أقلام حرة

سلوكيات أفسدت على رمضان روحانيته وفلسفته!!

hamid taoulostفكرة الصيام الذي عرف في اللغة بأنه الإمساك عن الشيء، أكلاً كان أو شرباً أو أي شهوة أخرى، أو كلاماً، أو عملا سيئا، والذي يعرف في الاصطلاح بأنه الامتناع عن الأكل والشرب وكل ما يعد من المفطرات لمدة معينة، فكرة كانت راسخة في عقيدة البشرية جميعاء قبل أن تفرق إلي أمم وشعوب وديانات لقول الله تعالى في كتابة العزيز: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" سورة البقرة أية 183، حيث كان الصيام رسالة روحية اعتقادية منطلقها جسد المؤمن وروحه، يقوم بها الناس من جميع الديانات - سماوية ربانية أو خرافية أو كهنوتية أو ذاتية وربما حتى وثنية - لتدريب الإرادة والنفس والجسد، على الانتصار على الذات في ضعفها وانحرافها، وبلوغ حرية العقل والقلب، كما هو حال بعض البوذيين الذين يعتبرون أن الصيام وسيلة لتطهير الذات الإنسانية وأداة ناجحة لتحرير العقل الإنساني من الأوهام، حيث يصوم بوذيي منطقة التبت، في سياق التمارين الروحية الخاصة برياضة اليوغا، يعتقد الإغريقيون بأن الإله يلهم النبوءات الشافية في الرؤى والأحلام لمن صام بإخلاص، وقد عرف المصريون القدماء الصوم كفريضة دينية تقربوا من خلالها إلى أرواح الأموات، أما بالنسبة للديانات التوحيدية الثلاث،اليهودية، والمسيحية والإسلام، فقد أكدت جميعها على حتمية الصيام خلال فترات معينة من العام، وإن اختلف مفهوم الصوم ودلالته في كل منها، حيث أنه عند المسلمين هو الإمساك عن الطعام والشراب وشهوة الفرج وشهوة اللسان من طلوع الفجر إلي غروب الشمس مع النية، وهو عند اليهود تعبير عن الندم والتوبة، ورمز للحداد والحزن أو إحياء لذكرى نكبة أو كارثة، وهو أياماً متفرقة على مدار السنة تعتبر قومية بالنسبة لهم، أهمها “يوم الغفران” وأيام أخرى مرتبطة بما يسمى بـ”أحزان بني إسرائيل”. يمتنعون خلالها عن الشراب والطعام والجماع، كما يمتنعون عن ارتداء الأحذية الجلدية لمدة خمسة وعشرين ساعة، أما الصوم عند المسيحين والذي لم يأمر به الكتاب المقدس، ولكن قدمه كشيء جيد، ونافع لتدريب الإنسان على التحكم بأهوائه، ويكون بالإمتناع عن أكل لحوم الحيوان أو ما ينتج منه كالألبان ومشتقاتها ويقتصر على أكل البقول ..

إني هنا لست بصدد العرض الفقهي لفريضة الصيام، فتلك مهمة الفقهاء المتخصصين، ولا بصدد العرض اللغوي لمعاني الصيام، لأنها تكاد تكون معروفة لغويا، ولا بصدد العرض الفسيولوجي للصيام، والذي لا يفهم فيه ولا يجيده إلا المتخصصون في  التغذية العلاجية، كما أني لست بصدد أن تكون مقالتي هذه تأريخا للصيام عبر الأزمان، بقدر ما أردت أن تكون استعارة لماض الصيام للحديث عن حاضره المرتبط بهستيريا الفوضى العارمة التي تصيب الناس مع حلوله كل عام، حيث لا صبر إلا على الامتناع عن الطعام والشراب نهارا، كمغزا من الصيام، بدلا من التقوى التي هي ثمرته، بما يؤكد أنه قد أضاع كل رحانيته ومعانيه النبيلة وأخلاقه العظيمة، وتحول من شهر للمحبة والتواد، والتراحم، والتقارب المجتمعي والصبر والهدوء النفسي والاجتماعي،  إلى شهر لا يمتلك شيئا من فضائل الصيام ونفحاته الروحية ولا من روؤاه الفلسفية، شهر استهلاكي بحت، لا رحمة ولا مغفرة فيه، ولا تسامح ولا محبة، شهر تجتاحه العصبية والمزاجية والتقاعس عن العمل والتخلي عن القيام بالواجب وقلة الصبر إلى درجة الغضب العارم الذي يخلف وراءه أثاراً سلبية وتداعيات خطيرة على صاحبه وعلى الأشخاص المحيطين به،

ملخص القول أن رمضان غدا عند الغالبية العظمى موسما كبيرا لنفاق الخالق والخلائق، ومهرجانا لذائذ الأطعمة والمأكولات، ومباراة في التبذير والإسراف، وغيرها من السلوكات الشائنة التي تذكيها المحطات الفضائية الإعلامية ببرامجها الهابطة ومسلسلاتها الفارغة وإعلاناتها الكاذبة المخربة لكل الأخلاق والأعراف الاجتماعية التي كانت في من سمات رمضاناتنا السابقة، والتي لازال أتباع  بعض الديانات الأخرى يتحلون بها خلال صيامهم في الكثير من المناطق العربية، مثل الأردن ومصر حيث يحضر صوم المسيحيين بقوة، وحيث تبقى الملاحظة المهمة هي إنه  حين يصوم المسيحيون '' النصارى''  40 يوما،  فأنهم يقمون بفريضة الصيام، كما يقومون بغيرها من الفرائض، دونما ضجيج ولارياء ولا اجراءات خاصة، ودون أن يغييروا في توقيت أعمالهم أو يستبدلوا الليل بالنهار، ودون أن تكتسي تصرفاتهم مظاهر الهيستيريا والفوضى، يقبلون على اعمالهم خلال صومهم وهم مسرورون متزنون امتثالا لتعاليم كتابهم المقدس "الإنجيل" الذي تحثهم على ذلك كما وردت في: انجيل متى الأية ‍16 الاصحاح السادس: ''ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرآئين، فانهم يغيرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين . الحق اقول لكم : انهم قد استوفوا اجرهم '' .

وكما حذر المسيح في الموعظة على الجبل من الصوم الافتخاري والتظاهر بالصوم، وبيَّن أن الصوم الأكثر قبولاً لديه هو الذي لا يعلم به إلا الله والصائم (متى 6:16-18).

فمتى نصوم لله وليس للبشر، ورمضانكم" كريم، وكل رمضان وأنتم جميعًا بخير.

 

حميد طولست

 

في المثقف اليوم