أقلام حرة

الإنسانية عبر تاريخها تكرم رجال التعليم ونحن

alkabir aldasisiما تعرض له الأساتذة المتدربون في المغرب من قمع يوم الخميس الأسود الذي صادف مصادقة المجلس الحكومي على مشروع إصلاح منظومة التقاعد جعل كل من يملك ذرة أنفة وعزة نفس يندد بالهجمة الشرسة التي لطخت الوزرة البيضاء (رمز الصفاء والعطاء) بالدماء ويتعاطف مع مطالبهم المشروعة، ومساهمة منا في إعادة الاعتبار لمنيري العقول نتقدم بهذا المقال محاولين من خلاله أبراز مكانة المعلم / الأستاذ ....

ونبدأه بمناشدة أطلقها أحمد شوقي في العقد الثاني من القرن الماضي وكأنه عاد للحياة وشاهد ما وقع ليلة الخمس الأسود عندما قال:

ناشدتكم تلك الدماء زكيّة ....... لا تبـعثوا للبــرلمان جــهــولا

وإذا ما تأمنا المهن والوظائف فإننا نجد أن مهنة التعليم من أكثر المهن التي أشاد بها المفكرون والعلماء وحتى و الأنبياء وصحابتهم، فقيلت في المعلم أقوال مأثورة كثيرة، منها قول الرسول (صلعم) " إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النمل في جحرها وحتى الحوت في جوف البحر ليصلون على معلم الناس الخير " وشبه علي بن أبي طالب العالم بالنخلة دائما (تنتظر متى يسقط عليك منها شيء) ومنهم من وضع المعلم في مكانة الأنبياء والرسل، وألبسوه من الصفات ما لم يوصف به غيره، فرأى فيه البعض طبيب المجتمع، الواقي من الأدواء والشرور، يبني العقول التي بدونها لا مستقبل للإنسانية لما له من قدرة على تحويل الظلام إلى نور، وتنوير العقول، له دائما أكثر مما يقول، وقد أفاض الفكر النهضوي في العالم العربي في الحديث عن أهمية العلم ووظيفة المعلم في إصلاح أحوال البلاد والعباد، باعتبارهم العلم الوسيلة الوحيدة لإخراج الأوطان من التخلف، وإنقاذ البلاد مرهون بدور المعلمين وأهل العلم يقول الشاعر المغربي محمد السليماني:

بني العلم الرعاة ألا أفيقوا ++++++ فإن الشاة في وسط الذئاب

ولسنا هنا بصدد مناقشة أهمية العلم ووظيفة المعلم في الحياة وإنما همنا رصد بعض ما صدحت بها حناجر الشعراء في حق المعلمين في وقت باتت فيه صورة المعلم صورة مضببة وباهتة.

لعل من خير ما قيل في المعلم شعرا ما نظمه أمير الشعراء أحمد شوقي (توفي أحمد شوقي في 1932م) عندما قال:

قم للمعلم وفّـــــه الــــتـــبجـــيلا ××××× كاد المعلم أن يكون رسولا

أعلمت أشرف أو أجلّ من الذي ×××××× يُبـــني ويُنشـــئ أنفسا وعقولا

الجهل لا تحيا عليه جماعة ××××××× كيف الحياة على يدي "عزريلا"

وإذا المعلم ساء لحظ بصيرة ×××××××× جاءت على يده البصائر حولا

وإذا أصيب القوم في أخلاقهم ++++++++ فأقـم عليهم مأتـمـا وعويلا

ناشدتكم تلك الدماء زكيّة +++++++++لا تبـعثوا للبــرلمان جــهــولا

فجعل من المعلم أشرف وأجل البشر وسما به إلى درجة الرسل (كاد أن يكون رسولا) لذلك فهو يستحق التقدير والتبجيل..وذلك ما أكده الشاعر الجزائري محمد العيد آل خليفة، الذي انبرى للدفاع عن المعلم في وجه من يحتقر مهنته معتبرا المعلم المسؤول على خلق وشحذ الطاقات التي تحتاجها البلاد يقول:

أرى جلّ أصحابي ازدروا بوظيفتي ×××××× وقـــالوا: هــمــوم كــلها ووجائع

وقد زعموا عمري مع النشء ضائعا ×××× وتالله، ما عمري مع النشء ضائع

سيروون عني العلم والشعر بُرهة ××××××× وتطلع للإسلام منهم طلائع

فمنهم خطيــب حاضـر الفكر مصقع ×××××× ومنهم أديب طائر الصّيت شائع

ومنــهم ولــــوع بالقــوافي لفكره ××××××× بــدائه في تـــرصــيفها وبــدائع

ومنــهم زعيم للجزائر قائــــــد ××××××× لــه في مجــالات الجـــهاد وقـــائع.

