أقلام حرة

النص المثقف وبناء الدلالة في: نَجِي ليْلتي .. قصص قصيرة جداً لميمون حرش

mahmod benayadمدخل: تشكل القصة القصير جدا عند الأستاذ ميمون حرش طاقة سردية تفتتن بالشعر، والروايات والأخبار، والحكايات، والسينما بعدا ثقافيا وتناصيا يشحن النصوص بنسوغ فكرية وأسلوبية وخيالية غنية المرجعيات والتيمات دون التقيد بآليات معيارية مخصوصة، حيث اشتغاله على نقد البعد الزائف من القيم والأفكاروالمواقف والرؤى والأحاسيس بلغة لماحة تفجرالدلالة بأساليب سردية متنوعة تقبض على المعنى وتأسردلالاته عبرالإشارة والقرص والغمزوالتورية والكناية والرمز والإيجاز والتلويح والتهكم والإلغاز والتصويرالمشهدي اللماح .. إن نصوصه تضع نصب عينيها فعالية التلقي، وحياة النص بعد القراءة والتأمل ليحيا في نفوسنا إشكالا اجتماعيا وثقافيا وإنسانيا وحضاريا..، وفكرة تقض مضجعنا وتولد أفكارنا لتأويل منفتح على قراءات نقدية متعددة.

نصوص الأستاذ ميمون حرش هي كتابة البحث عن المشتهى من التأويل، وتحريك للعواطف والأحاسيس، ديدنها عوالم سردية تعتمد التكثيف وتفجير الدلالة؛ عينه فيها على العنوان قطب رحى، وخياله مع المعنى المعتقل بين ثنايا اللفظ والعبارة والفكرة آسرا لب القارئ بلغة قوية المأتى، متنوعة التراكيب، حمالة لثقافة أصيلة، وفكر متنور رافض لما اختل من قيم المجتمع وأحاسيسه ومواقفه وسلوكاته ..

سأعمل في هذه القراءة على مقاربة هذه التجربة من خلال الوقوف على خصوصيات القصة القصيرة جدا عند المبدع تحت عنوان " النص المثقف وبناء الدلالة " في أضمومته" نجي ليلتي" . وسأعمل على مقاربتها من خلال ثلاثة مستويات تتكامل وتتآلف في كشف جماليات النص وأبعاده الفكرية وبناه السردية التي تجعل منه نصا جديرا بالقراءة والاهتمام وتعميق مفهوم النوع الأدبي الذي تمثله.

 

1 - بناء الدلالة وفعل المثاقفة

تنوعت أساليب الكاتب الفنية في بناء معمار النص الجمالي والدلالي حيث تشدك منذ الصفحات الأولى لغة الكاتب القوية ببلاغتها وأساليبها المتنوعة التي تسترفد من التراث العربي معجمها وتراكيبها ومادتها الإبداعية لتطويع القوالب السردية، وهكذا يفجر أبعاد النص الرمزية عبر استثماره لطاقات النصوص الشعرية القديمة عن طريق التناص والأخذ واستعارة اللفظ أو الفكرة والدلالة لبنائها في سياقات جديدة حوارا وتهكما وتمطيطا وتداعيا والتقاطا وامتصاصا وتحويرا ..لخلق جدلية فكرية تقوي مرجعيات النص الإبداعية وتفتحه على آفاق التلقي الغنية بأبعادها الثقافية والمنهجية .

وهكذا نلفي في المجموعة القصصية غنى دلاليا في بناء المفارقة القصصية أو في ختم القفلة القصصية القصيرة، أو في تفجير الحدث أو وصفه أو إدانته، أو في بناء ملفوظاته فنيا لتوليد الدلالة والرؤيا التي تراوح بعدها بين الحس الواقعي والرمزي الإيحائي المنفتح على تأويلات نقدية تهب النص حياة أخرى، ويمكن التمثيل لبعض النماذج على الشكل التالي:

أ ـ التعبير عن دلالة " المسالمة والحال الجديد": يقول في مفتتح نصه " داخل قلبي ": من ذا يعيرني قلبه أعيش به، من ذا الذي يعيرني قلبا نبض دمه فرات وعن الشر والهم في سبات "، وهو يحيل على بيت قيس بن الملوح:

