أقلام حرة

التقاعد أو انتهاء الصلاحية

hamid taoulostالأعمار تبدأ وتنتهي إلى محطات لا محيد عنها، لكل محطة ما يميزها، بعضها يبدو تفاصيل تافهة صغيرة، لكن وقعها كبير، وتأثيرها خطير يربط أيامنا بوطأة ضغط المواقف المختلفة وإكراه الأزمات المتنوعة التي تجتاح حياتنا، فتدفع بنا لإعادة النظر في العديد من قناعاتنا الثابتة ومسلماتنا الموروثة، وتصوراتنا المكتسبة حول الأشياء والأشخاص والقيم. الحكمة في الخلق أن العمر يتقدم بالإنسان والأيام تتوالى وتمر. ويفاجأ المرء منا وقد إنفلتت من عمره السنون، وكأنها على صهوة مهر جامح متآمر مع القدر ضدنا، يقطع بنا فيافي الحياة صوب مواعيد قدرية تخترق الدروب من الطفولة إلى الشيخوخة، صعودا وهبوطا، سعدا وشقاء، نجاحا وإخفاقا، متوغلة في انحذار الأعمار المفضية إلى فراغات يصعب تحديدها أو تعريفها؛ فراغات حولت الوجود إلى سؤال كبير يقرع الوعي، ويستثير كل ما تجاهله الإنسان من شكوك وأوهام قبل لحظة النهاية، اللحظة التي تضيع فيها ملامح الزمان ويضيق النبض و المكان ويتبدد الحلم والأمل.

نعد الليالي والليالي تعدنا                والعمر يفنى والأيام في تزايد

وفي خضم الليالي المتلاحقة، والنهارات المتشابكة، وألوان الدهر المتعاقبة، يتمنى الكثير منا العمر المديد والطويل، لكنهم يرفضون أن لا يكون طول العمر رديف الصحة والحياة والتفاعل والذاكرة الحية، والغنى والاستغناء والرفعة والكرامة، و الأبناء  و الأصدقاء و الأهل و الأتباع الأوفياء..  يجد الواحد منا نفسه كما وجدتني فجأة في قلب اللحظة الجوفاء من حياتي، وقد تسلمت بيميني كتابا من مشغلي، جاف العبارات كفاتورة الماء والكهرباء، يصدر حكما خفيا بإعدامي، ويخبرني أنه طوي بموجبه قيدي وأني أحلت على التقاعد اعتبارا من كذا، ومرتبي المعاشي قدره كذا، ويصرف لي كذا. لم يشمل الخطاب الرسمي جدا، والبارد جدا والمقتضب جدا، أية عبارة تشجيع تشعرني بأني إنسان له فضل وكبرياء ويستحق كل الاحتفاء والإشادة والتقدير . لأن المجتمعات الرأسمالية الصناعية لا تعرف حرمة لأي عمر ولا خصوصية لأي  مرحلة ولا اعتبارا لأي قيمة غير قيمة الربح، و الغاية فيها عندها تبرر كل الوسائل مهما قست وإمحت عنها ومنها الإنسانية..

كان الظرف أقسى من أن يقاوم، تدافعت فيه أحاسيسي شلالات كاسحة ركام الذكريات،تزايد ضغط الإحباط مولدا المرارات الدفينة. سرت برودة الموت في أطرافي، لمعت عيناي بدمع هم أن يتساقط لولا تماسك الكبرياء. شعرت ِباللاجدوى وعدمية الوجود، وأنه لا شيء بقي كما كان غير ظلي المنطفئ، تملكتني السخرية من كل شيء حولي حتى من نفسي، ورأيت أن  حياة بلا ذاكرة ولا وفاء لا خير فيها، بل وتشكل أحد أقسى وأبشع المصائر البشرية، وأن الموت أفضل والقبر أأمن وأشرف من حياة شائخة سقيمة.

 تركت المكان وخرجت أجرجر الخطو مهزوما كفرخ مذبوح من قفاه، وأنا الذي طالما سول لي غروري أنه صعب هزيمتي، قبل أن تغتصب ضجة الحياة طموحاتي، وتغرق أصوات الزحام أحلامي، وينهكني الجري في متاهات الزمان بغير لحظة توقف أو تأمل.

 دسست الورقة اللعينة في جيب سترتي ودندنت بالسوسية لحنا حزينا من وحي التيه واللاملاذ                                    

(إخف إينو ماكيسلان، إخف إينو صبرنيتي)

ثم نقلتني الإحباطات واللاطمأنينة من الدندنة  بالسوسية إلى العربية وفي صمت مصطنع  فاضح، تغنيت برائعة الموسيقارفريد الأطرش

 عدت يا يوم مولدي                     عدت يا أيها الشقي

الصبا ضاع من يدي                    وغزا الشيب  مفرقي

أرغمني التيه والشجن على التجرء على انتاجات الفطاحلة فتصرفت في شعر المعتمد بن عباد وأخضعته لأشجاني وأنشدت .  

بالأمس كنت بالشغل مسرورا           فجاءك العيد بالتقاعد مقهورا

رجعت من سراديب الحزن إلى واقع مر لابد منه، حاملا رايات الإستسلام ليأسي وقلقي.. ألقيت جسدا أنهكه المشي في متاهات التفكر في وضعي الجديد، على فراشي، ودفنت نفسي تحت أغطية ناعمة نعومة الصبا والشباب الآفل مرددا مع قيس بن ذريح بيته الذي يفيض لوعة:

أقضي نهاري بالحديث والمنى           ويجمعني والهم بالليل جامــع

ندت من عيني دموع ساخنة بللت جفاف تجاعيد وسادتي وأطاحت بحلمي في الارتداد إلى الطفولة والنكوص إلى عوالمها

 

حميد طولست 

 

في المثقف اليوم