أقلام حرة

وافق شن طبقه

hamid taoulostمقالة كتبتها يوم كنت مستشارا بجماعة المشور فاس الجديد، قبل أزيد من عشرين عاما، أعيد نشرها ليعلم صديقي "مستشار المشور فاس الجديد، الجديد أن المجالس في الهم سواء، ربما مند أول تجربة في هذا الميدان، وهذا لا يعني الاستسلام للإحباط، بل المتابرة لتغيير الأوضاع بكل الطرق التي أباحها صلى الله عليه وسلم لتغيير المنطر : باليد أو اللسان أو القلب والذي هو أضعف الإيمان ..  

لم يدخل المقهى هذا الصباح شخص عابسا بائس يائس مثلما دخلها أحد المستشار الجماعين .. مثقلا بالهموم، محملا بالأحزان إلى درجة الإشباع، يرزح تحت مسحة الاحباطات التي علت علاماتها على محياه، وتضمره نفسه من غضب وحنق وتذمر من كل ما حوله.

صاح في وجه كل من كان ساعتها في المقهى: بالله عليكم أليس بموجع أن يشعر المرء بوخز جحود مجالس جماعاتنا، ونكرانها الموغل في الألم، وهم يقابلون تطوعك وتفانيك في خدمة الناخبين بجحود فاضح، ويواجهون إهتمامك بمشاكل دائرتك، ومعايشة معاناة أبنائهم بنكران غامر، وأنت الذي لعبت مند توليك مسؤولية شأنها بكل جدية، لحل معضلاتها، بتقريب كل الخدمات الضرورية، الصحية والبيئية والاجتماعية، وتحسين أحوالهم، ودرعا لوجيستيا أساسيا لتحسين ظروفهم، ومصدرا قويا لتنمية أحوالهم، ومحركا فعالا لتغيير واقعهم، ومواجهة التحديات والمنزلقات التي ترهن حاضرهم ومستقبلهم، باختصار كنت أداة حقيقية لارتقاء محيطهم والمحافظة على حقوقهم من كل استغلال وعبث .. فلا أرى من المسؤولين ومجلس الجماعة إلا جزاء "سنمار".

هونت من روعه المستشار الجماعي، وكلي اندهاش من حاله !! وشجعته على الاستمرار في بوحه، لما في الحكي من سلوى، وفي الشكوى من تفريج للكرب، وحتى أعرف سبب حنقه الهائج .. قال صائحا هائجا: ماذا أقول ؟ لقد بلغ السيل الزبى.. ولم يتبق من مجالس الجماعات إلا الشكل والمظهر.. فلو أنك أردت أن ترسم بورتريه ولو تقريبي لها، فإنك لاشك سترتبك وتقع في ما وقعت فيه من حيرة ودوخة عارمتين، من كثرة علامات الاستفهام التي ستحاصرك كما حاصرتني، وغمرت كل من "عرى على الخويبية" وأطل على أحوالها من قريب .

 فبأي المنغصات تريدني أن أبدأ ؟؟ ومن أي الزوايا والأركان تحب أن أفتتح الكلام ؟؟.. فهي من خارجها مجالس شامخة، وبدلات سينيي، وسيارات فارهة، وحفلات راقية، ومهرجانات فنية رفيعة، وأفراح للصفوة بأكلات "السومون فومييه"، و "الكافيار" الروسي، ولحم النعام، والسمان، والزرزور المأكول بالسكين والشوكة.. فإذا حيدنا جانبا هذه الصور المخملية للمجالس، وتلصصنا من ثقوب أبوابها، لتجلت أمامنا حقائق أخرى غائبة أو مغيبة عن الكثير من الناس، ولتبد في كواليسها العارية من زيف الوقار، والهدوء المفتعل والابتسامات المصطنعة، حيث ينكشف المستور، وتنخلع ثياب الشعارات البراقة التي اعتبرناها بديهيات، في مرحلة ما من تاريخ وطننا، ساهم في ترسيخها لدينا بعض رجالات السياسة  بحسن نية، أو من أجل كراسي ومناصب..

ما يلفت الانتباه في مجالسنا عند تصفح كفها وقراءة فنجانها، أن قرفا مزمنا يعمها، وأعصابا مشدودة تحفها، وتحفزا دائما للاعتراض والمعارضة، وعصبية عارية مكشوفة تبلغ درجة الهستيريا مع أدنى انفعال للشجار والاستعداد الدائم للوصول بتلك المعارك الواهية إلى أقصاها حتى ولو لم تكن في مصلحة الساكنة، ومضرة بالبلاد والعباد.