أسِرْبَ القَطا هَل من مُعيرٍ جَناحَهُ       لعلّي إلى من قَد هَوِيتُ أطيرُ

وأي قطاة لم تعرني جنــــــــاحها       فعاشَتْ بضَيرٍ والجَناحُ كَسِيرُ

وينهي نصه بقوله: " وإذا الدنيا كما نعرفها "، في إحالة على نص إبراهيم ناجي:

وإذا النور نذيرٌ طــــــالعٌ ** وإذا الفجر مطلٌ كالحـــريق

وإذا الدنيا كما نعــــرفها ** وإذا الأحباب كلٌّ في طريق

العبارة / الشاهد "و إذا الدنيا كما نعرفها " تقفل النص على تناص شعري لتقرير حال وواقع ثابت لا جديد فيه إلا تناسل الآلام وعدم مبارحتها للذات المكروبة عبر معجم دال (المقروح، شروري، عاريا، غادرة، فارغا..)

ب ـ الإدانة الثقافة: في نصه " اللقب " ينطلق المبدع من روح ثقافية بالمفهوم الفلسفي لمفهومه للجمال حيث عبرعن موقف الآخر المتهكم من جمالنا المعطوب من الداخل في قوله " حين بسمت أمطرت لؤلؤا من فقر دفين ليفجر الصدمة في آخر النص في قوله: " صحيح جميلة، لكنها معطوبة من الداخل" وهو تعبير يحيل على بيت يزيد بن معاوية ": وأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت ** ورداً وعضت على العناب بالبرد

الكاتب يعري زيفنا المقنع، ويقيم مقابلة دلالية بين مفهومنا الشكلي للجمال ومفهوم الآخر المخالف القابض على الجوهر مبدأ وشعارا ثقافيا يؤسس لمفهوم الجمال في الفلسفة الغربية القائم على أساس تجاوز الإدراك الحسي إلى إدراك أعمق الجوهر فيه جمال الداخل وليس الخارج حيث الإدراك الشعوري الذي يتحكم فيه الوجدان والعقل والروح في نفور من أي قبح لا يبعث على الرضا . لذا جاء الحكم على الجمال في آخر النص القصصي " اللقب " تنبؤا فطريا بأن جمال المتسابقة غير مكتمل إن لم يصفو جوهره قيما أخلاقية وجمالا روحيا، وإن ورى الدلالة بجملة " معطوبة من الداخل". إن سر رسالة السارد تعلن إبداعيا أن الجمال ينطلق من الداخل وليس العكس، وتذوقه يحتاج إلى تآلف العقل والروح والإحساس والعاطفة.

ج ـ التعبير عن الفحولة: في نص " اللعبة " يعبرعن رمزية الخيل المترادفة حيث الجموح العاطفي بين الإغارة والكر والفر المستمرفي معترك الحياة لعبة تلو الأخرى.

وهي إحالة على البيت المنسوب لامرئ القيس:

لاعبتها الشطرنج والخيل ترادفت ** ورخي عليها دار بالشاه بالعجل

دـ التعبير عن دلالة النشوة والصبابة: استحضار معجم الغيث إذا انهمر عبر نهاية ملغزة في نص:" آخر لقاء"، حيث يحضر روح ابن حزم رذاذا معجميا عبر تناسل ألفاظ" النشوة / الصب/ الإلف / اللقاء / الحشاشة.

ـ هـ ـ التعبير عن دلالة نشوة وهزة الفرح: السارد يستثمرفي نص " لو يعود " بيت أبي صخر الهذلي في الغزل الذي يقول فيه:

تكَاد يَدي تندى إِذا مَا لمستها ** وينبت فِي أطرافها الْوَرق الْخضر.

وَإِنِّي لتعروني لذكراك هــزة ** كَمَا انتفض العصـــفور بلله الْقطر.

ليقلب الموقف لصالحه وهذه المرة هي من تلامس ظهره بحنو ..هي من تطلبه وتطارده لعله يتجاوزعنها أخطاءها لكن الكاتب أبى إلا ينتهي المشهد نهاية سينمائية كلاسيكية " كما في الأفلام " ولم ينته المشهد نهاية رومانسية بل نهاية صادمة لعواطف الأنثى، كاشفة لقلقها وتمردها المسكوت عنه في الحذف النصي: ".. لو يعود لأخبره بما فعل بي " ال.." ..ظلت تتبع أثره بقية الأيام.." .

