أقلام حرة

خمسة أيام فنتازية هزّت برلمان حرامية!

qassim salihyكان خامدا من عشر سنين.. راض ومنتفع من كل شيء، اولها الفساد وثانيها المحاصصة.ولم يستجب لتظاهرات الناس في شباط (2011)، ولم يحتج على الحكومة يوم بعثت  أحد (مناضليها) ليعطي أوامره من فوق سطح العمارة المطلة على ساحة التحرير لضرب المتظاهرين.ذلك هو البرلمان العراقي المنعوت باقبح اهزوجة شعبية (نواب الشعب كلهم حراميه).وفجأة تحدث في خمسة ايام مسرحية من نوع (ما بعد اللامعقول).لأن المعقول هو الذي يقبله العقل وينسجم مع المنطق، واللامعقول هو الذي قد يهضمه العقل مع انه لا ينسجم مع المنطق، اما مابعد اللامعقول فهو الذي لا يقبله العقل ولا المنطق..وهذا هو الذي حدث في المشهد النيساني العراقي، لا في أول يومه حيث الكذب مباح، بل في الثاني عشر منه.ففي ذلك اليوم اعتصم اكثر من (170)نائبا في قبة البرلمان العراقي مطالبين باقالة الرئاسات الثلاث (البرلمان والحكومة والجمهورية).وتصاعد المشهد الدرامي ليعلن في اليوم التالي اقالة رئيس البرلمان ونائبيه، وتعيين رئيس برلمان..ليكون البرلمان العراقي برئيسين! بعد ان طعن رئيسه (المقال) بشرعية اقالته..الذي انتخت له عشيرته (الجبور) لتنذر وتتوعد..وكأن رئاسة البرلمان حق عشائري!، بل كان فيها تحذير ضمني لعشيرة (الجنابيين).. لأن الرئيس البديل كان منها! 

  وتعددت الرؤى وتناقضت في تفسير حدث هذا المشهد فمنهم من وصفه بانه: مهزلة، فوضى، رائحة نتنة، سيناريو معد في الخارج ليجري اخراجه في الداخل، طريقة مفبركة لتبييض الوجوه، لعبة خبيثة من كتلة دولة القانون للتخلص من رئيس وزراء لا يلتزم بأوامر رئيس كتلته، لعبة منافقين استيقظت ضمائرهم بعد عشر سنوات سبات وكان عليهم ان يبدأوا بتنظيف البرلمان من فاسديه ان كانوا صادقين، مباغتة لن تستمر طويلا، انفعاليون وحمقى ومثيرو فتنة داخل الطائفة الواحدة، فاسدون ويريدون تنصيب احد اللصوص والمجرمين لرئاسة مجلس النواب..فيما آخرون وصفوا الحدث بأنه: تحرر ارادة النواب من سيطرة رؤساء كتلهم الطائفيين، انطلاق ارادة عراقية جديدة، واستجابة وطنية من نواب شجعان لتحقيق شعارات المتظاهرين بالقضاء على المحاصصة وازاحة الفاسدين واعادة الاعتبار لشعب اهينت كرامته.

 وما لا يهضمه عقل ولا يستوعبه منطق أن نوابا من المعتصمين هم قبل يوم كانوا في نظر كثيرين:فاسدين، فاشلين، منافقين..اعتبروهم هذا اليوم وطنيين ابطالا وعفى الله عما سلف حتى لو كانوا متعاونين مع داعش، وحتى لو كانوا اعترفوا بانهم سرقوا ملايين الدولارات، وحتى  لو كان بينهن من كنّ حريم سلطان او من ماسحي اكتاف رئيس حكومة كانت هي الأفسد والأفشل في تاريخ العراق..فانه ينبغي الآن ان يقاسوا بالسواء مع نواب شرفاء استجابوا بصدق لصيحة شعب مقهور!، وماذا يهم ان كانوا هم يحملون الراية ما دام انهم يشاركون في ايصال قطار الاصلاح الى محطة الأمان،  فيما عدّ آخرون هذا الحدث والوصف عيبا وخزيا وعارا!.

