أقلام حرة

ماذا تعلمت من معمل الطابوق في خانقين

emad aliكنت طالبا مجتهدا حسب الزمان التي عشته وبمقياس الاجتهاد والذكاء لذلك الزمن، لانني لم يكن لدي شيء انشغل به سوى المدرسة وما فيها، من بيت كادح واب عتال وام ربة بيت. ولذلك اضطريت ان انتهز فرصة العطلة الصيفية كي اعمل في معمل الطابوق في خانقين، عسى ولعل انني احقق ما اريد واحصل على ما هو اقل ما يمكن من امنياتي في تلك الايام، ومن زمن بائس عشناه دون اية وسيلة تواصل، وحتى التلفون لم يصل الى بيتنا ابداعلى الرغم من وجود ايجابيات فيها ربما افضل من زماننا هذا .

و انا اعمل وتعمقت في فكر ما بين صاحب العمل ووالدي وكيف يمكن ان نعيش لو كان ابي كما هو صاحب العمل ولماذا لم يكن هو والدي ووالد صديقي الافضا حالا تقريبا، وكان اصحاب المعامل ايضا مختلفين في الصفات والتعامل مع العمال بناءا على اخلاقياتهم وصفاتهم وليس استنادا على الفكر والفلسفة التي طرحها واعلنها المفكرون اليساريون حول العمل والانتاج وفائض القيمة وعلاقة صاحب العمل بالعمال وغير ذلك من المعادلات التي تقاس بها العلاقة بين العامل وصاحب العمل، بل لكوننا من منطقة واحدة والفروقات الطبقية لم تكن كبيرة جدا، فاننا لم نحس بها بداية . وانا كنت مستغرقا في التفكير في هذا الامر عندما قررت ان اشتغل ولم يمانع اهلي بل فرحوا في قرارة نفسهم لما علموا بانني اخفف عنهم على الاقل مصروفاتي الخاصة (انني ساعدتهم في امور البيت ايضا) وكان هناك لنا جيرانا شيوعيا وله باع طويل في مثل هذه الافكار منذ نعومة اظافره، ولم يعمل يوما الا ويشتري باجرته كتبا وتعيش عائلته في فقر مدقع، وسُفرت عائلته في الثمانينات الى ايران لما سموهم بالتبعية الايرانية جورا وبهتانا وهو ولد في خانقين مع ابوه وامه، وللاسف مات هناك في طهران بحادث سير، وانا لحد الان مشتاق اليه والى نصائحه التي اعطاني اياه اكثر من ابي، لك الاسم الخالد يا جاسم . بينما انا كنت مستغرقا في امور وانا اعمل ووجدت ابن صاحب العمل وهو كبير في السن ويعيش في بغداد وهو مرتاح، وصعد من خلال درج المعمل واخذ مكاني وتكلم باريحية كاملة جاء ووقف وكانه يعلمنا كيفية العمل ونصح العمال بكيفية العمل وعدم التملص بعذر ما، وعندما اخذ مكاني لا لكي يساعدني بل لانه اراد ان يعلمنا هكذا يكون العمل مفتخرا بما هو عليه.

وكان الدرس الاول فيما بين الطبقة الكادحة والبرجوازية بمعناه النظري من خلال العمل على الارض واخذته من خلال العمل في معمل الطابقو، وفي ذلك اليوم بالتمام والكمال . ودخلت في عالم الفروقات الطبقية واسبابها، ودون ان اكون متعمقا في راي وكتب من رسخوا الكثير عمرهم لبيان ذلك، وكنت في عمر الرابع عشر وخصوصياته ولا يمكن ان تكون متفهما لما يحصل دون ان تكون لك ادنى فكرة عن ما تضمنه الحياة والناس. فشاهدت من العمال ايضا من كان يتملص بعذر واهي لكونه غير جدي في اي شيء في حياته وفي دراسته وعمله وهكذا خُلق، بينما شاهدت وتابعت الاخ جاسم كيف يعمل برزانته وهو كبير نسبيا الى عمرنا باكثر من عشر سنوات وكان لاعبا ويشبه اللاعب العراقي فلاح حسن لعبا وشكلا . وكلما تكلم اتى بمثل وحكمة وعبر ما يدور في خلد كل محب للطبقة الكادحة بشكل علمي وعملي واحسست به وبكلامه وافكاره وتوجهاته دون ان اعلم انه يطبق ما آمن به مما قراءه في كتب الشيوعية اطلاقا . كان محبوبا وله كل التقدير من جميع من كان يعمل هناك وهو من طبقتنا المعدمة . وبينما كان هناك من هو اعلى دخلا وافضل عيشا ولم يحصل على اقل نسبة من احترام الاخ العزيز جاسم الذي كثر العراق وكوردستان منهم في زمن الخير . لم يكن المعلمون في المدرسة فقط، بينما الحياة كانت تحوي في ثناياها وطياتها المعلمون العمليون الذي اخذنا منهم دروسا لا يمكن ان ننساها وقد آمنا بها فكرا وعقيدة وفلسفة .