ـ والتعبير عن حالة ضيق الأفق وانحسار التفكير في الغرائز: ويتجلى ذلك في النص المفجر لدلالاته عبر العنوان " فوق وتحت " وهوعنوان مفتوح على أبعاد اجتماعية وأخلاقية يبوح بها النص عبرتفجير الدلالة الصادمة بمرجعية شعرية من نص امرئ القيس في سقوط الصخر" من عل" في قوله:

وَقَـدْ أغْــتَـدِي والــطَّـيْـرُ فِـي وُكُـنَــاتِـهَا ** بـمُــنْــجَــرِدٍ قَــيْـــدِ الأَوَابِــدِ هَــيْــكَــلِ

مِــكَــرٍّ مِــفَــرٍّ مُــقْــبِــلٍ مُــدْبِــرٍ مَــعــاً ** كَــجُلْـمُوْدِ صَـخْرٍ حَطَّهُ السَّـيْلُ مِنْ عَلِ

كَـمَـيْـتٍ يَـزِلُّ الـلَّـبْـدُ عَـنْ حَـالِ مَــتْــنِـهِ ** كَــمَــا زَلَّــتِ الـصَّـفْــوَاءُ بِــالــمُـتَـنَـزَّلِ

اللفظ قصير (فوق وتحت) لكن سياق النص يوحي بفظاعة بعض القيم الأخلاقية المنفجرة في آخر النص " سنظل مثل حفار القبور، همنا تحت، وليس فوق " وهي إحالة مشحونة بأبعادها الثقافية المعبرة عن ضيق أحلام بعض الناس، وكبتهم الفكري والنفسي، وانحسار تفكيرهم في الحواس والغرائز.

 

2 ـ منظومة القيم وشاعرية التناص

كثيرا ما يبني الكاتب منظومة قيمه إبداعيا عبر استلهام الإبداع الشعري والروائي والسينمائي العربي والغربي ليدخل في حواررمزي مع نصوص وأحداث ووقائع روائية وسينمائية، مستلهما بعض إشاراتها الفنية المؤثرة، وأبعادها الفكرية والإنسانية التي تصور أشكالا من الصراع الواقعي والأسطوري، أو من القيم الإنسانية البانية لأبعادها الفنية تلميحا وتصريحا حيث تصبح لبعض الألفاظ / الرموز دلالات كثيرة نظرا لانفتاح صورها على أبعاد اجتماعية وثقافية متعددة، ومن جهة أخرى تنفتح على ردود أفعالنا وانفعالاتنا مما يضفي على سحر الكلمة / الرمز بعدا سيكولوجيا يتجاوز المسلمة اللغوية المعجمية للفظة في سياق بناء قصصي قصير جدا ومن بين أمثلته يمكن أن نذكر النماذج التالية:

* بناء رمزية النص الإبداعي (" الحوت" ص: 6) عبر الإحالة على رواية هيرمان ملفيل(1811) " موبي ديك MOBY DICK، وهي رواية تؤسس للمشروع الأمريكي الإمبريالي، فتحكي عن الصراع التراجيدي بين حوت وإنسان لتصوير الواقع البشري، ومطلق العيش المرير الذي تكابده البشرية حيث ينتقل الصراع من مواجهة الحوت إلى مواجهة البحرفي مفارقة قصصية تؤزم الموقف وتعمق دراميته ومأساويته الرمزية في زمن القهر الاجتماعي والنفسي .

* استلهام روح رواية" زوربا" للكاتب اليوناني كازانتراكسالتي التي تصرعلى قيم الحياة والفرح لتجاوز الآلام، ومد الوجدان بأسباب الأمل للتماهي مع كل ما هو جميل وممتع.

*استلهام الحس الدرامي السينمائي الهيتشكوكي، إن صح التعبير، لبناء مشاهد درامية في تصوير كنائي يتداخل فيه الأخلاقي بالجنون. فالشخصية السردية في نص " الميت " عندما تحشر نفسها مع الميت في قول السارد: " يسبقهم، ويحشر نفسه في القبر"، فهي إما تستعجل الرحمة، أو أنها تعبر عن ضيق ذات اليد لدرجة انتهاز الفرصة لربح مصاريف الدفن، أو أنها يائسة من الحياة أو أن المشهد يعبرعن عين المخبرين التي لا تنام، أو أنها شخصية مجنونة إلى غير ذلك من مستويات التأويل التي تفتح النص على حياة نقدية جديدة.