 وفجأة، وفي اقل من عشرين ساعة يتغير المشهد الى نقيضه..يفشل اعتصام النواب (المئة والتسعين!)، ليعود كثيرون الى " بيت الطاعة" في احضان كتلهم ويصبحوا في السبت (16 نيسان) (125)، وتذهب مطالبهم مع الريح! ليعيد الريح نفسه وثيقة شرف المحاصصة مسنودة من اقوى دولة في العالم وصفت  جلسة مجلس النواب في الخميس بأنها..باطلة!!، ومصحوبة "بجرّة اذن لبنانية" من حزب الله لزعيم التيار الصدري باشارة ايرانية.وتتبرأ الكتل من نوابها الذين اعتصموا ووصفوا بانهم وطنيين، ليصبحوا خائني شرف وذمّة!..وعاد قطار الاصلاح في الاتجاه المعاكس مزهوا بانتصار يأمن اهله (المحاصصون) من خوف كانوا قد خبروه رعبا قبل يومين!..ليصلهم خبر عكّر مزاجهم..ان المتظاهرين يحاصرون الآن( الأثنين 18 نيسان) اربع وزارات ويطالبون وزراءها بتقديم استقالاتهم..وأن المشانق نصبت في ساحة التحرير!!

ان ما يجري في العراق هو (الخبل) بعينه، ولهذا الخبل العراقي  ثلاثة اسباب، الأول يتعلق بأربع سلطات دكتاتورية(أموية، عباسية، عثمانية، بعثية)انتجت سياسيين مضطهدين (بفتح الهاء) غير مستقرين نفسيا وانفعاليا، والثاني..وراثة العراقي لسيكولوجيا الخلاف مع الآخر مذ كان جده السومري هو الوحيد في زمانه الذي عدّ نفسه ابنا لألهه الشخصي وليس عبدا له، والثالث اصابة السياسي العراقي بمرض عصي هو برانوايا من النوع الذي يجبر صاحبه على رفع شعار (لأتغدى بصاحبي قبل أن يتعشى بي).

     وعلّة أخرى هي أن العراقيين ينفردون في طبيعة علاقتهم بالحاكم.فمنذ بداية تشكيل الدولة الاسلامية كان الخلفاء الراشدون يراعون العراقيين في التعامل ويأخذون اعتراضاتهم مأخذ الجد.وحتى قبل الاسلام،  كان العراقيون يوصفون بأنهم ما استسلموا لضيم وما رضخوا لظالم ولا انبطحوا لسلطة ولهذا كانت اعتراضاتهم على الولاة متكرره. ولدى الجاحظ تفسير علمي لاعتراضاتهم هذه بقوله:( والعلّة في عصيان أهل العراق على الامراء، انهم أهل نظر وذو فطنة ثاقبة، ومع الفطنة والنظر يكون التنقيب والبحث، ومع البحث يكون الطعن والقدّح والترجيح بين الرجال والتمييز بين الرؤساء واظهار عيوب الامراء..)وهذا ما فعله المتظاهرون والنواب المعتصمون الذين قالوا ان المحاصصة هي سبب البلاء والخراب وبؤس الناس، وان الفساد صيرتموه في زمانكم شطارة وذكاءا بعد ان كان خزيا وعارا..فاصلحوا ما ارتكبتوه من أخطاء وكّفروا عن خطاياكم.ومع أنهم،  اعني الحكام، يعترفون فانهم ما عمدوا الى اصلاح لأن السلطة في العراق علمت الحاكم ان يحيط نفسه بمستشارين يقولون له ما يحب أن يسمعه، وبما يبقيه في السلطة التي تزيده شرها في جمع الثروة، وتضخما في مرض الحاكم  العراقي..التباهي وتضخم الأنا، فضلا عن (حول ادراكي) طائفي يجبره على ان يرى انه وطائفته على حق مطلق والآخر وطائفته على باطل مطلق.

 وانتهى الفصل الثاني من مسرحية (ما بعد المعقول) وانفض الجمهور بين ساخر وصف المطالبة بانهاء المحاصصة هي أقوى صاروخ عراقي!، وآخر صور الشعب شخصا محنيا بارز الخلفية والحكومة ماردا واقفا وقد سددت اصبع يدها الاوسط الى مؤخرته،  فيما توعد آخرون بأن الفصل الثالث سيشهد ما يجعلكم تفكرون في عنوان آخر غير (ما بعد اللامعقول)..فانتظروا!

                       

أ.د.قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية  

 

في المثقف اليوم