وإذا كان المعلم قادرا على فعل كل ذلك فإنه يفعله بإخلاص وتفان في العمل، لأنه على استعداد لأن يحترق من أجل إسعاد الآخرين وإنارة طريقهم قال أحد الشعراء في المعلم داعيا له، وواصفا المعلم بأحسن النعوت وأفضل الشمائل :

يا شمعة في زوايا "الصف" تأتلق ×××× تنير درب المعالي وهي تحترق

لا أطفأ الله نوراً أنت مصدره ××××××× يا صادق الفجر أنت الصبح والفلق

أيا معلّم يا رمز الوفا سلمت ××××××× يمين أهل الوفا يا خير من صدقوا

لا فضّ فوك فمنه الدر منتثر ×××××× ولا حرمت، فــمــنك الخـــير مندفق

ولا ذللت لغرور ولا حليف ×××××× ولامست رأسك الجوزاء والأفق

يد تخط على القرطاس نهج هدى ×××××× بها تشرفت الأقلام والورق

تسيل بالفضة البيضا أناملها ××××××× ما أنضر اللوحة السوداء بها ورق

بل أكثر من ذلك وجدنا من الشعراء من يعتبر المعلم أصل كل فضيلة في المجتمع كما تجلى في قول عبد الفتاح غازي في قصيدة "أنت المعلم " من ديوان "شمس لا تغيب"

فاعلم أنك أصل كل وجودها ×××××× هو فيض علمك شاع في الأكوان

أنــت المعلم أصــل كل فضيلة ××××××× أنــت الإمــام سبقت بالإحسان

وقال في قصيدة أخرى يخاطب ابنته ومن خلالها كل الأطفال والشبان بضرورة الإحسان للمعلم لما له من أفضال على النشء يقول في قصيدة ( لا يا بنتي)

ولتحسني صنعا أيا ابنتي ×××××××× لمعلم في رقة وجنان

يعطيك أعظم سلم للمرتقي ×××××× بالعلم ترقى همة الإنسان

لا تجحدي لمعلم أفضاله ×××××× فالشمس لا تخفى بالغربال

كثيرة إذن هي القصائد التي خلدت فضل المعلم ومنها قول محمد الدومي الذي عدد بعض تلك الفضائل في قوله:

تبني العقولَ بإصرارٍ وتضحيــــــــــــــةٍ ×××××× فتستنيرُ على أفكارِها النُّسُـــــــــــــــــــــمُ

يا أيّها العَلمُ المعطاءُ، أمتُنـــــــــــــــا ××××× من دونِ رشدِكَ في غيٍّ فتنهـــــــــــــــــدمُ

للهِ درُّكَ كم علمٍ تعلمُــــــــــــــــــــــــهُ ××××× حتى تعافى على أنغامِهِ الفَهِـــــــــــــــــــــــمُ

فأنتَ فضلٌ لأقوامٍ لهمْ أمـــــــــــــــــلٌ ×××××× في الفكرِ تعلو وفي الآدابِ تُحتـَـــــــــــــــرَمُ

وأنت تسمو إذا الدنيا بهم عصفـــــتْ ××××××× رغمَ القيودِ وهولَ الخطبِ تقتحــــــــــــمُ

فتستنيرُ دجى الدنيا ومعقلُهـَـــــــــا ×××××××× بالعلمِ دوماً فيصفو العيشُ والدســــــــــــــمُ

لهذه الأدوار وغيرها اعتبر المعلم/ الأستاذ كنزا يجب الحفاظ عليه، ولا مستقبل لبلاد المعلم فيها محتقر ومهان قال أحدهم:

قل للأساتيذ أنتم كنز أمتنا ××××××××× بئس البلاد بها الأستاذ يحتقر

هكذا رأى معظم الشعراء المعلم : الإنسان الباني، المنير المستنير، الهادي، بل المنقذ إذا ما عصفت الأهوال بالناس والأمم استمع لشاعر يخاطب معلما:

فأنتَ فضلٌ لأقوامٍ لهمْ أمــــــلٌ ×××××× في الفكرِ تعلو وفي الآدابِ تُحتـَـــرَمُ

وأنت تسمو إذا الدنيا بهم عصفــــتْ ××××××× رغمَ القيودِ وهولَ الخطبِ تقتحــــمُ

فتستنـــيرُ دجى الدنيا ومعقلُهـَـــــا ××××××× بالعلمِ دوماً فيصفو العيشُ والدســمُ

ومن الشعراء من نظم شعرا ليعترف بتأثير المعلم على حياته وكيف كان المعلم سبب كل ما حققه من نجاحات.