* استلهام الفيلم المصري" الوسادة الخالية " الذي أخرجه صلاح أبو سيف سنة 1957 (بطولة عبد الحليم حافظ ولبنى عبد العزيز)، عبر نص قصصي مستفز يدفع القارئ للبحث في مضامين الأفلام لمعرفة دلالات بعض العناوين (الوسادة الخالية) وهي تحيل في النص على رمزية الرصاص الأجوف أو الحرب الخاسرة على الوسادة في نوم مجازي حيث تصبح النزوة المتفتقة في الشيخوخة مطلبا يُرحم من يوقظه ..

* رمزية عقم الأحاسيس وقمع الذات في نص " الشرق " التي استثمرت رواية عبد الرحمن منيف " الآن هنا ..أو شرق المتوسط مرة أخرى " .

وهكذا نخلص إلى أن المبدع يستلهم النتاج الإبداعي العالمي والعربي لبناء رموزه، وبناه السردية مستلهما القيم الإنسانية للتعبيرعن عمق الأحاسيس تجاه ما يختل من الوجود والسلوك البشري، مما يفضي به في نصوص كثيرة لبناء منظومته القيمية بحس إنساني ينم عن صفاء روح صاحبه، ورسالته الإبداعية السامية التي تتخذ من الكائن البشري بؤرة لبناء القيم ونشرها، وإصلاح خللها؛ فهاهو يتملى بالرجاء لتجاوزحرقة الانتظار" نص: " رأس " .ويشتغل على إكسيرالحب المجسد في الوعي فكرا قبل الوجدان. وفي نص" عقم" يرصد الأمل المعشش في عقل الرجل لتجاوز خيباته لأنه يعري عقمه الرمزي الباطني ويفجر الاتهام القائل: " الجنين هنا (أي في الرأس)وليس في أحشائي " ليعبرعن عقم الفكر لينتقد عرينا وكبتنا وتناقضاتنا، ويكشف عن أقنعتنا حيث نتوهم خصب عطائنا ونحن نخب هواء "نايل سات" . ويستلهم في مقام نصي آخر روح قصة يوسف عليه السلام الشاهد على عفته في عالم الخيانة والخطيئة لتعرية الواقع الشبقي لبعض الناس (نص " خيانة "). ويركب في نص" اعذروني" مطية الثورة النصية على أفعال الأمر والممانعة، أو هو انفجارإبداعي في وجه من يصادر حرية التعبيرقيمة إنسانية سامية. وفي نص " الزوجة المسلسلاتية "، يلهج بالصدمة الهادئة في قوله: " الولد معي، سنبحث عمن يرضعنا "، وهو استفزاز نفسي لحس الأنثى الدفين الذي ينتفض، ويغضب عندما يمس في أنوثته عبرأنثى أخرى ؛ الضرة أو الخليلة هي الطواحين التي تؤرق المرأة، أو هي البديل الوجداني الذي يفجر غيرتها . وفي نص " هؤلاء وهؤلاء". يشتغل على مفارقة دلالية رامزة ؛ أناس فاض بهم كأس الترف، وآخرون غرباء مالت بهم المراكب ولما ينزلون إلى الماء للبحث عن رزقهم في زمن اختلت فيه الموازين وأضاعوا الوطن (يبحثون عن المرمى) قبل أن تتيه بهم المراكب فأصبح تيههم داخليا. ونلفي في نص "الكراسي" اشتغالا إبداعيا بمرجعيات فلسفية تحيل على القيم، وتدعو إلى الاستفادة من معاني التاريخ: لا نحس بمفهوم السعادة إلا عندما نقارن حالنا بحال الآخرين. وفي نص" الشجرة" يختزل لنا حكاية الحياة التي ينبغي أن نعيشها لندرك كنهها ونحافظ عليها. وثمة في نص آخر اشتغال جمالي على أحداث آنية يصطرعها المجتمع المغربي في مقاطعة شركات الكهرباء التي تسلخ جلود المواطنين بأسلاك معراة، ودعوة إلى تأمل الذات من جديد وإعادة تركيب ولملمة الكيان المضطرب لترميم ما اختل منه بطاقة أخرى عبر مقابلة دلالية على الشكل التالي:

ـ أطفأت الأنوار وأشعلت شمعي = اضطراب

ـ أطفأت شمعي وأشعلت الأنوار= انفراج الكروب.

