أقلام حرة

معلم المدارس الخاصة

hamid taoulostدور المعلم في العملية التربوية والتعليمية، وما يقوم به من رسالة مهمة في تنشئة الأجيال وبناء الرجال، جعلته محط اهتمام الكثير من العلماء والأدباء والشعراء في تراثنا عبر العصور الماضية، لكن مكانته في الوطن العربي عامة والمغرب خاصة، قد عرفت، مع الأسف، تغيرا فيما كان يحظى به من رقي المرتبة وسموها في المجتمع، بفضل ما كان يقوم به من أدوار جليلة من أجل الإنسانية، سواء تعلق الأمر بالدور التربوي أساس المهنة والمتعلق بمحاربة الجهل والأمية، أو بالدور الديني وما يمس الجانب العبادي، أو الجانب المعاملاتي، أو الجانب الاجتماعي الذي يمس كل ما له علاقة بالمجتمع، وغيرها من الأدوار التي استحق عليها وبجدارة البيت الشعري "قم للمعلم " لأمير الشعراء.

فعلا لقد طرأت على قيمة المعلم ومكانته تغييرات شاملة، متأثرة بالتغيير الهائل الذي طرأ على القيم السائدة في المجتمع والتي هي خليط غريب ليس من السهل رصد مصدره، والتي ليست مكانة المعلم وحدها هي التي طرأت عليها تلك التغييرات، التي شملت مكانة كل الشرائح الاجتماعية، وبدون استثناء،التي عرفت تغييرا نحو الأسوأ داخل الجميع، حيث لم يعد القاضي ولا المحامي، ولا الطبيب، ولا المهندس، ولا الفلاح، ولا التاجر ولا إمام المسجد، أو خطيبه، ولا الصحفي، كما كانوا من قبل على تلك الصورة المثالية.

إلتقيت المعلمين المقتدرين الأكفاء بمناسبة ندوة تربوية، فكان لي خلالها معه هذا الحوار، الذي بدأته بالسؤال التالي : كيف هي أحوالك مع التعليم الخصوصي ؟ لاشك أنكم أهنأ بالا من مدرسي التعليم العمومي، وأكثر حظا منهم؟؟

فرد قائلا : مُخطئ تمامًا مَن يتصور أن نعيم وخيرات المدارس الخاصة يشمل كل المشتغلين بها من معلمين وإداريين وسواقة ومنظفين، وأنهم ينعمون جميعهم بما ينعم به ملاكها، الذين يغرفون الأموال الطائلة، مما تدره مداخيلها الوفيرة -المعفاة من المكوس والضرائب – التي كونوا منها الثروات والعقارات والسيارات الفارهة، وصنعوا بها الأسماء اللامعة، والشهرة الدائع، والسيرة المنتشرة، وواهم كذلك ومخدوع مَن يعتقد أن كادحي المدارس الخاصة، يتقاضون أجوراً سمينة، كرواتب شهرية نظير ما يبذلونه من جهد مضاعف وشاق في تربية وتعليم تلاميذ تلك المدارس الخاصة، بخلاف ما يشيعه مُلاكها من حالات التنعُم الكاذب الذي ينسبونه لمعلمي مدارسهم وكل العاملين بها، بينما حقيقة دخولهم جميعهم لا تتعدى دريهمات قليلة لا تسمن ولا تُغني من جوع، ولا تكفيهم لتوفير أبسط متطلبات العيش الكريم لهم ودويهم، ربما يقول قائل أني أبالغ أو أزايد، ويقول آخر، ومن يجبرهم على مثل هذا العمل الشاق والمضني، مقابل ذاك الأجر البخس ؟ ولماذا يقبلون بالعمل في مدرسة خاصة ذات أنظمة صارمة، وبلا عقد رسمي، ولا تأمين اجتماعي أو صحي، وتحرم العاملين بها جميع حقوق العمال، وتمنع عنهم كل الامتيارات، ولاشك أن الرد سيكون وبكل بساطة : أنهم مرغمون لا أبطال، ومضطرون للقبول بتحكم ملاك المدارس االجائر، وتعامله السيئ الظالم، ولأنهم هم أدرى بظروفهم، إذ أنهم إذا رفضوا تلك العروض ، فهناك مئات غيرهم من الشباب المُعدمين، ممن يقبلون بها، بل ويسعدون بها، ويستقطعون من وقتهم وصحتهم وأنفاسهم لأجل الحافظ عليها، حتى يظلوا متوراين بين الخلائق من وجع البطالة، التي تقود أصحابها للفقر والاستدانة وسؤال الناس، لكي يجدوا ما ينفقوا منه على أنفسهم وأهليهم ..

قاطعت محدثي ممازحا : لكنكم ضاربين يديكم في السوايع !!

لاشك أنك ستصاب بالحزن والعجب معاً، إذا عرفت أن بعض مُدراء المدارس الخاصة، وملاكها، يأخذون نسبة مالية من إجمالي دخل الدروس الخصوصية التي يلجؤ إليها المعلم لزيادة دخله وتعويض حالة الحرمان والفقر، دون احتساب الهدايا والعطايا التي تقدها لملاك المدارس كي يُسمح لهم بإعطاء تلك الدروس، لأبناء الأثرياء، على اعتبار أنهم ملك للمدرسة .

تأثرت كثيرا لوصف محاوري لحالة معلمي المدارس الخاصة، وما يعيشونه من معاناة، وحاولت أن أواسيه وأخفف عنه، لكنه قاطعني قائلا : بلاتي، نزيدك أن ما يعيشه معلمو المدارس الخصوصية من ضعوط نفسية خطيرة، وصلت ذروتها مع نهاية كل عام دراسي، حيث تتوقف رواتب أغلبهم خلال الإجازة الصيفية، فلا يتقاضون مرتباتهم إلا مع بداية العام الدراسي الجديد، إذا جُدد تشغيلهم، ولم يعوضوا بمن هم أرخص ثمنا وأكثر خوفا وأكثر طاعة وأكثر عبودية، ما يولد لدى الكثير منهم، حالة القلق الكبير الذي يسلبهم التركيز الذهني، العنصر الرئيسي في الرسالة السامية الإبداعية، التي لا تقدر بثمن ..

اعتذرت لزميلي في الحرفة التي مارستها مدة 32 سنة، عن تقليب مواجعه باسئلتي، وشكرت له صراحته وتمنيت له وعبره لكافة رجال التعليم مزيدا من الصبر من أجل تأدية رسالتهم السامية في ظل ما يواجهونه من صعوبات ومشكلات وهموم تثقل الكواهل، وختمت حواري بقولي : ويكفيكم اهتمام الشعراء والأدباء، ودعوتهم لاحترامكم وتبجيلكم وإكرامكم كما في أشعار أحمد شوقي، والتعبير عن همومكم كما فعل ابن خلدون وابن سينا وابن سحنون والجاحظ، وإبراهيم طوقان ومحمود غنيم ..

 

حميد طولست

في المثقف اليوم