما أصابهم أو وقع لغيرهم من أخطاء كي يتخذوا الاحتياطات اللازمة والاحتراس من الوقوع بها ثانية، والدنيا مليئة بالعبر والأمثال.لهذا السبب اقترح تكوين رابطة للعلماء والمفكرين، على أن لا تكون تقليدية، وأن لا تكتفي بالندوات والمحاضرات ونحوها، إنما يجب أن يكون عملها تشخيصي للمشكلات والأخطاء التي تبرز في البلاد، ثم اقتراح الحلول الناجعة لها، من ناحية، ومن ناحية أخرى، وهي الجوهرية، الاتصال المباشر بالمسؤولين بإرسال هذه الحلول لهم، ومن ثم مقابلتهم شخصياً وتذكيرهم دائماً بالمشكلات والعبر والحلول.

وأخيراً لابد من الإشارة إلى أن الإنسان يستطيع أن يتجاهل العبرة، أي أن يكون بلا خبرة تاريخية، لكن عليه بهذه الحالة، أن يبدأ كل شيء من جديد، فيكون عند ذلك عرضة للوقوع في الأخطاء، وبهذه الحالة يجب عليه أن يتحمل مسؤولية أفعاله.

 

أحمد محمد جواد الحكيم*

باحث وأكاديمي

في المثقف اليوم