اول درس في الطبقية بدات هنا، ومن ثم توجهت نحو ما تعمقت فيه نظريا، واني لم اترك شيء ولم ابحث فيه بما سمحت لي الوقت وما توفر لي من الكتب، ولم اترك الدين وشانه بل تعاملت معه عادة كما فضله ابواي لمدة قصيرة . فادركت ان ما نحن فيه ليس كما يقوله الوالدان، وان الحياة اعمق واعقد مما امنوا هم بها . وهكذا دارت الايام ولم اكتف بما تعلمته عمليا وتعمقت ووصلت الى الاقتناع الكامل بما هو الحقيقة في الكون وكيف هو البداية وا لتطور، وخط البداية من معمل الطابوق .

كان هناك عمل وعمال وصاحب العمل وفائض القيمة والفرق الطبقي والمعايشة العملية لما هو يثبته الفكر والفلسفة التي تهتم بها اليسارية على ارض الواقع، وانا دخلته وخضته في العمر الرابع عشر وهو الفرصة لطالب اعتبر مجتهدا في دروسه وله حياة بسيطة ومن عائلة فقيرة معدمة. فهذا فرض الخوض في عمق ما يجب ان انتهي منه، فيما هو حقيقة ما هي الحياة عليه من الناحية الفلسفية والايديولوجية وسرت معها لحد اليوم وكيف تغيرت الامورو تغيرت معها ولم ازل اعتقد بان هناك الكثير الذي بداته من معمل الطابوق ولم انته منه .

ما آلمني كثيرا هو عدم وجود الثقافة المطلوبة التي من المفروض ان تكون موجودة بين الطبقة الكادحة، وعدم معرفتهم بحالهم الا بعد فوات الاوان هو الذي مهد لبقاءهم تحت سيطرة اصحاب العمل، و امكانية اللعب عليهم بسهولة لعدم ادراكهم بمقاصد اصحاب العمل وحيلهم، وكذلك سهولة استغلالهم من اجل مقاصد خاصة بهم، عدا الخلافات التي تقع بينهم في حالات تكون فيها الثقافة واطئة، بينما العكس صحيح في المعامل والمصانع الكبرى والتي تفرض الثقافة اليسارية الشيوعية نفسها وتكون الوحدة الطبقية سمة لا يمكن التشتت بها الا بصعوبة . وكلما قل عدد العمال تختلف كيفية التعامل معهم مقارنة مع كثرة العدد التي تفرض نفسها انبثاق نقابة وتنظيم خاص بهم لما تفرضه مصالحهم وكيفية تامين مستحقاتهم وحقوقهم . كل هذا فيظل انعدام القانون او عدم متابعة ما يفترض ان يطبق من القوانين ذات الصلة، وكيفية منع الاستغلال باي شكل كان فارضا نفسه في كل مكان مهما كانت الحياة ومستوى الناس، وبالاخص لدى العمال من الناحية الثقافية والاقتصادية والاجتماعية .

مضينا وقتا في المحاولة لمعرفة الحياة وما فيها من الناحية الاجتماعية الاقتصادية والثقافية، وبما يخص الدائرة التي اهتميت بها من الطبقية وان ترعرت من بيئة وعائلة في اسفل الطبقة الكادحة، مع العلم ان مدينتي خانقين كانت تشتهر بانها صاحبة الثقافة العالية ومستوى معيشة الناس قريبة جدا من البعض، ولم تحس بالفروقات الطبقية الا عند التعمق او ما تراه من اولاد الطبقة الاثرياء التي لم تكن الا بعدد اصابع اليد في هذه المدينة خلال شبابنا، ولم يكونو من المسؤلين الحزبيين كما هو اليوم، بل كانوا من رجالهم او لهم الصلة بالسلطة ايضا لضمان مصالحهم ايضا .

 

عماد علي

 

في المثقف اليوم