لــولا المعلم ما قرأت كتابـــاً ******* يوما ولا كتب الحروف يراعي

فبفضله جزت الفضاء محلقا ******* وبعلمه شق الظلام شعاعي

ولأن معلما هذه صفاته وفضائله، فإنه حظي بمكانة هامة عند الشعراء والمفكرين وعامة الناس، فدعوا إلى تحيته والوقوف تقديرا له لأنه باني الحياة، بل اعتبروه سيد الدنيا، قال شاعر:

حيُّوا المعلمَ ما دامتْ عزائمُــــــــهُ ××××××××× تبني الحياةَ وفيها المجدُ يُغتنَـــمُ

هــو المنارُ إلى الدنيا وسيِّدُهـــــا +++++++++ ورائدُ الركبِ في التعليمِ والعَلـــمُ

لكن، مقابل ذلك الزخم الهائل من الأشعار والأقوال المأثورة في فضل المعلم، يلاحظ أن مادية العصر، وما يمثل المعلم /الأستاذ من تنوير في للعقول فقد سعت أياد خفية كثيرة إلى تشويه سمعته وصورته بالمتخلي عن رسالته النبيلة، والجاري وراء الماديات في عصر يعاني أزمة قيم فألفوا حوله النكت، والحكايات الهزلية مما أهل عامة الناس، وخاصتهم، يغيرون من نظرتهم للمعلم، فغدا محط سخرية و تهكم، ينظر إليه باستصغار وتوصف المهنة باحتقار، فبعدما كان الأطفال المتعلمين بتطلعهم رمزا للبراءة، أضحى عدد من الشعراء يرون فيهم موزا للبلادة فها هو شاعر يرى فيهم بهائم يستحيل تعليمها، والمعلم يقف عاجزا عن أداء مهمته يستجدي عطف الناس لأن تعليم البهائم فوق طاقته وهو مجرد بشر وليس رسولا يقول:

دَفَعُوا إليْه بهائِمًا وَعُجُولا ×××××× ليُقيمَ مِنها أنْفُسًا وَعُقُولا

يا قَوْمُ رفقًا بالمعــــلِّمِ إنَّهُ ××××× مِنْ جِنْسِكُمْ بَشرٌ وَليْسَ رَسُولا

وذاك شاعر آخر يرى في التلميذ المتعلم حمارا لأنه لايستوعب ما يعلمه إياه المعلم فيخطئ في تطبيق القواعد اللغوية يقول :

فأرى "حمارا" بعد ذلك كله ×××× رفع المضاف إليه و المفعولا

ولم تقتصر هذه النظرة على الشعراء بل تسللت إلى المعلمين أنفسهم ففقدوا الثقة في أنفسهم ، وأمسوا يحتقرون مهنتهم، ويعتبرونها مصدر مشاكلهم، وسبب تعاستهم تدفع بعضهم إلى الانتحار، وهذا المعلم والشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان ( ولد في نابلس بفلسطين في 1905م و توفي في الثاني من ماي سنة 1941م). يعارض قصيدة أحمد شوقي، فلنستمع إليه كيف جعل من وظيفة التعليم أم المصائب منتقدا تعظيم شوقي لشأن لمعلم يقول:

شوقي يقول وما درى بمصيبتي: ×××× "قم للمــــعلم وفّه التبجيلا"

ويكاد يقلقني"الأمير" بقوله: ×××××× "كاد المعلم أن يكون رسولا"

