أقلام حرة

نبيل أحمد الأمير: إن لم تَسْتَطِع قول الحق فلا تُصَفِّقْ للباطل

nabil ahmadalamirمقولة إستهوتني كثيراً ومن ضمن كثير من الأقوال والأحاديث للأنبياء والأئمة والعظماء، والتي أسجلها دائماً في مفكرتي لأستفيد من الحكمة والتجربة التي تدل عليها . .

وكنت أنوي أن أجعلها عنوان لإحدى مقالاتي، لكني لم أجد موضوعاً يصلح ليكون مقالاً لهذا العنوان .

واليوم بعد أن أدركت أن الوطن أصبح قاب قوسين من حافة الهاوية، بسبب الجهل والمراهقة السياسية التي تصرّف بها سياسيوا الصدفة الذين إبتلانا بهم الإحتلال البغيض، وإصرار البعض منهم على قلب الباطل وجعله حق، وإصرار البعض الآخر على قلب الحق ليكون باطلاً، وجدت أن من المناسب إستعمال هذه المقولة علّها تكون مدخلاً لما اُريد فيه إصلاح هذه الأمّة .

بعد أن أصبحنا نعيش اليوم زمن الحق الذي ضاع في بلدٍ ضاعت فيه كل القيم والمبادئ التي تربت عليها الأجيال وعرفناها وألفناها منذ نعومة أظفارنا، بسبب الإنتهازيين الذين دخلوا وغيروا مفاهيمنا ومبادئنا .

الحق الذي ضاع بين هذا وذاك، وصار الشعب الغلبان ورقة مساومة يتساومون عليها وكأنه بند في إتفاقية لا قيمة له، قررت أخيراً إستعمال المقولة، بعد أن إستذكرت موقف أحد السياسيين في الزمن القريب، الذي كنت أعتبر وجوده كمالياً لاضرورة له، بل لاأخفيكم سراً أني كنت أعتبره عالة على الدولة العراقية، لأن وجوده فخري كما نص عليه الدستور .

فمنذ سقوط نظام الطاغية ودخول قوات الاحتلال، رُسِمتْ خارطة طريق للعراق، بناءاً على تقسيمات وضعها المحتل للفرق السياسية لتعيش بأزمات وخصومات دائمة مع بعضها، فهي لاتتفق على شيئ إلاّ وتختلف عليه، وهذه سياسة الصهيونية العالمية للسيطرة على الشعوب والمقدّرات .

كما أن جميع ذيول الزعامات منقسمون متلاطمون وبتطرّف بين هذا الطرف أو ذاك، ولم أصادف فيهم أحداً ينتهج الوسطية والإعتدال (إلاّ من رَحِمَ ربي منهم) حتى لو إدّعى أنها منهجه .

وليس غريباً سماع أصوات النشاز من هنا او هناك لأن من أسوَءْ مساوئ الديمقراطية أنك تضطر في أحيان كثيرة لسماع أصوات الحمقى التي لاتُغني من جوع ولاتُسْمِنْ من شبع .

وليس بالغريب أن كثرة الأزمات كشفت مدى سطحية بعض القيادات وتفاهة وهشاشة بعض التحالفات التي بُنيت على تقاسم الغنيمة بعيداً عن المصلحة العامة .

وصحيح أن السياسة هي فن الممكن وإنتهاز الفرص لكنها أيضاً الوسيلة الشريفة (غالباً) لتحقيق أحلام الفقراء وإنتهاز الفرص لنشر القيم والمبادئ، لكننا نجدها بالعراق قد إبتعدت عن أي خُلق أو مبدئ، فالغاية فيها تبرر الوسيلة حتى لو كانت الوسيلة لاتندرج ضمن سياقات الشرف والمبادئ .

وتحضرني مقولة لأحد أبناء الصحابة ذكرها في موقف عندما سألوه:

لماذا أنت تقف في الوسط ولاتأخذ موقف من الخصومة التي بين أبيك وعلي بن أبي طالب وأيّهُمْ أحق بالخلافة . .

فقال لهم رغم أن خليفة رسول الله الآن هو أبي، لكني أرى أن كل واحدٍ منهم يلزمه أمام الله والناس إجتهاده بالبحث عن الحق والحقيقة والنوايا يعرفها الله .

فأنا لايعنيني موقف أيٍ من الفرق المتخاصمة اليوم، لأني مؤمن أن كل منهم يرى نفسه صاحب الحق وأن إجتهاده هو الصواب، رغم أن الله وحده يعلم نيّة كلٍ منهم، وكلمة لايعنيني لاتعني أن ليس لي موقف مما يجري لكن في أحسن الأحوال يمكن أن يَحسبني هذا الطرف أو ذاك متفرّج مثقف (فقط) دون الحاجة لثقافته وعلمه .