وعلى المستوى الأسلوبي يبني الكاتب مفارقات تناصية عبر استثمار معاني شعرية ولغوية وتراكيب إبداعية تراثية لبناء دلالات النصوص، ومن هذه النماذج يمكن أن أذكر ما يلي على سبيل المثال لا الحصر:

ـ التناص بالمفارقة: استلهام معاني الشعر العربي القديم " الحبيب للحبيب غريب" بدلالة معكوسة هي: العدو للعدو أنس (نص: " العدو") يحيل على منتهى العبث واليأس الذي قد تصل إليه بعض العلاقات الإنسانية؛ فكم مرة تنشأ بين الجلاد والضحية علاقة إنسانية حافلة بالمعاني والذكريات، قد تنقلب فيها السواقي والأدوارليصبح الجلاد هوالسجين يقول:" بل ستبقى.. فليس لي عدو عزيزغيرك "، أو يصبح للأسر طعم خاص لا يحس بنشوته إلا من اكتوى بآلامه، وهنا تكمن المفارقة وسر العلاقات الإنسانية في الأسر عندما تتآخى القلوب في المحن. ولعل الأغرب ما في الدلالة هو تملي السجان بعمله ـ رغم مرارته ـ أو جعله من العدو مؤنسا في وحشة ووحدة وفراغ السجن حيث التعلق بأي شيء إنساني للاستئناس.

ـ التناص التهكمي: التهكم بالنحويين الذين يتشدقون بالحالات اللغوية الشاذة ويتخذونها قضايا فكرية كبرى للنقاش الأجوف. وتتجلى رمزية هذه البنية القصصية القصيرة في خلق حوار صامت في نص " أعرب ما تحته فقر" (العنوان دال رامز غامز) بين الفقر والغنى ؛ حيث إدمان الفقير فكرا على الإعراب وحالات شاذة مع مصطلح " لغة من ينتظر" ومعناها في قاعدة الترخيم أن يبقى أخر المرخم بعد الحذف بأحمد = يا أحمـ

وفي نص " البيتزا"، هو نص البطولة اللغوية المتوهمة التي يتناص فيه النص الإبداعي مع بيت الشاعر سُحيم بن وثيل شاعر مخضرم، يُقال انه عاش أربعين عاما في الجاهلية، وستين في الإسلام. وهو القائل:

أنا ابن جلا وطلاّع الثنايا   متى أضع العمامة تعرفوني

لقد استشهد الحجاج بن يوسف الثقفي بالبيت الأول عندما خاطب أهل العراق واعتقد كثير من الناس أنه هو قائله. النص تهكمي اللغة من واقع الحال السياسي والاجتماعي ممن يتوهمون البطولات (أكبر كسكس ـ أكبر بيتزا ..) تهكم بقعقعة الألفاظ ولا طحين .

ولعل بناء الكاتب لرمزية اللفظة الواحدة على مرجعيات متعددة ما يفضي إلى غنى دلالي سياقي يفتح النص القصصي القصير جدا على بعد تأولي ثري؛ الجوهره فيه "معنى المعنى" مما يجعل من اللفظة / الرمز كيانا دلاليا يتجدد بتجدد مستويات التلقي والاهتمام الفكري والثقافي والعلمي، مما يؤزم المعنى ويعطيه كيانا رحبا حياته في النقد والتأويل والقلق الذي يساور قراء القصة القصيرة جدا، وأكتفي في هذا المقام من القلادة ما يحيط بالعنق في المبحث الذي يلي .

 

3 ـ من "مزية" اللفظة والجملة إلى بناء المعنى

كثيرا ما يشتغل الأستاذ ميمون حيرش على اللفظة الواحدة أوالمركبة عبرالعلاقة الإسنادية عنوانا لنص، أومفتاحا له، أولازمة نصية، أو كلمة تتردد بين ثنايا النص الواحد لتشكل محرق النص ـ إن صح التعبيرـ يتجدد بتجدد السياقات والرؤى الإبداعية وبغنى المرجعيات التي يتشبع بها القارئ وقدرته على توصيل التجارب بالمفهوم الشعري عند ياكبسون من خلال مستويات عدة، أكتفي بالنماذج التالي المستنبطة من تحليلي للنصوص:

ـ التمركز حول اللفظة الواحدة أو اللفظتين المتجانستين أو المشتقتين من نفس الجذر لبناء معالم النص مما يسمح بامتلاء نوعي ـ كما في الشعرـ كأن تأتي اللفظة الواحدة صوتا وموسيقى وطباعة وصورة وتمثيلا للمعنى .(نص" الرحيل": أسالك الرحيلا ـ أسوء رحيل ـ العشاق الراحلين) ...

