أقلام حرة

نبيل أحمد الأمير: بين النخبة والغفلة

nabil ahmadalamirلا ندري إن كان من حسن حظ المجتمع العربي أو من سوء طالعنا أن يكون مصيرنا بيد نخبة من البشر تسلّطوا وتسيّدوا علينا وارتقوا فوق رؤوسنا في غفلة من الزمن حتى صاروا فوق القوانين والشرائع وفوق الدساتير والأعراف، فإن نجحوا صفّقنا لهم وأسبغنا عليهم من النعوت والألقاب ما لم يَنَلها الأكاسرة والأباطرة، وإن فَشِلوا إلتمسنا لهم الأعذار وألقينا باللائمة على أنفسنا وعلى الظروف، وهم في حقيقتهم كالكوبرا البنجابية التي تلسع الإنسان سواء نادها كوبرا أو السيدة كوبرا .

لقد تعددت علينا النخب الفوقية المتعالية، نخبة عسكرية مخيفة بقوة الغستابو، ونخبة أميرية متبطرة تجاوزت صلاحياتها صلاحيات إمبراطور الحبشة ونخبة حزبية لا تعطي أية قيمة لقواعدها التنظيمية وللأحزاب الاخرى ونخبة متدينة بيدها صكوك الغفران والرحمة لدخول الجنة، ونخبة انتهازية تتخذ من الظروف الطارئة مطية لتحقيق المكاسب الفورية، ونخبة عشائرية آمنت بشعار:

(انصر أخاك ظالما أو مظلوما)، ونخبة نقابية تتاجر بمواقفها المتذبذبة في الأجواء الفوضوية، ونخبة تفننت في تعاطي الرشا، ونخبة أتقنت الحرمنة، ونخبة احترفت اللصوصية، ونخبة امتهنت التحريض والثرثرة، ونخبة استغلت نفوذها النخبوي وصادرت حقوق الناس ومالت في توجهاتها الطبقية نحو  ترويج المحسوبية والمنسوبية بعيدا عن الاستحقاقات المهنية والأكاديمية .

وجميعها نُخبٌ تتظاهر بالفضيلة وتتصنّع الإيمان، وتتشدق بالمواقف الوطنية الخارقة، وتتحذلق بالذكاء السطحي، هم وحدهم أهل الحل والعقد، وهم النجوم الملتصقة في فضاءاتنا الرمادية، بيدهم الأمر والنهي ولهم الحرية المطلقة في التلاعب بمصيرنا كيفما يشاؤون .

فرضوا على الناس السمع والطاعة وأرغموهم على النزول عند رغبات النخبة التي بيدها القرار، والويل كل الويل لمن يتسبب بإزعاجهم أو يعكر مزاجهم أو يتطاول عليهم او يخرج عن مسارهم ونهجهم .

ومن المفارقات العجيبة إن هذه النخب تعد نفسها أذكى وأرقى وأشرف وأكثر وطنية وأكفأ من بقية أفراد المجتمع، وإن ذكائها (الاستعلائي) هذا هو الذي أعطاها الحق في القيام بما يحلو لها من ممارسات بيروقراطية بعيدة عن أي مفهوم للديمقراطية، ففرضت آرائها الفوقية على المجتمع وكرست أنشطتها لخدمة مصالحها الربحية والأنانية الشخصية والحزبية الضيقة حتى قطعت الطريق بوجه أصحاب الكفاءات الحقيقية للمشاركة في بناء الوطن وتثقيف المجتمع .

فأينما تولد النخبة يولد معها الشعور البيزنطي بالرجاحة العقلية واللباقة السياسية، وتولد معها قرارات تهميش الآخرين وإقصائهم، فيكون البؤس والفقر والحرمان والشقاء هو الناتج العرضي الأكيد لتصرفات هذه النخبة المغرورة المتعالية .

والمصيبة الكبرى هي عندما ينتمي أحد نجوم (الغفلة) إلى أكثر من نخبة ويمسك بباقة كبيرة من خصال الرقي والتفوق الطغياني، كأن يكون من النخبة الحزبية والنخبة الإيمانية والنخبة المثقفة والنخبة العشائرية وفوق هذا كله يكون ضمن تشكيلات النخبة الحاكمة، فترى مثل هذا النجم النخبوي الفريد يتبوأ في مجتمعنا العربي أكثر من منصب (وزاري، أو إداري، أو قيادي، أو جهادي)، فتراه في مرحلة من المراحل وزيرا للزراعة ثم يصبح وزيرا للنفط ثم يقفز ليكون وزيرا للسياحة ثم يغير اتجاهه فيصبح وزيرا للعدل او وزيراً للنقل او الإتصالات او المالية والدفاع او لحقوق المرأة في تناقضات تخصصية لا يقبلها المنطق العلمي ولا السياسي وربما يختتم حياته سفيرا فوق العادة وبدرجة وزير في البلدان المعتدلة المناخ حتى يرتاح هو وعائلته الكريمة .

لقد اشتركت البلدان العربية كلها بظاهرة وزراء النخبة، وسفراء النخبة، ومدراء النخبة، وكأنما ولدتهم أمهاتهم وزراء وسفراء .

اما في العراق فإن ظاهرة التكرار الوزاري لنجوم النخبة تندرج تحت عنوان (واجب التكليف الشرعي)، الذي لا نريد التطرق إليه لا من بعيد ولا من قريب لأسباب تدخل في خصوصيات الإيمان والدين والمذهب (وأحنا مو ناقصين تُهَمْ).

واستكمالا لحديثنا عن النخب العليا، لابد من الإشارة إلى النخبة الدعائية المشفرة التي تسعى دائما نحو إنتاج قيم الاستعباد المتناغمة مع توجهات النخبة الحاكمة في محاولة لتدجين الناس وتحويلهم إلى مادة جاهزة لتمجيد الأشخاص وإعلان الرضوخ والإذعان لبرامج الابتزاز التي تمارسها نخب الاباطرة المتبطرة .

ان التخلف المرحلي الذي يعيشه العرب عموماً والعراقيون خصوصاً، بما فيه التخلف الصناعي والاجتماعي والثقافي والديمقراطي والتشريعي ما هو إلا نتيجة واقعية لممارسات هذه النخب المتسلطة على رقاب الناس خصوصاً بعد أن عدّت نفسها أذكى وأرفع وأكفأ وأشرف وأطول وأجمل وأسمح والى آخره من صفات الكمال الإلهية من جميع أفراد المجتمع، بل يصل الأمر أن ينظر البعض منهم لأفراد المجتمع نظرة دونية حقيرة .

نتمنى أن يعي الناس هذه الحقيقة لأن لم يعد بمقدورهم تحمل المزيد من الفساد المبرمج، وبعد أن أيقنوا إن المسؤولية الكاملة في التغيير تقع على عاتقهم، إن عاجلا أو آجلا من أجل تحقيق العيش الكريم في مجتمع متوازن لا مكان فيه للنخب الفوقية المغرورة، بمجتمع يعيش فيه الناس سواسية كأسنان المشط .

وأصبح أمامنا اليوم خياران لا ثالث لهما:

فأما أن نقبل الظروف البائسة كما هي، أو أن نتحمل مسؤولية تغييرها، ورحم الله (مالكولم مكريدج) عندما قال :

(تذكروا دائما إن الأسماك الميتة وحدها تسبح مع التيار). . .

والعاقل يفتهم !!!

والله من وراء القصد .

 

في المثقف اليوم