لو جرّب التعليم شوقي ساعة ×××××× لقضى الحياة شقاوة وخمولا

حســــب المعـــلم غمة وكآبة ×××××× مرأى الدفــــاتر بكـــــرة وأصيلا

مئة على مئة إذا هي صلحت ×××××× وجد العمى نحو العيون سبيلا

ولو أنّ في التصليح نفعا يّرتجى ×××××× وأبــــيك لم أك بالعـــيون بخيلا

لكن أصلح غلطة نـــحوية ×××××× مثلا وأتخذ "الكتاب" دليلا

مستشهدا بالغر من آته ×××××× أو"بالحديث" مفصّلا تفصيلا

وأكاد أبعث "سيبويه" من البلى ×××××× وذويه من أهل القرون الأولى

فأرى "حمارا" بعد ذلك كله ×××××× رفع المضاف إليه والمفعولا

لا تعجبوا إن صِحت يوما صيحة ×××××× ووقعــت بيــن"البنوك" قــتيلا

 

وهي نظرة تعكس الإحباط الذي أصبح يعيشه المعلم، وكيف تحول بين عشية وضحاها من شبيه الرسل وباني الحياة و ضامن ومكرس القيم الكل مقتنع ويقسم أن لا قيم في المجتمع بدون معلم:

عهداً قطعنا على علمٍ بأنفسنِــــــــــــــا ×××××× لولا المعلمُ ما دامتْ لنا قيــــــــــــــــــــــــمُ

إلى رمز التعاسة والمعذبين في الأرض ويكفيه غما أنه يقضي حياته في تصحيح ومطالعة دفاتر لا يستفيد منها شيئا:

حســــب المعـــلم غمة وكآبة ×××××× مرأى الدفــــاتر بكـــــرة وأصيلا

لكن رغم كل ذلك يكاد يتفق معظم الشعراء على أن في احتقار المعلم تهديدا صارخا وخطيرا لمستقبل المجتمعات العربية، مادام التطاول على المعلمين تمهيدا لسيادة الفساد والجهل ومن تم غياب الأمن وصفاء العيش كما يقول الشاعر :

ما كانَ إلا أباً للنشءِ محتضنـــــــــاً ×××××× لِمَ التطاولُ والبهتانُ والتهـــــــــــــــــــــــــمُ

إنَّ المعلمَ إنْ حُطَّتْ مكانتـُــــــــــهُ ×××××× سادَ الفسادُ وكانَ الجهلُ والنقــــــــــــــــــــمُ

وَعُكِّرَ الأمنُ في الدنيا وزخرفها ×××××× لا العيشُ يصفو ولا ساغتْ به اللقــــــــــــمُ

وهذا شاعر آخر يستنكر احتقار المعلمين ورجال العلم فيرى أن لا خير يرجى من بلاد المعلم فيها محتقر، عند قوله :

من بات يبني صروح العلم يرفعها ×××××× يسومه الكل طعنا ثم يصطبر

قل للأساتيذ أنتم كنز أمتنا ×××××× بئس البلاد بها الأستاذ يحتقر

وأنه مهما قدم للمعلمين فلن يوفاهم حقهم، ولن تجزى مآثرهم :

معلمَ العلمِ هل تُجزى مآثرُكــــم ×××××× وأنتَ تمحو ما قد أبلى وتبتسـمُ

في الختام يتضح إذن أن هناك تغييرا جذريا في منظومة القيم، ساهم فيه مادية العصر و عولمة القيم وتعدد الوسائط، مما غير في نظرة الناس لعدد من الثوابت ومن ضمنها نظرتهم للمعلم الذي لم يعد مصدر المعرفة الوحيد، بل يبدو للناس أن ما يقدمه المعلم في عالمنا العربي متجاوزا وبطرق عتيقة ووسائل متهالكة جعلوه موضوع النكتة ورمزا للقيم البالية المتجاوزة، وأثر ذلك على نفسية المعلم ووظيفته بعد أن سحبوا منه رسالة التربية وقصروا عمله في التلقين والتعليم، وبعدما كان يشكل القدوة، ويشعر بقداسة الرسالة التربوية أصبحت مهنة التعليم تشعره بتفاهته . لكن الأكثر غرابة هو أن التكيل بالمعلم / الأستاذ لم يقتصر على الجانب المعنوي بجعله محطة سخرية، بل تجاوز ذلك للتنكيل الجسدي بهجوم آلة القمع على وقفات الأساتذة السلمية للمطالبة بحق تضمنه لهم كل المواثيق الدولية والقوانين الوطنية منها دستور البلاد الذي يمنع المس بالسلامة الجسدية لأي شخص في أي ظروف ومن قبل أي جهة ويجعل التعذيب جريمة يعاقب عليها القانون،والأستاذ ليس أي شخص فهو رمز التضحية والعطاء

 

ذ. الكبير الداديسي

في المثقف اليوم