ـ الكلمة التي تختزل كيانا إنسانيا في نص" ثمن الإخلاص " حيث تصبح القيمة الإنسانية السامية سبة وتهمة في قوله:"الإخلاص الإنساني هو تلوث " وهي مفارقة تهكمية تحيل فيها كلمة " تلوث" و" سنمار"على العار والشتيمة حتى أصبحت القيم عملة نادرة قد تتنكر لها النفوس المريضة.

ـ نقل اللفظة من صورتها اللغوية الإشارية إلى بعدها الوجودي "الضل بن ضل" (بكسر الضاد وضمها) في النص القصصي القصير جدا كلمتان مركبتان معناهما المنهمك في الضلال أو مجهول الهوية، أو الداهية الذي لا خير فيه، لكنها تحيل، في النص، على أزمة وجودية ترتبط بالكيان البشري الذي أضاعته النوائب والاختيارات الخاطئة فأصبح نسيا نسيا .

ـ استثمارالرموز التاريخية والأدبية:(كشخصية "السليك") لبناء الدلالة النصية المتوترة التي تحيل على الشاعر العداء في قوله:" انصر أخاك المجرم ظالما ومظلوما" ـ ليعبر عن انهيار القيم حيث يغذي الإجرام نفسه بشتى أنواعه.

ـ أسطرة الحدث: لشدة الفساد الذي يزكم الأنوف نطق الجماد وانتفض ؛ فالبذلة / الشيء أصبحت كائنا يتكلم ويتفاعل مع مفارقات الحياة في إشارة غامزة لمن استطاب لوثة الكراسي، وامتلأت بطنه سحتا على حساب الفقراء والمظلومين حتى تنكرت له ملابسه قولا مباشرا عندما صرحت: " سيدي، لست أهلا لنا ..بطنك المنتفخة لم تعد تسعنا.." (نص: "بذلات "). وفي نص " لعنات": يشتغل على لعنات الغيبوبة، وعلى الإدراك المريض للأشياء والمدركات الحسية، في إشارة فنية لماحة إلى انقلاب نظم الحياة.

ـ بلاغة الحذف أو الإيماض الممتد: كثيرا ما يوظف الكاتب نقط الاكتفاء للتلويح بالمعنى الممتد عبر التأويل والتخيل، أو عندما يعطي للفظة الواحدة أبعادا متجددة في سياقات نصية متعددة يصعب حصرها في هذه الورقة، مما يضفي على نصه إيماضا ممتدا يحيا بالتأويل والمقاربات النقدية اللسانية المختلفة، وهي ميزة جمالية قوية تحضر في أغلب النصوص ففي نص: "بروكست com"، تصبح لفظة " الكلب " بمعناها الاجتماعي القدحي(لابمعناها الحيواني الطبيعي) تقال بطرق متعددة حسب أبعادها في النص: الكلب يجري كالسليك (صفة الصعلوك والعدو) ..ينقض على ضحاياه ..يسلبهم مباشرة ..ينام قرير العين رغم جرائمه ..لا يؤنبه ضميره ..غريزة الافتراس لا تقض مضجعه ..هذا هو الكلب لا يتورع عن إيذاء الناس لأن إجرامه فطري متجدد فيه .. فلا تلوموا كلاب زمننا.

وفي نص " راعيان" يستعيد الكاتب رمزية العدَاء المألوفة بين الذئب والراعي في بعدها الحياتي الواقعي وفي بعدها القصصي الأدبي، وفي نص "ليل" يستمد رمزية الليل للتعبير به عن مطلق الظلام الرمزي الذي يخيم على النهار العربي في قوله: " الليل والنهار، في بلاد العرب، وجهان يبكيان ..هما سيان ؛ لا نور، لاحياة، القهقرى، خيبات الأمل ..".

ـ كنائية الكلمة وبناء الرمز: الكاتب يبني سرديا مفهوما كنائيا للافتراس يقوم على نقل اللفظة من حقلها الإشاري الضيق إلى حقلها الرمزي؛ فكلمة " القلب " في نص " البديل" تحيل على قلب الأسد = القوة = الشجاعة وتحيل على قلب العرين = وسطه. والنتيجة الدلالية الكنائية: العرين = الأسد = الشجاعة = حضور العظام بالعرين = باس وقوة وقدرة على اصطياد الفرائس =حضور العظام في القلب = القلب قاس وشديد

ـ استلهام رمزية التعبير الدارج " أنا سمكته شواني في حريقه" للتعبير عن أثر الجراح في النفس، وحكمة العرافة التي قد تنطق بالحكمة وإن لا تتحقق رؤياها .