ولم أتفاجئ اليوم حين لا أجد أن من بين الموجودين من يمكن أن يتعامل مع الأزمة بوسطية وإعتدال وحكمة ممزوجة بشجاعة الخبرة والتجربة، لأن الجميع يفتقدها، ولأننا حقاً بحاجة لوسطية وإعتدال وحكمة من نوع جديد ليست موجودة فيهم، لنوع من الإيجابية لم نعهدها بالعراق على أقل التقديرات .

لقد أوحت لنا هذه الأزمات أن من أهم بنود الشراكة التي يجب الإلتفات لها والإلتزام بها هي القدرة على إحترام التعايش المتبادل بين الفرقاء او الفرقاء والخصوم .

إن تيار الإعتدال الجديد المنشود والذي يسبح ضد التيارات المتطرفة والمتلاطمة في البحر الهائج، تيار يتصف بالحكمة والوسطية بين سياسيين كان أصل واجبهم هو صنع الحياة الجديدة بالوطن القديم الجديد، لأن وكما هو معروف (عند الأسوياء)، الإختلاف بالرأي لايجب أن يفسد للودّ قضية، ولا يجب ان يتحوّل الوطن بسبب الخلاف الى حلبة صراع دامي بين خصوم تعاهدوا على خدمة شعبهم.

ولا أظن أن أحد الزعماء السياسيين (كما يحلو للبعض تسميتهم) قد مرَّ بإمتحان مثل إمتحان أزمة الوطن اليوم، فأنا أرقب عموم الحالة (كمراقب سياسي) وأرى الموقف الصعب الذي لايُحسد عليه أحد، فبإشارة أو إيحاء من هذا الطرف او ذاك سيدخل العراق في هاوية لاقرار لها وحربٍ لامعنى لها .

ورغم كل تحفظاتي على السياسيين الجدد والعمل الحكومي والسياسي العام بالعراق، لكني أجزم أن مواقف سياسيّ اليوم تفتقد عمومها للوسطية والإعتدال في التعاملات بل كانت ولا زالت في أغلبها تفتقر للدبلوماسية والحكمة .

ولم نرى لليوم موقفاً رائعاً من أحدهم تعامل به مع الأشقّاء المتحاربين، ليكون وسطاً يَنصر الوطن فيه عليهم، حيث أبعد الجميع نفسه عن الحيادية، بل شارك الجميع بالإنفعال والغضب وأطالة عمر الأزمات، لذلك لم تهدأ النفوس ولو بشكل نسبي .

وكان الواجب ان يكون شعار المتخاصمين (التسامح قبل التصالح) خدمة للوطن والشعب ولتفكيك وحلحلة الأزمة، ويجب ان يكون هناك تيار وخط وطريق جديد ننتمي إليه ونسير به لإحتواء الهستيريا التي أُصيب بها الجميع .

ونرى أن العقل والمنطق والواجب يوجب علينا البدأ ببناء ودعم الفرق الوسطية، وتشجيع الكوادر السياسية والمثقفين المستقلين، والإنخراط فيها، مع الحفاظ على الهوية الوطنية، والإنتماء القومي والمذهبي والفكري، هذا إذا كنا نريد بناء الوطن والدولة والحكومة والمؤسسات الحقيقة .

قال غاندي زعيم الأمة الهندية:

إعمل، فسيتهزؤا بك، فإستمر إعمل بإخلاص فسينتقدوك، فإستمر إعمل بإخلاص، فسيحاربوك، فاستمر إعمل بإخلاص الى أن يؤمنوا بك .

لذلك أرى أنه يجب ان يكون مشروعنا المستقبلي لبناء الوطن هو الوسطية والإعتدال، والتنمية بصنوفها، والاخلاق، وسد الثغرات في الجبهات، وبناء المجتمع ومساعدة الناس .

ولنؤمن إًذا إن لم نستطع قول الحق في موقفٍ ما ولسببٍ ما، فليس علينا مجاملة الباطل والتصفيق له على أقل التقديرات .

وإذا كنا نريدها ديمقراطية فلنتعايش مع بعض، وليسمع كلٍ منا رأي الآخر ولنتشارك بالوطن، وإلاّ سندفع الوطن ثمن لرعونة غير مفهومة وبلا قيمة !!!

والله من وراء القص

 

في المثقف اليوم