إن مجالسنا تعاني من أنيميا حادة في التواصل، وجوع وفقر شديدين في التحاور، فاللغة بين مكوناتها مبتورة، واللسان أخرس، والأعصاب متوترة، يزيدها  تقوقع النفوس الضعيفة حلكة وظلاما، ويدفع بأكثرية المستشارين لإدمان الزيف والنفاق والضحك على النفس والغير. إلا من رحمه ربيه، واحترم نفسه، وأحب وطنه، وأخلص النية له ولمن وثقوا به وفيه، وألغى التناحر المصلحي من قاموسه، فليواجه الغربة مصيرا محتوما بين جهابذة التآمر والغش والتزوير والانتهازية..

جل مجالسنا شديدة الهشاشة، نخرة من الداخل، براقة من الخارج، بما تراكمت عليها من عوامل الفساد، فحولتها إلى كيانات تحضتر، أو تحيى بالكاد أزهى عصور تدهورها وإنحطاطها ... أما أكثرية مستشاريها المحترمين، فكل يحيى في غابته الخاصة، وبقانونه الخاص، وفوضاه التي يخلقها بيده ويد زبانيته ومعاونيه، فلا قيمة ولا حساب للوقت، ولا إخلاص في الواجب، ولا بر بالوعود والمواعيد، ولا أداء للأمانة. عبث وتلفيق وفبركة للأعذار، تبريرات بأحجام الفشل الذريع الذي تعرفه مهماتهم السامية ومسؤولياتهم الخطيرة التي لا يتحملها إلا (...) كما أصبح متعارفا عليه بين جل المستشارين وفي جل المجالس والتي تتغنى كلها  بالمستقبل الزاهر وإشراقاته، وهي تحرق الحاضر بكل تطلعاته... حيث تنازل العديد منهم عن كل القناعات، وعملوا على توظيف الإمكانات الفكرية والمهنية والعلمية في خدمة السلطة وكل ما يكرس في الذهنية الجماعية  الاستسلام والخنوع للوضع القائم..

  وأنا أستمع لهذ البورتري الكارتي، انتابنتي أفكار هوجاء اقتلعتني من سكوني وحطمت هدوئي.. وبعثرت أطيافا في زوايا عدة من ذاتي،فجدتني أناجي نفسي بما يجب أن يكون عليه العمل الجماعي وصفات القائمين عليه.. فبلغت بي الأمنيات مداها، والرغبات أقصاها، وتخيلت من يتولى شؤوننا المحلية، عضوا قويا صادقا أمينا ومخلصا وعلى استعداد كامل للتضحية بكل مخصصاته وامتيازاته المغرية؛ فليست العبرة في الفوز بمنصب مستشار جماعي، بل فيما يقدمه من إنجازات، لأن الأهداف السامية والنبيلة لا ترسمها إلا العقول النظيفة والمخلصة فيما يفيد المجتمع ويسعد الناس، العقول التي تستحقق منا كل التقدير والاحترام والدعم والمساندة..  وليس أولئك الذين يتنافخون شرفا بإدعائهم الدفاع عن الوطن والموطنين.. ويتباهون بكثرة اقتراحاتهم التي لا يتحقق منها على أرض الواقع أي شيء نتطلع إليه..

 فهل سمعنا يوما عن مستشار أو مجموعة منهم قدمت استقالتها احتجاجا على عدم تنفيد مشاريع تقدموا بها في دورات المجالس لإصلاح أحوال العباد .

ربما يقول قائل أنه قد لا يوجد من بين مستشارينا الجماعيين من يستطيع الإجابة على هذا السؤال رغم بساطته. لأن ذلك ليس بالأمر اليسير ولا المفروش بالورود ولا يقدر على الإقدام عليه إلا الوطني الغيور، والمتقين الواثق من نفسه وقدراته، أما ضعاف الشخصية فلا يراوحون أماكنهم ولا يتقدمون فتيلة لأن "الجود يفقر والإقدام قتال"، وأنه "لولا المشقة لساد الناس كلهم" كما يقال، وهؤلاء" لقاوها ساهلة ماهلة" كما يقول المثل المغربي...

 

حميد طولست 

 

في المثقف اليوم