ـ المفارقة اللغوية والدلالية: يقول في نص" على الباب":" ينام ملء جفونه رغم همومه لأنه المتعود دائما على الطرق في داخله، وهكذا تصبح معمارية النص حكمية متفائلة لتجاوز ما استعصى من الحياة مادامت الأيادي والصدور تفتح لها بالأحضان.

ـ فضح التعبيرالإعلامي المقنع: في نص" الخبر اليقين " حكاية من يأتيك بالأخبار من أهل "الجزيرة" حيث يصبح الإرهاب سيد الإعلام، أو هو وسام ونياشين من يتشدق بالكلام والإجرام ملء فمه وقلبه، الخبر اليقين هو الخبر القطعي الذي له تفسير واحد .

ـ الإيهام بالتقريرية عن طريق الوصف المشهدي خاصة في بناء العلاقات اللغوية المألوفة "السماء فوق والأرض تحت " وهي جملة تقريرية بسيطة قد ترمز سينمائيا إلى الفراغ وضياع الأمل ورحابة الفضاء، لكن الجملة تتخذ بعدها العميق من سياقها النص الذي يحيل على يوم حار، قائظ حيث الآهات البشرية الحرى التي تعلي من شأن أصواتها لعلها تقاوم حرارة الطبيعة زمن شهر " ناجر" وهو شهر صفر في الجاهلية تكون فيه الحرارة حارقة تصيب النفس بالقنوط وتهددها بالبوار، قال ذو الرمة:

صدى آجن يزوي له المرء وجهه ** إذا ذاقه ظمآن في شهر ناجر.

ـ التوليد الذاتي للدلالة: الاشتغال على مؤشرات نصية داخلية لخلق الحدث/ المحرق الذي يتوج الدلالة ويحسم الموقف النفسي والاجتماعي والثقافي (في نص " عيد ميلاد ") الزوجة تطلب هدية في عيد ميلادها المعطل لسنوات، أن يقوم الزوج بأعباء البيت ليوم واحد فقط . وهكذا يصبح لعيد الميلاد في الثقافة العربية بعدٌ آخر لا يرتبط بتقاليد مسيحية حيث الصلوات والاحتفالات الاجتماعية وتبادل الهدايا ..وما يرتبط به من تقاليد وطقوس، وإنما عيد الميلاد هو احتفال الاعتراف المستمر بتضحية الزوجة ؛ عيد الميلاد ليس مسرحية تعرض ليوم واحد وإنما هي عطاء متجدد في الثقافة العربية، أو ما ينبغي أن يكون حسب رؤية المبدع ميمون حيرش.

 

4 ـ تركيب وتقويم

خلاصة القول يمكن أن أقول إن سلطة النص الإبداعي في عمل " نجي ليلتي" تفرض نفسها كيانا لغويا وجماليا غنيا بالمرجعيات اللغوية الأصيلة عبر فعل المثاقفة مع الشعر والسرد والحكاية والخبر والمقال الصحفي والحكاية الشعبية والحادثة العابرة وغيرها من التقاطعات النصية الأدبية وغير الأدبية، مما يجعل من هذا العمل علامة إبداعية مائزة في القصة القصيرة جدا، ولبنة طيبة تنضاف لما أنتجه المبدعون المغاربة والعرب؛ نصوصا تؤسس لمفهوم النوع الأدبي، وتعضد كيانه الأجناسي جماليا ودلاليا، لأن اللغة السردية عند الكاتب هي مستودع المعاني العميقة في مختلف أبعادها الاجتماعية والنفسية والثقافية والحضارية، وهي بدلالاتها النصية انتفاضة ضد القلق والغضب والألم والممانعة والتخلف والضعف والحمية العربية والأقنعة والتفرقة والخيانة والتطرف والخذلان والظلم والبطالة والفراغ الروحي وغيرها من المعاني والقيم والمرجعيات الثقافية التي تحفل بها أضمومته . مما جعل نصوصه تنضح بأصالة معجمية معتقة: جمح، عتق، تناغيه، غور، نجد، الأيكة، حولق، مدلهم، سمطهم، خدرها، اللجوجات، إلف، حشاشة، بلغ من الكبر عتيا..

ولعل اشتغاله على الوصف المشهدي اللماح في أبعاده الثقافية والاجتماعية الواقعية والرامزة، وتفجيره لنصوص تراثية عبر أشكال سردية غنية بالجمل اللاهثة القصيرة، والتصوير المشهدي الذي يولي اهتماما للقطة اللماحة (" قتيل، قتيلان، أكثر، أكثر..) وتناسل الدلالات وعمق رمزيتها ما أضفى على بناء بعض نصوصه سمة الإلغاز الفني التي توهمك بتعطيل الدلالة وبالاستغلاق إلا غرضها جمالي قوي غرضه لتهييج فعل التلقي وإعطاء النص بعدا تأويليا يحيا بالتأويل، وهي إحدى مكامن قوة القصة القصة القصيرة جدا .

ومما يؤجج فكر القارئ ويحدث له قلقا فكريا هو نهايات ـ بعض النصوص ـ المحيرة أوالصادمة أو الملغزة، وتكسيرها لأفق التلقي، بل وقلق أسئلتها الثقافية، وإجاباتها المؤجلة التي تحبس الأنفاس، لذلك جاءت بعض النهايات مفتوحة على دلالات وصور غنية منها: الصور الصادمة (نص الزوجة المسلسلاتية) والصور الحالمة المعبرة عن الخيبات (نص " داخل قلبي")، والصورالمُرة (نص: اللقب ") والصور المعبرة عن الأنوثة اللجوجة التي تسلهم الحكمة من الصمت القاتل لبنات جنسها (نص " الدرس الأول") والصورة السياسية الغامزة (نص:" الكراسي") والصورة الكاشفة عن المسكوت عنه اجتماعيا (نص " فوق تحت ")، والصورة المأساة (نص" القرار")، والصورة الخذلان (نص " مقبرة ") والصورة القدر(نص " الصغير في عالم الكبار" ..إلى غير ذلك من النهايات التي تقفل النص سرديا لتفتح باب التلقي الثقافي على مصراعيه .

ومما أضفى على نصوصه فعل المثاقفة البناءة هو اشتغاله المبدع على العمق السياسي والاجتماعي والثقافي عبر الومضة القصصية أو القَرص اللغوي، واستلهامه للمرجعيات الأدبية والسينمائية عبر فعل التناص، والدخول معها في حوار رامز لماح لبناء دلالة جديدة تروم خلق مفارقات قصصية زادها التمويه الفني في دعوة مبطنة إلى التواصل الثقافي والفكري، وتلقي النص الإبداعي شرحا وتأويلا وتخييلا لإغناء آليات اشتغاله السردية للتأسيس لفن القصة القصيرة جدا كيانا أجناسيا له مقوماته الفنية المؤسسة من داخل النص، وهو العمل الذي قام به الأستاذ ميمون حرش عندما قدم لنا نصوصا ماتعة لها كيانها الفني وشخصيتها السردية المائزة .

 

قدمت هذه المداخلة في الملتقى العربي للقصة القصيرة جدا بمدينة الناظور أيام 16-17- 18-19، مارس 2016 .. (جمعية حسور للبحث في الثقافة والفنون بالناظور)

 

د. محمد ابن عياد - ناقد وباحث من المغرب

.................................

الهوامش:

ـ " نجي ليلتي"، ط: 1منشورات المهرجان العربي الثاني للقصة القصية جدا، رقم: 3ـ الناظور ـ 2013 .

 ـ "المزية" مصطلح أصيل استعمله عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز ويدل في الدراسات الشعرية الحديثة على (الشعرية poetics أو علم الأدب)

 ـ انظر: فردريك هيكل: علم الجمال وفلسفة الفن، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، ط1، مكتبة دار الكلمة، القاهرة، 2010، ص: 107

 4ـ انظر: اللغة بين الدلالة والتضليل، د. كيان أحمد حازم يحي، ترجمة مراجعة نقدية للفيلسوف البريطاني برتراند رسل، ط 1: دار الكتاب الجديد المتحدة 2015، (مبحث " معنى المعنىفي آثار الدارسي /، ص: 385 وما بعدها)

 ـ "المزية" مصطلح أصيل استعمله عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز ويدل في الدراسات الشعرية الحديثة على (الشعرية poetics أو علم الأدب)

ـ انظر: " الكلام السامي، نظرية في الشعرية، جان كوهن (ترجمة وتقديم وتعليق د.محمد الولي) ط: 1 دار الكتاب الجديد المتحدة 2013، ص: 162، بتصرف .

 

في المثقف اليوم